سورية جزيرة الحرية الخضراء

 

 

الفريق عفيف البزري


 

إن فترة الخمسينات من هذا القرن كانت تلك التي برزت فيها كل الظروف لانهيار الاستعمار القديم في الوطن العربي، في الوقت الذي اشتدت فيه هجمة الاستعمار الجديد بزعامة الولايات المتحدة الأميركية على هذا الوطن تحت الشعار المشهور: "ملء الفراغ" الذي خلّفه المستعمرون القدماء بجلائهم عنه. ونحن هنا نستعرض أخبار أحداث تلك الفترة في سورية، الأحداث التي شاركنا فيها أو شاهدناها عن كثب.

                                                   

الفريق عفيف البزري


الفصل الأول

الاستعمار الجديد

 

ظروف نشوء الإمبراطورية الأميركية

 

إن النظام الرأسمالي، الذي هو موضع كره شعوب الأرض قاطبة بدءاً من جماهير أممه، مرّ بعدد من المراحل في أثناء مسيرته في قهر البشر. ففي مرحلة ما قبل الاحتكار، عندما كان التنافس الحر سائداً بين العديد من الرأسماليين أصحاب المشاريع المستقلة، الصغيرة والمتوسطة التي يملكها فرد واحد أو عائلة واحدة، في مجتمعات غربي أوروبا، لا سيما منها المجتمعين الإنجليزي والفرنسي، كانت الأزمات لا تنقطع في هذه المجتمعات فتقوم فيها لذلك الاضطرابات الداخلية وتندلع الحروب فيما بينها. فالتقدم في وسائل الإنتاج، والتقدم في التجارب الإنسانية، والتقدم الفكري الإنساني، نقول باختصار: إن التقدم أظهر بجلاء منذ زمن بعيد أن تعاون الإنسان وتكامله وتكافله أجدى عليه من الناحية العملية، وليس فقط من الناحية الأخلاقية المثالية، من التنافس والتعارض واستعباد بعضه بعضاً. إلا أنه كانت دوماً تأتي أقلية من الناس المتحكمين لتجهض الاتجاه الإنساني الصحيح وتستبدله بآخر يستجيب لمصالحها الأنانية. فالتنافس الرأسمالي الحر، الذي أدت أزماته مثلاً إلى كل الثورات والحروب الاستعمارية المعروفة في أوروبا والعالم، أدى في النهاية إلى قناعة الناس بوجوب القضاء عليه كنظام عام مفلس واستبداله بنظام ينتزع التحكم بعملية الإنتاج الاجتماعي من أيدي الأفراد المتنافسين المتناحرين وإعادة هذه العملية إلى أشكالها الطبيعية التي يسود فيها التعاون والتكامل والتكافل في كل مجتمع وفيما بين المجتمعات الإنسانية. ودعا الاشتراكيون الطوباويون إلى نبذ الفردية في التعايش والإنتاج والسعي إلى ما يحقق المجتمع الأفضل. ثم قام الاشتراكيون العلميون ببناء عقيدة يقوم جوهرها على العمل على تنظيم الإنتاج اجتماعياً ومنع التأثيرات الفردية الأنانية فيه، وذلك بالعمل على تحقيق التعاون والتكامل والتكافل في الحياة الاجتماعية، أي بالعمل على تحقيق النظام الاشتراكي. إلا أن نظام التنافس الحرّ للرأسمالية المفلس، بدلاً من استبداله بالنظام الاشتراكي الذي كان يجب أن يتسع ويعمّ جملة المجتمعات الإنسانية، استبدل بنظام شركات الاحتكاريين، بالنظام الرأسمالي الاحتكاري العالمي الذي تم فيه اقتسام العالم بين الإمبراطوريات الاستعمارية وعلى رأسها إمبراطوريتا إنجلترة وفرانسة. وبقي التنافس بطبيعة الحال قائماً على أشده بين احتكاريين رأسماليين في هذه المرحلة وليس بين رأسماليين صغار ومتوسطين. فتفاقمت أزمات النظام العالمي الرأسمالي وانتهت بالجملة الإنسانية إلى الحرب العالمية الأولى، لأن المصالح موضوع التنافس تصاعدت واتسعت لتصبح عالمية ولم تقف عند حدود المصالح الصغيرة نسبياً لأيام التنافس الحر التي كان يمكن حصر حروبها في قارة واحدة. وبنتيجة هذه الحرب انتهت السيادة العالمية المطلقة للنظام الرأسمالي الاحتكاري، وقام النظام الاشتراكي في منطقة روسيا القيصرية التي تشمل سدس اليابسة، وابتدأت مرحلة الانتقال العالمي إلى الطور الأعلى، طور الاشتراكية المنتصرة عالمياً،المرحلة التي أخذتها، خطأً وجهلاً وانتهازاً، البيروقراطية الاشتراكية الوثنية على أنها طور الاشتراكية وقادت بالتالي معسكرها على هذا الأساس إلى الخراب تحت عنوان "تجديد البناء".

وفي أثناء نشوء الرأسمالية الاحتكارية العالمية في الثلث الأخير من القرن الماضي، عندما بلغ التناحر أقصاه بين الاحتكاريين للحصول على اكبر ما يمكن من الغنائم في عملية اقتسام الكرة الأرضية التي كانت دائرة حينذاك، قامت الصهيونية المعاصرة كإحدى ظواهر الرأسمالية في مرحلتها الاحتكارية. فالقسم الآسيوي من الوطن العربي، بلبنه وعسله، هو أزلياً موضع أطماع الصليبيات بأشكالها وأسمائها المختلفة. وقد التقت هذه الأطماع مع أطماع أوساط المرابين اليهود من آل روتشيلد والساسون والمونتفيوري وغيرهم الذين تفاقم دورهم في عالم الرأسمالية عندما امتزج رأس المال النقدي برأس المال الصناعي بقيام النظام الاحتكاري. وكصدى لتلك الأطماع جميعاً، أطماع الصهيونية الرأسمالية المسيحية وأطماع الصهيونية اليهودية، تولّد مشروع جمع الخزر المتهودين وسوقهم إلى فلسطين لجعلها قاعدة استعمارية لكل من يدفع اكثر من المستعمرين المتنافسين في منطقة احتياطي النفط العالمي وعلى طريق الثروات الأسطورية في المحيط الهندي والشرق الأقصى. وقد صمم هذا المشروع الأفّاق الخزري المتهود "ثيودور هرتزل" الذي رأى الاستفادة من أوضاع أولئك الخزر المتهودين الذين كان ينزل بهم الاضطهاد في روسيا القيصرية فيسوقهم إلى سوق النخاسة الرأسمالية حيث يعرضهم كمرتزقة لأية دولة استعمارية ترغب في الاستفادة من خدماتهم لإقامة قاعدة لها على طرق الغزو والاستعمار، لا سيما على أرض فلسطين بإحياء تلك الأسطورة الكاذبة حول أرض ميعاد مزعومة لشعب يزعم بأنه "مختار" لا صلة له مع ذلك على الإطلاق بهؤلاء الخزر المتهودين. ونحن هنا لا نتجنّى أبداً بهذا الوصف لحركة المتاجرة بأعراض هؤلاء الناس بإخراجهم من بلدهم ليذهبوا إلى بلد آخر بعيد حيث يذبحون أهله ويسلبونهم أرضهم لجعلها قاعدة عدوان تخدم المستعمرين، وذلك بدلاً من تنظيمهم في بلدهم وجعلهم يتآزرون مع مواطنيهم الروس وأبناء القوميات الأخرى للكفاح من أجل إزالة ظلم القياصرة والتمتع بحقوقهم في أوطانهم الأصلية تلك. إن هرتزل بذاته اعترف في مذكراته بفائدة اضطهاد اليهود والمتهودين من قبل الأنظمة في أوطانهم الأوروبية. وقد حكى خبر وزير داخلية القيصر الذي عرض مساعدته في تهجير المتهودين هناك إلى فلسطين "بتوجيه رفسة في قفا كل واحد منهم" تلقيه خارج حدود روسيا. وكان يكرر باستمرار، بحسب ما جاء في يومياته، إن فلسطين بالنسبة إلى المستعمرين الإنجليز كمصر تماماً في وقوعها على طريق الهند فيمكن استخدام الخزر المتهودين حراساً في قاعدة إنجليزية تقام في هذا القطر. ثم إن حمّى النشاط الصهيوني في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر عاصرت العملية الحاسمة لإبادة الهنود الحمر في أميركا واستيلاء الغزاة البيض على مرابعهم، ومنها مثلاً الحملة الهستيرية الكبرى الشهيرة التي انفلت فيها عقال أولئك الهمج البيض وتوجهت قطعانهم نحو الغرب بحثاً عن الذهب فأبادوا في طريقهم أهل تلك البلاد بوحشية فاقت كل وحشية يتذكرها التاريخ الإنساني. ومن المعروف أن أولئك البائسين الهنود الحمر الذين بقوا أحياء بعد ذبح معظم أفراد بني جنسهم كانوا يحشرون في مخيمات تقام عن قصد في أماكن موبوءة بالحمّيات والحشرات السامة كي تجهز عليهم الأمراض الفتاكة ولسعات الأفاعي. فكان هرتزل، الذي عاصر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر هذه العاصفة الجنونية الأميركية، يقترح (تشبهاً بهؤلاء الغزاة الأميركيين الذين اتخذهم له مثلاً أعلى) الاستيلاء على الأراضي الجيدة للعرب وإسكان أصحابها في الأراضي الموبوءة تماماً كأولئك المقهورين الهنود الحمر. كما إن الصهاينة اقتبسوا ذات العبارة التي كان الأميركيون يتداولونها أثناء إبادتهم للهنود الحمر وهي: "إن الهندي الجيد هو الهندي الميت"، فاستبدلوا كلمة الهندي في هذه العبارة بكلمة العربي. وهذا أمر يبين لنا كم هو مضحك مبكي منظر ذلك المسؤول العربي الذي كثيراً ما تعرضه علينا وسائل الإعلام العربية وهو يستفيض في شرح مظلمة أبناء قومنا الفلسطينيين، بالأرقام والشواهد، لوفد أميركي أتى يستعلم عن أحوالنا، دون أن ينتبه هذا الشارح إلى أن هؤلاء الأميركيين هم أحفاد مباشرون لأولئك الذين فعلوا بالهنود الحمر ما يفعله بنا اليوم الصهاينة بذاته. وفي غالب الأحيان يكون هؤلاء الدارسون الأميركان آتين إلينا من قبل جهات يهمها الاطلاع عن كثب على أحوالنا، كالمخابرات المركزية مثلاً، لإصلاح خططها تجاهنا وجعلها أشد نكاية بنا.

نقول إذن إن مرحلة الاحتكار الرأسمالي لم تدم طويلاً كنظام مسيطر عالمياً بشكل مطلق. وقد انتهت هذه المرحلة بسرعة بثورة أكتوبر عندما قام إلى جانب النظام الرأسمالي نظام ثوري وانطلقت جملة المجتمعات الإنسانية في مرحلة انتقال إلى الطور الأعلى. وبقي النظام الرأسمالي، بطبيعة الحال، على تناحر دوله المتقدمة في أوروبا، وزاده تفسخاً قيام النظام الثوري الاشتراكي المعارض إلى جانب الثورات العارمة للمستعمرات وأشباه المستعمرات وإلى جانب الاضطرابات والانتفاضات التي كانت تقوم في مجتمعات المستعمرين بذاتهم. وبلغ تناحر المستعمرين أقصاه مع ما رافقه من أزمات ماحقة في فترة ما بين الحربين العالميتين، لا سيما في الثلاثينات التي سبقت الحرب العالمية الثانية. فالثورة التقنية بلغت شأواً رفيعاً في العالم في الوقت الذي اشتدت فيه وصلبت ثورات الإنسان في كل مكان على الأرض ضد المستعمرين. وتفاقم عجز النظام الرأسمالي الاحتكاري عن احتواء كل هذه الثورات التي تعصف في بنيانه. وقام من جديد البرهان الواضح العملي على أن هذا النظام متهافت يقسم العالم الرأسمالي إلى إمبراطوريات استعمارية متعادية بالإضافة إلى قسمة جملة المجتمعات الإنسانية إلى القسمين المتعارضين الآنفي الذكر: الرأسمالي الاحتكاري والثوري الاشتراكي. وآل الأمر إلى أن أزمة الرأسمالية الاحتكارية دفعت الجملة الإنسانية إلى أتون الحرب العالمية الثانية التي عصفت بالنظام الرأسمالي القديم وخربت بلاده الأوروبية بدمارها الشامل حيث سقط عشرات ملايين القتلى ودمرت المدن والمعامل وظهر السلاح النووي الذي أباد مئات ألوف الناس خلال عدد من الثواني في اليابان وأُحرقت قيم من الذخائر والأسلحة والوسائل والأرزاق ما لو أمكن تخصيصه للبناء لانعدم الفقر في العالم. وبدلاً من الاتعاظ بهذا الدرس البليغ والاستجابة إلى المطلب الملحّ لإقامة علاقات إنسانية تلجم الوسائل الجبارة التي غدت بيد الإنسان والتي أصبح خطرها يهدد عالم الحياة على الكرة الأرضية بالزوال، نقول بدلاً من إقامة علاقات توجه هذه الوسائل الجبارة في اتجاه إنتاج القيم في نظام عالمي يتعاون فيه الناس ويتكاملون ويتكافلون فيمتنع الخراب ويعمّ البناء في الجملة الإنسانية، أتى الأميركيون الاحتكاريون وحرفوا هذا الاتجاه الطبيعي للحياة وطوروا القهر بتعاون المستعمرين وتكاملهم وتكافلهم في الوقوف في وجه التقدم الإنساني. لقد أجهضوا المطلب الملح للحياة بإزالة نظام استعمار الإنسان وقهره بإقامة إمبراطورية عالمية استعمارية واحدة متعددة الرؤوس بزعامتهم على أنقاض الإمبراطوريات الاستعمارية القديمة. وتكرر بهذا الأمر ما وقع عند نفي نظام التنافس الرأسمالي الحر في النصف الثاني من القرن الماضي حيث أتى نظام الاحتكار يصعّد التنافس بين الأفراد ليصبح بين مجموعات رأسمالية احتكارية ويقود الإنسانية إلى الحروب العالمية التي لا تبقي ولا تذر. والآن نجد أن الاستعمار القديم يُستبدل باستعمار جديد يصعّد النكاية بالإنسان فنرى أن النصف الثاني من هذا القرن يُفتتح بتشريد شعبنا الفلسطيني من أرضه لتوطين الخزر المتهودين فيها، وأن الأغراب البيض يمعنون في ظل النظام الأميركي العالمي في استعباد الملونين في جنوب أفريقيا، وأن الأميركان يتسببون بحروب استعمارية في أيام "السلم" تذهب بأرواح ملايين الناس، وأن مؤامرات المخابرات المركزية (السي آي إيه) لا تتوقف أبداً للنكاية بالشعوب الضعيفة وتمزيق أوطانها كما هو حاصل حالياً في لبنان، وأن الملايين من بني الإنسان في أفريقيا وآسيا يسقطون صرعى بسبب الجوع، وأن الرأسمالية الاحتكارية تستأصل الحياة على وجه الأرض بإبادة الغابات ونشر نفاياتها في البحار وفي بلاد المتخلفين المقهورين، إلخ… إن الرأسمالية الاحتكارية صعّدت في مرحلتها القائمة حالياً ميزانياتها العسكرية من مئات ملايين الدولارات إلى ألوف المليارات لتوفير الأرباح الأسطورية للرأسماليين الاحتكاريين الذين لا يشبعون أبداً من تكديس الأموال وتبديدها في مباذلهم. فالأميركان مثلاً يوافقون حالياً على إزالة الصواريخ القديمة في الوقت الذي يستمرون فيه ببحوثهم التي تكلف ألوف مليارات الدولارات لتطوير أسلحة أخرى أشد نكاية وفتكاً بالحياة من تلك التي قبلوا بإزالتها، وذلك ليفتتحوا ميادين جديدة للحروب المدمّرة التي أسموها حروب النجوم. فكوارث الرأسمالية باختصار، وليس أزماتها فحسب، لا تنتهي أبداً ولا بد من إنهاء هذا النظام لإنهائها.

بناء الاستعمار الجديد

 

إن مهندس الاستعمار الجديد هو فرانكلين روزفلت رئيس الولايات المتحدة الأميركية فيما بين عامي 1933 و 1945. ففي أعقاب لقاءات تمت بينه وبين رئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل، على بارجة تمخر المحيط الأطلسي، صدر في الرابع عشر من آب عام 1941 عنهما إعلان يبيّنان فيه الأسس التي يجب أن يقوم عليها عالم ما بعد الحرب التي كانت قائمة حينذاك. ومن الطبيعي أن يتضمن هذا الإعلان في مثل تلك الظروف وعوداً مطاطة غامضة، ولكن مجيء تشرشل رئيس وزراء بريطانيا التي ما كانت الشمس تغرب عن مستعمراتها حينذاك والتي كان لها قبل تلك الحرب الكلمة الفصل في الشؤون العالمية، نقول إن مجيء تشرشل ليلبي دعوة روزفلت للبحث عن أسس للعالم كان يعني، بحسب أهداف هذا الأخير ومفهومه حينذاك، اعترافاً من الأول بأن الأسس الاستعمارية القديمة التي كان يرتكز عليها استعمار دولته أصبحت غير صالحة ويجب تجديدها، وإن كان الإعلان المذكور يتوجه في الظاهر بالمعارضة ضد ممارسات النازية التي لا تختلف في أهدافها وجوهرها عن ممارسات المستعمرين الآخرين إلا بحماقة أصحابها واستعجالهم للأمور. وكان تشرشل في وضع لا يسمح له أبداً في تلك الأيام بإبداء أي تحفظ تجاه نيّات وإرادة الولايات المتحدة الأميركية، وكان لا بد له، وهو واقف وحده أمام الجحافل النازية التي سحقت حلفاءه في البر الأوروبي، من أن يوافق على إعادة النظر في الأسس التي تقوم عليها العلاقات العالمية، وخاصة منها ضمناً العلاقات التي تقوم عليها إمبراطورية دولته الاستعمارية بالذات. وبعد هذا الإعلان في المحيط الأطلسي ما كان روزفلت ينقطع عن إبراز نفسه كوصي على العالم وخاصة منه الدول الاستعمارية الأوروبية. فأعلن الترتيبات الجديدة في مساعدة الحلفاء قبل دخول دولته الحرب إلى جانبهم، أعلن "النيوديل" الشهير، وجعل من بلاده الامتداد الستراتيجي للصراع ضد النازية.

وعندما وضعت الحرب أوزارها وسحقت النازية بعد أن أصبحت كل أوروبا أطلالاً وخرائب، بدأت الولايات المتحدة في تنفيذ الشق العملي من مخططها وهو كما أشرنا أعلاه: إقامة الإمبراطورية الرأسمالية الاحتكارية العالمية المتعددة الرؤوس بزعامتها. وشكل هذه الإمبراطورية ينطبق على شكل الشركة الرأسمالية المساهمة: تشكل دول العالم منظومة دول، أمماً متحدة، يكون فيها نصيب كل دولة من الاستقلال بجوهره الحقيقي بمقدار تقدمها المادي وقوتها. ولضمان هيمنة الكبار على تلك الشركة الدولية، لضمان تفرد أميركا على الأخص بالزعامة، كتفرد أكبر مساهم بأكبر نصيب من منافع الشركة العادية، وضعت الاحتكارية الأميركية نظاماً للعالم هو نظام الأمم المتحدة القائم حالياً على كل ما خلفه الاستعمار القديم برأسماليته الاحتكارية من تخلف في الأحوال الإنسانية المادية والروحية، ومن تحكم الأقوياء بالضعفاء واستعبادهم في المجالين الاجتماعي المحلي والدولي، وذلك تحت الستار الخادع لما سموه الأمم المتحدة. فهذا النظام مثلاً أقام مؤسسة الأمم المتحدة حيث تجلس الدول المستضعفة إلى جانب الدول القوية على قدم "المساواة الطوباوية" في الجمعية العامة، ولكن تنفيذ كل قرار إجرائي يعود إلى مجلس الأمن الذي يتمتع فيه المستعمرون بحق النقض (الفيتو)، الأمر الذي يشبه تماماً ما يجري في الشركات الاحتكارية حيث يتمتع صاحب السهم والسهمين "بلقب شريك" للاحتكاري المساهم الكبير الذي يتمتع عملياً بإدارة الشركة وتحويل منافعها إلى خزائنه. فمجلس الأمن في هذه الأمم المتحدة هو الذي يحمي مثلاً في هذه المؤسسة "قانونية" كل عدوان يرتكبه المستعمرون وأُجراؤهم ضد المستضعفين، وذلك بحق النقض الذي يمتلكه أولئك العدوانيون. فأميركا مثلاً شنّت أكثر من خمسة وعشرين حرباً في ظل الأمم المتحدة، كما قام الكيان الصهيوني تحت مظلتها بمئات العمليات العدوانية على أمتنا، دون أن يستطيع كل "أولئك الشركاء" في الأمم المتحدة، وبينهم نسبة كبيرة من العرب، أن يحصلوا على قرار واحد يشجب تلك الحروب وهذه الأعمال العدوانية المحمية كلها بالفيتو الأميركي.

ولكي يتم بناء الاستعمار الحديث ببناء إمبراطوريته العالمية الموحدة كان لا بد من هدم الإمبراطوريات الاستعمارية القديمة المتناحرة وتكنيس أنقاضها فلا يبقى لها أي أثر. فتلك الإمبراطوريات كان لها وهي تقود النظام الرأسمالي الاحتكاري شكل الإقطاعيات عندما كانت تذهب الواحدة منها إلى العالم لتقتطع منه مستعمرات تخضعها لقوانينها فقط فتتعارض مع مثيلاتها الأخرى. فكان لذلك بقاؤها بهذا الشكل يعرقل ذلك المشروع الأميركي ببناء الإمبراطورية العالمية الموحدة بقيادة جماعية رأسمالية احتكارية تتزعمها الولايات المتحدة الأميركية. وكان سعي الاحتكارية الأميركية منصبّاً بشكل أساسي على الإجراءات التالية لتحقيق مشروعها الآنف الذكر:

       1- توحيد الإمبراطوريات الاستعمارية القديمة بنظام عالمي استعماري واحد متعدد الأطراف (الرؤوس) بزعامة الولايات المتحدة الأميركية، وذلك بإقامة الأحلاف على اختلافها وإقامة مجالسها ومؤسساتها وتفرعاتها.

       2- العمل على إقامة ومساندة قوى في بلاد العالم الثالث تشكل في كل بلد من هذه البلاد امتداداً سياسياً واقتصادياً وعسكرياً لما يقابلها من مؤسسات النظام الرأسمالي الاحتكاري العالمي، وتقوم مقام أجهزة احتلال وإدارة المستعمرات القديمة. أي باختصار تقوم بلاد العالم الثالث باحتلال نفسها بنفسها لحساب المستعمرين.

       3- بناء جهاز قمع عالمي يقوم على مختلف القوى العسكرية للبلاد الرأسمالية الاحتكارية المتقدمة مع نشر القواعد العسكرية، أينما يلزم من العالم الرأسمالي وحيثما يتطلب الأمر، وبناء جهاز عالمي للمخابرات والتآمر والفساد.

       4- محاصرة المعسكر الاشتراكي (لمنع عدواه من أن تنتشر في العالم الثالث) والعمل على تعميق الانقسامات فيما بين أطرافه، وتشجيع مختلف أشكال التفسخ والانحلال فيه بالاستعانة بشكل أساسي بالعناصر الصهيونية، وانتهاز كل فرصة لإعادة ما يمكن الإعادة منه إلى الارتباط بالنظام الرأسمالي الاحتكاري بأي شكل من الأشكال، حتى ولو "بنظامه الاشتراكي" المتقوقع ضمن حدود بلده.

وكان النظام الرأسمالي العالمي يهتز من أسسه بشدة في أعقاب الحرب العالمية الثانية:

                    -   الحركات الوطنية تعصف به في كل أرجاء العالم الواقع تحت شبكته؛

        - خرج الاتحاد السوفياتي من الحرب وهو يملك أعظم قوة برية عرفها التاريخ، وقد أحاط به عدد من الدول الاشتراكية الأخرى التي شكّل معها معسكراً واسعاً قوياً ينافس النظام الرأسمالي الاحتكاري العالمي منافسة شديدة خطرة؛

                    -   كانت ثورة الصين، ذلك البلد الذي يشكل ربع العالم بتعداد سكانه، تسير بخطى ثابتة نحو الانتصار الحاسم على القوى الرجعية هناك؛

        - خرجت الدول الاستعمارية كلها، عدا أميركا، من الحرب محطمة: باقتصادها ومجتمعاتها وجيوشها. وقد انتشر العداء لأنظمتها انتشاراً واسعاً بين جماهير شعوبها، فأخذت الاحزاب الشيوعية والاشتراكية مكان الصدارة مثلاً بين أحزاب دول أوروبا الغربية.

وقد كانت خطة الولايات المتحدة الأميركية تقوم على الخطوط العامة التالية:

أولاً: في أوروبا: نفذّت أميركا هنا برامج مساعدات كبيرة، أو بالأحرى برامج إعمار واسعة، تجعل من اقتصاد تلك البلاد، بمعامله وشركاته وأسواقه تابعاً لها تقتسم احتكاراتها منافعه، وكان من أهم وأشهر تلك المساعدات "برنامج مارشال" لأوروبا.

ثانياً: في اليابان: كانت أميركا قد احتلت اليابان عند استسلامها في أعقاب الحرب العالمية الثانية وعينت لها الجنرال ماك آرثر مفوضاً مطلق الصلاحية هناك، فغدت هذه البلاد مستعمرة أميركية طوال عقدين من الزمن، ثم تحولت إلى رأس بين رؤوس النظام الاستعماري العالمي.

ثالثاً: في المستعمرات: ما كان باستطاعة الأميركان، لتحقيق غايتهم في صهر الإمبراطوريات الاستعمارية القديمة بإمبراطورية عالمية واحدة بزعامتهم، أن يتبعوا طريق العنف، فيقوموا مثلاً مباشرة وعلناً بقسر المستعمرين القدماء ليتخلوا عن أساليبهم البالية، فمثل هذا الطريق كان لا بدّ من أن يؤدي إلى أحد الأمور التالية المناقضة للأهداف الأميركية الاستعمارية:

        - العودة إلى الأشكال القديمة للاستعمار في حالة تغلّب أميركا على منافسيها المستعمرين القدماء وعلى الحركات الوطنية في العالم وخضوع هؤلاء جميعاً لسلطتها بقوة الاحتلال المباشر.

        - قيام استعمار جديد لا تكون أميركا زعيمة له، في حالة فشل هذه الأخيرة وانهزامها أمام المستعمرين القدماء وكل العالم الذي تهاجمه، مع عجز حركات التحرر في العالم عن الاستفادة من ذلك الظرف الملائم للقضاء على النظام الاستعماري العالمي برمّته.

        - انهيار النظام الرأسمالي الاحتكاري برمّته أمام الحركة العامة للتحرر والثورات الكبرى المشتعلة هنا وهناك على الأرض، في ظرف اقتتال المستعمرين فيما بينهم، وبمواجهة المعسكر الاشتراكي القوي.

كانت أميركا في واقع الحال بين أمرين متعارضين: كانت من جهة بحاجة إلى المستعمرين القدماء لضمهم إلى نظامها الجديد، إلى شركتها العالمية، ليقفوا معها في وجه المعسكر الاشتراكي، وضد الحركة العاصفة للتحرر التي كانت تهب في كل أنحاء الأرض. وكانت من جهة ثانية لا تتمكن من أن تقف "بإخلاص" إلى جانب أولئك المستعمرين القدماء لتساعدهم على البقاء في مستعمراتهم، وإن كانت أحياناً تتظاهر بأنها تفعل ذلك، بل وإن قامت أيضاً في بعض الحالات بإمدادهم بالمال والسلاح لمساعدتهم على قمع ثورة من الثورات، كما فعلت مثلاً عندما ساعدت الفرنسيين ضد ثورتي الفييتنام والجزائر. ولكن هذا الأمر الأخير كان يتم بقصد فتح الطريق أمام تدخلها لتوجيه الأحداث في الاتجاهات الملائمة لمخططاتها. فقد كانت تريد، كما أشرنا أعلاه، أن تبلغ المستعمرات مرحلة الاستقلال السياسي مع بقائها في النظام الرأسمالي الاحتكاري العالمي بالشكل الموصوف آنفاً. كما أرادت إلى جانب هذا أن تقوِّض كل نفوذ مستقل لأي من المستعمرين القدماء في مستعمراته السابقة، لا سيما عندما تكون هذه المستعمرات غنية بالمواد الأولية الثمينة كالبترول مثلاً، وتكون ذات موقع ستراتيجي هام: كانت الولايات المتحدة الأميركية توجه سياستها العالمية لاستبدال كل نفوذ استعماري فردي بالنفوذ الجماعي لكل المستعمرين، ولكن تحت إشرافها وبزعامتها، بنفوذ النظام الرأسمالي الاحتكاري العالمي الموحد بزعامتها.

وبناءً على ما تقدم، نجد أن الولايات المتحدة الأميركية اتبعت سياسة مزدوجة لتنفيذ مخططها الاستعماري ببناء إمبراطوريتها العالمية:

        - التظاهر بالحياد في الصراع الذي قام بين حركات التحرر في العالم وبين المستعمرين القدماء، مع التسلل إلى الحركات المذكورة بمختلف الأشكال والوسائل. وغايتها من هذا التسلل كانت دوماً إجهاض تلك الحركات بعد أن تستفيد منها في القضاء على الشكل القديم للاستعمار، وتدمير كل نفوذ مستقل لدوله في مستعمراتها ومحمياتها القديمة ثم استبداله بالشكل الجديد له: إملاء الفراغ، كما أعلنت مثلاً أميركا في أعقاب حرب السويس عام 1956. وإن خير مثال على هذا الأمر كان تسلل أميركا بالسادات وأعوانه وتياره الانتهازي إلى الحركة الوطنية المصرية التي كافحت الاستعمار القديم والرجعيات المرتبطة به، ثم انتهت بنظام ذلك العميل.

        - عندما كانت ترى أن حركة التحرر جدية وتهدف إلى القطع مع الشبكة الرأسمالية الاحتكارية العالمية(أو الإضرار بهذه الشبكة ضرراً بليغاً) فإنها كانت تحالف المستعمرين القدماء، مع كل ما خلفوه من أذناب وأعوان، وتحالف كل الانتهازيين والدجالين، وتستعمل مختلف أنواع الخونة المتسترين والظاهرين، للقضاء على تلك الحركة. ونجد مثال هذا الأمر في تعاون أميركا وإنجلترة لإسقاط حركة مصدّق في إيران، ثم حلول الأولى مكان الثانية في النفوذ هناك.

أمثلة على النشاط الاستعماري الأميركي

 

إن الولايات المتحدة الأميركية استفادت، عندما أخذت في بناء إمبراطوريتها العالمية في أعقاب الحرب العالمية الثانية، من الأوضاع الموروثة السائدة في مختلف أقطار النظام الرأسمالي الاحتكاري، المتقدمة منها والمتخلفة. فعملت على إقامة جهازها العالمي المعقد القائم على الأحلاف، والشبكة العالمية للقواعد العسكرية، وشبكات التجسس والتخريب الممتدة في كل بلدان العالم الرأسمالي، وعلى الأخص في المستعمرات وأشباه المستعمرات، فنظمت هناك جهازها، وأقامت اتصالاتها بكل الجهات المفيدة لتنفيذ مخططاتها. وفي أثناء تطور الأحداث في مختلف اتجاهاتها لم تترك هذه الدولة الاستعمارية وسيلة لتحويل مجريات الأمور في اتجاه مصلحتها: تآمرت، وشجعت الفساد والخيانة، وهددت، واعتدت إلخ…

        - كان خداع وإفساد بعض العسكريين وبعض الفئات المثقفة في المجتمعات المتخلفة من أنجع الوسائل التي استخدمتها الولايات المتحدة الأميركية للتخريب في هذه المجتمعات (التي تضيق فيها مجالات العمل أمام المثقفين لتخلف اقتصادها وقصوره عن استيعاب أعداد كبيرة منهم، وضيق آفاقه أمام طموحات بعضهم، فيسهل لذلك نشر الفساد بينهم). ففي الخمسينات كثيراً ما انتشرت أخبار فتن أثارتها المخابرات الأميركية في مختلف أنحاء العالم المتخلف بقيادة فئات كانوا يسمونها "الخريجين"، أي أصحاب الشهادات الجامعية، أو الإنتلجنسيا في بعض الأحيان. ومن البديهي أن يكون هذا التعميم الذي تستّر وراءه المستعمرون وأذنابهم كاذباً، لأن جماهير الجامعيين والمثقفين في البلاد المتخلفة تبقى مهما اشتد الضيق بأفرادها في طلائع التقدم، وإن سقطت بعض القلة من فئاتها في حبائل المستعمرين وإغراءاتهم. ولقد بدأت مثلاً المعارضة ضد لومومبا، بطل استقلال الكونغو، بفئة خائنة تسترت بيافطة الخريجين، وذلك عندما اتجهت الثورة هناك نحو القطع مع النظام الرأسمالي الاحتكاري العالمي واستغلال ثروات البلد، التي يأتي في مقدمتها اليورانيوم والنحاس، لصالح أهلها. وانتهت المأساة كما هو معروف باستشهاد لومومبا وحلول الاحتكاريين الأميركان مكان الاحتكاريين البلجيكيين في استثمار المناجم الغنية هناك عندما أعادت المخابرات المركزية الأميركية هذا البلد ليرتبط بشبكة الاستعمار الجديد. وفي دمشق "تبرع" القنصل الأميركي في عام 1955 باستئجار بيت في شارع أبي رمانة ليكون نادياً للخريجين. واستغلت أجهزة التخريب الجامعة الأميركية في بيروت، الجامعة التي لا ننكر خدماتها الجليلة التي قدمتها لوطننا العربي بتخريجها عدداً كبيراً من علمائنا في مختلف الاختصاصات، نقول إن المخابرات المركزية استغلت هذه المؤسسة المحترمة لتصدّر منها بعض الحركات "القومية" التي سببت الكوارث الفاجعة للحركة الوطنية العربية الكبرى للخلاص نهائياً من شبكة الرأسمالية الاحتكارية العالمية وتحقيق دولتنا العربية الاشتراكية الكبرى. فبشرت "بإنسانية" الضباع الأميركان و "عدائهم للاستعمار"، وأدخلت الأوهام في بعض العقول بجدوى التحالف معهم وتلقي "مساعداتهم" الاقتصادية، ورفعت الشعار السخيف المحزن "بنهاية المعركة مع الاستعمار"، على اعتبار أن المستعمرين القدماء الإنجليز والفرنسيين منوا بهزائم ساحقة في منطقتنا وانهار نفوذهم: بهزيمتهم في السويس، وقيام الوحدة السورية المصرية، وتصاعد ثورة الجزائر، وانهيار حكمهم في العراق بثورة الرابع عشر من تموز. ولكن الأميركان ما تأخروا عن تأكيد هويتهم بأنهم يمثلون أشأم عبودية عرفها الإنسان طوال تاريخه، فتآمروا وارتكبوا الجرائم وأخلّوا بأمننا وبذلوا كل ما باستطاعتهم لترسيخ الكيان الصهيوني في قلب وطننا بهدف بناء ذراع لهم هنا يحرس منابع ثرواتنا التي ينهبونها.

        - حارب الأميركان كل تنمية لاقتصاد المستعمرات القديمة وأشباه المستعمرات تضعف من ارتباط هذه البلاد المتخلفة بالشبكة الرأسمالية الاحتكارية العالمية وتسد الفجوة القائمة بينها وبين البلاد المتقدمة. فكانوا يعملون على عرقلة مشاريع تكرير النفط مثلاً وتصنيعه، وعلى تأخير بناء السدود العالية للري وتوليد الكهرباء، ويقاومون بشراسة بناء صناعة ثقيلة تعزز الاستقلال الاقتصادي: أخذ مثلاً مشروعا بناء مصفاة النفط في حمص وبناء سد الفرات في الطبقة، في أواسط الخمسينات شكل صراع سياسي حاد خاضته القوى الوطنية ضد عملاء المخابرات المركزية الأميركية وضد الشركات الرأسمالية الاحتكارية التي كانت تتقدم بعروض غير جدية، وتدس الدسائس، وتقدم الرشاوى، بهدف تأخير البدء بإنجاز هذين المشروعين الضخمين أطول مدة ممكنة، ثم القضاء على فكرة تنفيذهما من أساسها عندما تسنح الفرصة الملائمة. وقد تمكنت سورية في النتيجة من بناء مصفاتها، ولكن الظروف واتت المستعمرين من جهة بناء السد في الطبقة فتأخر تنفيذه عقداً من السنين. ثم إن أميركا عارضت بشراسة بناء مجمع للفولاذ في الباكستان، على الرغم من أن هذه الدولة سايرت دوماً السياسة الأميركية ومشت في ركابها.

        - إن ما يسمونه "المساعدات" الأميركية كالنقطة الرابعة مثلاً ومشروع مارشال وغيره يشكل نموذج الاحتيال الرأسمالي الاحتكاري لاقتناص ثروات الغير وتحميل الضحايا أعباء كلفة المشاريع المعدة لقهرهم ونهب بلادهم. فقد حاول الأميركيون مثلاً إقناع بلاد المشرق العربي بفتح طريق أُتوستراد يصل الخليج العربي بمنطقة الجزيرة السورية حيث يتفرع منه فرعان أحدهما يذهب إلى الاسكندرون ليتصل هناك بالأُتوستراد الأميركي الذاهب إلى حدود الاتحاد السوفياتي في القفقاس والآخر يذهب إلى جونية في لبنان. فتكون الغاية من هذا المشروع إذن بترولية عسكرية لخدمة أغراض الولايات المتحدة الأميركية. واجتمع مجلس اقتصادي عربي في القاهرة عام 1953 لدراسة هذا المشروع، وكانت سورية حاضرة هذا المجلس. ويتلخص العرض الأميركي بدفع مائتي مليون دولار من أصل ستمائة مليون دولار مجموع تكاليف المشروع، على أن تدفع الدول العربية المعنية باقي المبلغ، وأن يكون للأميركان الإشراف الفني للإنشاء، وأن تُشترى جميع المعدات اللازمة للعمل من أميركا، وتقع صيانة الطريق على الدول العربية. ونجد في النتيجة أن هذه "المساعدة" الأميركية وأمثالها التي تأتي من خزينة الدولة (الممولة بالضرائب التي يدفعها الشعب الأميركي) تعود إلى خزائن الاحتكاريين الأميركيين مع أضعافها من المال الذي تدفعه شعوب المقهورين. وهذا مع العلم أن معظم فوائد المشاريع المنجزة بها تعود أيضاً إلى أولئك الاحتكاريين في كل الحالات. وليس هذا فحسب، فعلى المقهورين أن يدفعوا تكاليف صيانة تلك المشاريع: إن الأُتوستراد المذكور كان في ذلك الزمان، قبل تأميم آبار نفط الخليج، لا يفيد إلا للأغراض العسكرية ولتنقّل شاحنات النفط الثقيلة عليه، فهو يمر عبر الصحاري التي يمكن أن تنتقل فيها السيارات العادية بسهولة دون الحاجة إلى أُتوسترادات.

        - صرّح نوري السعيد في مجلس النواب العراقي في عام 1957 بما يلي: "..لبناء المطارات اللازمة لحلفائنا وفتح الطرق الاستراتيجية وبناء القواعد العسكرية، اضطررت (أي اضطر نوري السعيد) لأن آخذ جزءاً من الأموال المخصصة لمصلحة الإعمار، وذلك لأن ما ستدفعه أميركا من المساعدات، لقاء قبولنا مبدأ أيزنهور، لا يكفي لهذه الأعمال…". انتهى تصريح نوري السعيد. نجد إذن إنجاز مشاريع المستعمرين الأميركان العسكرية تتبدى على الإعمار الوطني.

هذه نبذة بسيطة عن الاستعمار الجديد الذي أطل بوجهه الكالح على العالم في أعقاب الحرب العالمية الثانية. "فمساعدات" هذا الاستعمار وقروضه لا تُعرض من قبله وإنما تُفرض فرضاً على الأمم المتخلفة بالتهديد والوعيد وقلب الحكومات التي تعارضها. ولكن المتخلف يرهن اقتصاده برمته لسداد فوائد هذه القروض والقيام بأعباء مشاريع تلك "المساعدات". وقد وجدت سورية نفسها وجهاً لوجه أمام هذا الاستعمار الجديد عندما انعتقت من شباك الاستعمار القديم في أعقاب الحرب العالمية الثانية.