الفصل الثاني

كفاح سورية من أجل الجلاء

 

تزوير تاريخ أمتنا العربية

 

قلنا في الفصل السابق من هذه الدراسة إن الاستعمار الجديد الذي قام في أعقاب الحرب العالمية الثانية بزعامة الولايات المتحدة الأميركية عمل على إقامة ومساندة قوى في العالم المتخلف تشكل في كل بلد فيه امتداداً سياسياً واقتصادياً وأيديولوجياً وعسكرياً لما يقابلها من مؤسسات النظام الرأسمالي الاحتكاري العالمي، وتقوم مقام أجهزة احتلال وإدارة المستعمرات القديمة. أي باختصار تقوم بلاد العالم الثالث باحتلال نفسها بنفسها لحساب المستعمرين. وفي ظل هذا النظام العالمي للاستعمار الجديد، في ظل العصر العبودي الأميركي، وجدت الفردية والديكتاتورية في دول العالم الثالث المناخ الملائم. فللاستعمار الأميركي تجربة طويلة في أميركا اللاتينية عندما حلّ مكان المستعمرين الأوروبيين في هذه البلاد بعد أن طردهم منها. فكان يستعمرها بواسطة ديكتاتوريين من أهلها يؤمنون له ارتباطها بنظامه دون الحاجة إلى تكبد أعباء احتلالها عسكرياً: قهر الديكتاتور وزبانيته وعسكره المحلي كل هذا يقوم مقام الاحتلال بجيوش المستعمر. وفي مثل هذا الظرف يكون من البديهي أن تتعارض الديمقراطية بشكل مطلق بأبسط وأدنى مظاهرها، بله مظاهرها العليا المعقدة الكاملة، مع العلاقة بذلك المستعمر ومع ممارساته في قهر ونهب البلد الضحية. فالقهر والهوان يفرضان بالبداهة فرضاً على الناس ولا يرضى بهما أحد عن طيب خاطر. وبعد قيام العصر الأميركي العالمي وجدنا تلك الظاهرة اللاتينية في التبعية للنظام الرأسمالي الاحتكاري تنتشر في العالم الثالث فلا يكاد ينجو منها قطر من أقطاره. ثم إن لهذه الوثنية كهنتها ومؤسساتها التي تتشعب في مجتمعات هذا العالم وتعمل على نشر الكذب والانحراف وكل أنواع الضلال والفساد بكل الوسائل المتاحة التي تقع تكاليفها على عاتق جماهير المقهورين. ونجد في النتيجة أن العميل يصور نفسه بطلاً، ويبالغ في هذا الأمر إلى أن يصل إلى تأليه ذاته. وليس من العسير أبداً رؤية وسماع وقراءة أخبار هؤلاء المتألهين في وسائل إعلام هذا العصر: في الكتب والجرائد والنشرات والإذاعات وغيره. ففي عالمنا العربي مثلاً من سبّب وأسرته أفدح الكوارث لأمتنا، وهو مع ذلك لا "يتواضع" بإذاعاته وبما يجمعه من حوله من ألوف المأجورين المصفقين المهللين وما يملأ صدره من نياشين عددها بعدد المواقع التي سلمها للعدو فيصور نفسه بصورة جديرة بالأبطال الحقيقيين. أما الآخر الذي لا ينقطع عن الدعوة لجمع شمل المفرطين بحقوق أوطاننا فيقلب شعار المجاهدين الأبرار "بالاعتصام بحبل الله" إلى الاعتصام بحبل التسليم والاستخذاء للمستعمرين ويبذل الدولارات بلا حساب لتهديم الحركات الوطنية في عالمنا العربي وإجهاض ثوراته ضد العدو الأميركي فإنه يتخذ لقب "خادم الحرمين الشريفين"، اللقب الذي حمله أبطال أمتنا من أمثال صلاح الدين. ولا حاجة بنا إلى الاسترسال في ضرب الأمثلة لنأتي بسير هؤلاء المستكبرين الذين ابتليت بهم وبهزائمهم أمتنا في هذا العصر.

إننا نتشرف بالانتساب إلى هذه الأمة التي كرست وحدة روافدها وأقامت دار الإسلام على إلغاء الاستكبار على الناس فرفعت عالياً شعار "الله أكبر" فكان آخر ما ينطق به شهداؤها عندما كانوا يجاهدون في سبيل تحرير الإنسان من ربقة الطغاة. فهذا الشعار يعني بوضوح أن الكبر لله وحده عندما كان المؤمنون المجاهدون يقذفونه في وجه طغاة ومستكبري الأمم. فالمغيرة بن شعبة مثلاً قال لرستم قائد الجيش الفارسي في القادسية عندما أتاه كسفير إليه لسعد بي أبي وقاص قبل نشوب القتال ليدعوه إلى الإسلام أو الجزية أو الحرب، كما كانت هي العادة: "إننا معشر العرب لا يستعبد بعضنا بعضاً إلا أن يكون محارباً لصاحبه. فظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسى. وكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض. اليوم علمت أنكم مغلوبون لأن هذا الأمر لا يستقيم فيكم. وإن ملكاً لا يقوم على هذه السيرة ولا على هذه العقول". وفي قرآننا نداء "ولا تمش في الأرض مرحاً إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً"، وفيه أيضاً الصرخة المدوية ضد الطغاة ولتحرير الناس: "اذهب إلى فرعون إنه طغى!..". فرفض الاستكبار والديكتاتورية والفردية ليس تقليداً عندنا فحسب بل إنه الإيمان المتأصل في أساس وجودنا يحركنا في أيام نهوضنا وممارستنا وظائفنا الطبيعية بين الأمم للعمل على تحرير أنفسنا وتحرير غيرنا من كل طغيان واستكبار. وما قامت جاهلية فينا طوال تاريخنا إلا عندما يستشري فينا حكم الطغاة وتعمّ الفردية بين ظهرانينا. ولقد كان وسام نبي أمتنا وهو في أوج انتصاره العظيم عند دخوله مكة انحناءه تواضعاً حتى كادت جبهته الشريفة تمس الرحل، الأمر الذي يناقض تماماً مظهر ذلك المهرول في مواكب الاستسلام للأعداء في جاهليتنا المعاصرة وقد تدلت على جسمه تخشخش نياشينه وزينته الفارغة.

إن الرجعية على الرغم من تمرسها طويلاً في خدمة المستعمرين الجدد فتؤدي لهم خدمات ضخمة للنكاية بأمتنا تبقى مفضوحة فلا تتمكن من القيام بوظيفتها الخيانية هذه على الوجه التام الذي يريده هؤلاء المستعمرون إلا بمساعدة الانتهازية وبالاستفادة من الأخطاء التي ترتكبها الحركة الوطنية العربية ومن الأوهام المنتشرة في هذه الحركة. وقد سبق أن قلنا في الفصل السابق من هذه الدراسة إن المستعمرين الجدد تسللوا في الحركة الوطنية العربية بعملائهم كالسادات وخليفته المبارك اللذين قادا تياراً من الانتهازيين المرتزقة وساندهما نفر من الجواسيس والكهنة المرتبطين بوكالة المخابرات المركزية الأميركية. وقد دفع هذا التيار بقسم هام من الحركة الوطنية العربية إلى سلوك سياسة فردية ديكتاتورية أدت، بمساعدة العملاء الآخرين المندسين في الفئات الوطنية الأخرى في المنطقة العربية، وبالاستفادة من أخطاء هذه الفئات، إلى عزل ذلك القسم الوطني الهام، في "سجن" فرديته، أولاً ثم إلى افتعال صراعات بينه وبين تلك الفئات الوطنية الأخرى أنست الجميع خطر الاستعمار الجديد الذي عمل في ظل هذه الظروف على توطيد مواقعه في عالمنا العربي: ما كانت هنالك دراسة جدية تميز هذا الاستعمار الجديد من الاستعمار القديم وتبرز واقع الظرف العالمي الجديد على حقيقته. وانتهى الأمر إلى إجهاض الزخم الجماهيري الموجه ضد المستعمرين جميعاً وفي مقدمتهم زعيمتهم الولايات المتحدة الأميركية وإلى أن يستشري حكم العملاء والانتهازيين في مختلف أنظمتنا العربية، هؤلاء العملاء الذين نراهم حالياً يتصدرون مسيرة الاستسلام للعدو الأميركي الذي يدفعهم بلا توقف إلى مزيد من التنازلات لتوطيد وترسيخ أسس مرتكزاته في مختلف أرجاء وطننا العربي وفي مقدمتها أسس قاعدته الاستعمارية القائمة في فلسطين على شكل الكيان الصهيوني.

ولقد وجدنا أولئك الكهنة المرتبطين بالمخابرات المركزية الأميركية يبذلون كل جهد لتشجيع الاتجاه الفردي وتأليه بعض قادة الحركة الوطنية بهذا المقدار أو ذاك على حسب ظروف ومواقع أولئك القادة. وغاية هذه المخابرات بداهة من هذا الأمر عزل هؤلاء القادة عن الجماهير وتغييب الرأي العام الحقيقي عنهم وإحاطتهم بعملائهم وتوجيههم بالتالي في اتجاه تحقيق أغراض المستعمرين أو إسقاطهم بطريقة ما عندما لا يستجيبون للعمل على تحقيق هذه الأغراض. وقد توصلت المخابرات المركزية الأميركية بمساعدة الكهنة المذكورين إلى إغلاق ساحات الصراع مع الأعداء المستعمرين في وجه الجماهير وحصر عمل فئات محدودة منها في المسيرات "المبرمجة المقيدة" للتصفيق وأداء "فروض" الولاء والطاعة الوثنية للقادة. وكذلك اتجه الإعلام وبحوثه على اختلاف درجاتها، تحت إشراف أولئك الكهنة نحو العمل على فصل الحركة الوطنية عن جذورها التاريخية القريبة والبعيدة. فالقائد عبد الناصر مع حركته مثلاً لا علاقة له، في مزاعم الكهنة المذكورين، بما سبق من حركات وطنية مصرية. وقد بلغ الأمر ببعضهم إلى إنكار الأدوار الإنسانية الكبرى والحاسمة التي اضطلع بها القطر المصري وقدمت في سبيل أهدافها جماهير هذا القطر أغلى التضحيات وإلى ربط الناصرية مباشرة بالفرعونية فيقول بعضهم كذباً إن عبد الناصر هو أول حاكم لمصر من أبنائها بعد فراغ دام ألوف السنين منذ عهد الفراعنة. فتفاعلات هذا القطر طوال تاريخه مع بقية الأقطار العربية، التفاعلات التي جعلت منه ومن هذه الأقطار روافد كونت أمتنا العربية، تشكل فراغاً في مفهوم أولئك الكهنة ومفهوم من اتبعهم من الجهلة الحمقى الفاشيين الذين أنعم عليهم المستعمرون والصهاينة مؤخراً بجائزة نوبل. والواضح جيداً أن الهدف الأول لمثل هذا الاتجاه هو عزل القطر المصري وشعبه الذي يشكل أهم رافد في المجرى العظيم لنشوء وارتقاء أمتنا وتكونها التاريخي عن بقية الوطن العربي، الذي بدوره تُقَطَّعُ أوصاله أيضاً بأفعال مشابهة يقوم بها المستعمرون وأجراؤهم. وقامت في ذات الوقت عمليات تشويه وإنكار وتناسي لثورات جماهير أمتنا في مختلف أقطار وطننا العربي. فانتفاضات الشعب المصري وثوراته المتلاحقة من عرابي حتى ثورة الطلبة في عام 1946 لإسقاط اتفاقية صدقي بيفان الاستعمارية، حيث شاهدت أنا بنفسي المقاومة البطولية لجماهير الطلبة على جسر الجامعة في القاهرة وسقوط أكثر من عشرين شهيداً منهم إلى جانب مئات الجرحى، وحتى المقاومة المسلحة للشعب المصري ضد المحتلين الإنجليز في القناة، كل هذه التضحيات الجسيمة وغيرها للشعب هناك ألقيت في ظلال التمجيد المرائي للفرد بكتابات وإعلام أولئك الكهنة. وكذلك طمست ثورات شعبنا المجيدة التي لم تنقطع أبداً ضد الغزاة المستعمرين في كل أقطار وطننا العربي بدون استثناء. فسورية مثلاً، التي لم تتوقف ثوراتها وانتفاضاتها ضد المحتلين الفرنسيين طوال ربع قرن حتى حققت جماهيرها جلاء المستعمرين عن أراضيها ثم واجهت الاستعمار الجديد وأحبطت مؤامراته الواحدة تلو الأخرى وتوجت كل انتصاراتها هذه ضد قدماء المستعمرين والجدد منهم بتحقيق حلم العرب والإسلام بالوحدة مع مصر عام 1957، سورية هذه صُوِّرت بعد قيام الوحدة من قبل أولئك الكهنة ذاتهم بأنها بلد شعب منقسم على نفسه كانت تحكمه بزعم هؤلاء الكاذبين عصابات متنافرة دفعتها عداواتها لبعضها بعضاً إلى الركض إلى الوحدة!…

ونضرب مثلاً لأولئك الكهنة، الذين تستخدمهم دوماً المخابرات المركزية الأميركية لتزوير التاريخ ونشر الأوهام المضللة، بكاتب مستهتر بلغ استخفافه بعقول الناس مبلغ الاعتراف بعمالته لهذه المخابرات الأميركية صراحة وضمناً بأشكال مختلفة في كتاباته التي يزور بها التاريخ. فهذا الكاتب الذي زرعته المخابرات المركزية في الإعلام المصري الوطني بعد ثورة 23 يوليو بدأ حياته الصحفية كمراسل صحفي في الحملة الاستعمارية الأميركية بقيادة الجنرال ماك آرثر ضد الشعب الكوري في مطلع الخمسينات من هذا القرن. ومن اعترافاته أنه كتب مرة أن المخابرات المركزية الأميركية "أكرمته" بأن جعلته وكيلاً في منطقة الشرق الأوسط لمجلة ريدرز دايجست الشهيرة التي تنفث بها هذه المخابرات سمومها الفكرية في مختلف أنحاء العالم. وروى مرة أخرى حكاية مفادها أنه عندما كان مراسلاً صحافياً في الوفد الذي رافق زعيم الاتحاد السوفياتي حينذاك نيكيتا خروتشوف من موسكو إلى أسوان للاحتفال بافتتاح السد العالي هناك ناداه مرة خروتشوف في أثناء الرحلة وقال له: "..تعال أُسمعك خبراً هاماً يكسبك مالاً وفيراً إذا ما نقلته إلى أصدقائك..". وكان الزعيم السوفياتي الذي اشتهر بنكاته الهادفة يقصد المخابرات المركزية الأميركية بكلمة "أصدقائك" هذه. وقد اعتاد هذا الكاتب تصوير نفسه بأنه من خاصة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وذلك ليعطي وزناً لحكاياته الكاذبة وليوفر لنفسه حماية أدبية بالسيرة الوطنية للرئيس، مع أنه كان كثيراً ما يقوم بأداء خدمات مفضوحة للمخابرات الأميركية بدسّ أخبار ملفقة في الصحيفة التي كان يرأس تحريرها. وفي مرة من المرات عاقبه المرحوم عبد الناصر بطرده من وظيفته هذه فما كان منه إلا أن ذهب ليلاً من القاهرة إلى الاسكندرية، حيث كان الرئيس يصطاف هناك عام 1958، وارتمى باكياً على قدميه طالباً العفو… إنه النموذج لأولئك العملاء الذين توكل إليهم مخابرات أميركا تخريب صفوفنا بالدسائس والكذب. وفي هذه الأيام التي تستعد فيها الإنسانية لدخول عصر القرن الواحد والعشرين والتي بلغت فيها الإمبراطورية الأميركية العالمية أوجها تعمل الرجعية الأميركية على ترسيخ أسس نظامها العالمي مادياً وأيديولوجياً، فدفعت في منطقتنا العربية، كما فعل الإنجليز في الماضي عندما دعوا إلى تأسيس الجامعة العربية بمعزل عن الجماهير العربية، إلى إقامة تجمعات إقليمية غايتها إجهاض الوحدة العربية الحقيقية التي هي ثورة إنسانية كبرى لا بد من أن تؤدي إلى تقويض تلك الإمبراطورية الأميركية وبالتالي إلى نهاية الطور الرأسمالي العبودي. وفي ذات الوقت يقوم عملاؤها بتصفية نهائية لحركة تحرير فلسطين بقيادة عرفات، هذه الحركة التي لم تعد حركة تحرير لفلسطين (فتح) بعد أن أعلن قادتها تخليهم عن التحرير وقبلوا أن يعملوا على إقامة كيان هزيل يكون "عزقة" تصل إسرائيل بالأردن وبالتجمع الذي انتمى إليه مؤخراً هذا القطر العربي. ونجد في ذات الوقت قيام الندوات الفكرية المشبوهة إلى جانب بحوث الانحرافات المختلفة وتغطية طبيعة وهوية الاستعمار الأميركي. ويدلي كاتبنا الآنف الذكر بدلوه حالياً فيطلع علينا بسلسلة مقالات ينشرها هنا وهناك في عالمنا العربي يتناول فيها أحداث المنطقة في الخمسينات من هذا القرن. فإلى جانب "تفتيت" تاريخ أمتنا المعاصر ثم إعادة تركيب "نتفه" على هواه، حيث يحرف الكلم عن مواضعه، يدسّ هذا الكاتب في هذا التركيب أخباره الكاذبة وتصوراته السامة، ويعطينا في النتيجة صورة تغيب فيها جماهير أمتنا عن مسرح الأحداث وتغدو مجرد ألعوبة تسيّرها قبضة من الأفراد بحسب هذه الصورة المزورة. فالظروف والدوافع في هذا الاتجاه أو ذاك ليست بحسب مزاعم هذا الكاتب من حصيلة الأوضاع المادية للجماهير وإنما من صنع أولئك الأفراد وكأنهم آلهة السماء. فالناس نتيجة لهذا الرأي، الناس الذين طالما حلموا مع محيطهم العربي بالخلاص من شتات الجاهلية إلى توحيد الشمل في دولة واحدة تضم كل الأقطار العربية، هؤلاء الناس الذين لبّوا نداء التاريخ وقاموا بما يجب عليهم أن يقوموا به في ظروف حققتها جماهير أمتهم بثمن باهظ من التضحيات المريرة الجسيمة طوال عصور مديدة من الجهاد في سبيل الإعداد لبلوغ الهدف في الخلاص، بحاجة إلى من يعلمهم بأنهم عرب ليقوموا بما قاموا به وينفّذوا ما أوكلت إليهم تنفيذه طبيعة الأشياء فأدوا وظيفتهم الموكلة إليهم في وسط جماهيرهم المجاهدة!…

جلاء المستعمرين عن سورية

 

لم يستكن أبداً الشعب السوري للاحتلال الأجنبي من ميسلون عندما استشهد البطل قائد الجيش السوري يوسف العظمة حتى جلاء المستعمرين في السابع عشر من نيسان عام 1946. فثوراته وانتفاضاته لم تتوقف أبداً من ثورة هنانو في الشمال إلى ثورة صالح العلي في الغرب، إلى الثورة الكبرى العامة فالانتفاضات التي لم تهدأ أبداً حتى جلاء المستعمر.

وكان المستعمرون الفرنسيون الذين أُجبروا على عقد معاهدة إلغاء الانتداب والاعتراف باستقلال سورية عام 1936 ثم نكلوا عن التصديق على هذه المعاهدة قد عادوا بقيادة ديغول ليلقوا تحت ضغط ظروف الحرب العالمية الثانية من طائراتهم على المدن السورية الرئيسية مناشير يعترفون بها باستقلال سورية، وذلك عشية مجيئهم مع الإنجليز في الثامن من حزيران عام 1941 لطرد السلطات الفيشية التي كانت قائمة فيها. ثم جاء ديغول بذاته إلى سورية وأكد اعتراف دولته باستقلال سورية وإلغاء الانتداب الفرنسي عليها بخطاب ألقاه في الجامعة السورية في دمشق في 29 تموز عام 1941. ولكن السلطات الديغولية بعد اعترافها هذا باستقلال سورية قامت بتعيين حكومة عميلة ونصّبت الشيخ تاج الدين الحسيني رئيساً للجمهورية الأمر الذي يتنافى مع هذا الاعتراف. واستمرت مقاومة الشعب السوري لهذا الحكم المباشر الأجنبي من خلال حكومات عميلة إلى أن اضطر الفرنسيون في آخر الأمر إلى استدعاء المرحوم عطا الأيوبي لتشكيل حكومة مؤقتة في 25 آذار 1943 وإجراء انتخابات نيابية. وفازت القوائم الوطنية بأكثرية ساحقة وتم انتخاب المرحوم شكري القوتلي أبي الجلاء عن أرض الوطن رئيساً للجمهورية في 17 آب 1943. وطلبت الحكومة الوطنية برئاسة المرحوم سعد الله الجابري من الدول الأجنبية الاعتراف بسورية كدولة مستقلة، فاستجاب لها عدد من الدول من بينها الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية والصين وغيرها من الدول. وأعلنت سورية الحرب في 26 شباط 1945 على دول المحور لتكون عضواً في الأمم المتحدة. وبناءً على هذا الأمر وُجِّهت إلى سورية الدعوة لحضور المؤتمر التأسيسي لهذه الهيئة الدولية في سان فرنسيسكو في ذات الشهر المذكور. وكانت سلطات الاحتلال الفرنسي تنظر إلى هذه الأمور بعين الغضب وتتحين الفرص لتوجيه ضربة إلى مظاهر هذا الاستقلال وإعادة سورية إلى شبكة الاستعمار. ففي الرابع ثم السابع عشر من أيار عام 1945 نزلت في ميناء بيروت قوات مشاة فرنسية تتألف على التوالي من كتيبة ولواء، وذلك لتعزيز القوات الفرنسية المتواجدة حينذاك في سورية استعداداً لشن العدوان الكبير. وقد قدمت الحكومتان السورية واللبنانية احتجاجاً شديد اللهجة إلى المفوض السامي الجنرال بينيه على هذا التصرف الماس باستقلال هذين القطرين العربيين.

وكان الجيش السوري يشكل مع الجيش اللبناني ما يسمى "القطعات الخاصة" التي كانت جزءاً من المصالح المشتركة بين سورية ولبنان. وتضم هذه المصالح الجمارك وحصر الدخان (الريجي) وتشرف عليها وتديرها مباشرة سلطات الانتداب الفرنسي. وكانت وارداتها المالية تغطي تكاليف إدارات الانتداب ورواتب موظفيها ومصاريف الجيشين السوري واللبناني. وقد تشكلت، منذ أواسط الثلاثينات من هذا القرن، في هذين الجيشين خلايا الضباط القوميين العرب بهدف العمل على دعم الحكم الوطني في القطرين الشقيقين وتحقيق جلاء المستعمرين عن أراضيهما مع العمل في سبيل تحقيق الوحدة العربية. وكانت الخلايا تضم كثيرين من الضباط والعسكريين نذكر منهم على سبيل المثال مأمون البيطار وأديب الشيشكلي ومحمد صفا وصلاح الشيشكلي وسرّي الربّاط وابراهيم أتاسي وفتحي أتاسي وصبحي العقيلي وصلاح البزري وعفيف البزري وغيرهم. وكانت الروح الوطنية تتأجج بشكل عام في صدور أولئك العسكريين المنتسبين للجيشين المذكورين. وقد تجلّت هذه الروح بحادث وقع أثناء الاحتفالات بتخريج دورة ضباط عام 1944 من الكلية العسكرية في حمص في أواسط شهر تموز، وهذه كانت دورة المرحوم أمين النفوري. وقد ظهر بجلاء في هذا الحادث أن ولاء العسكريين السوريين واللبنانيين كان لحكومتيهم الوطنيتين وليس لقيادتهم الفرنسية. فقد كان في مقدمة المدعوين، لأول مرة في تاريخ هذه الكلية، وزير الدفاع السوري المرحوم جميل مردم وكان إلى جانبه القائد العام الفرنسي لجيوش الشرق. وعندما وصل الوزير السوري إلى مدخل الكلية وشاهده العسكريون السوريون واللبنانيون، وهم: أطقم الكلية وتلاميذها وخريجوها وضباط موقع حمص ودورة طبوغرافيا تتألف من نحو عشرين ضابطاً سورياً ولبنانياً كنت أنا واحداً منهم كما كان منهم أيضاً المرحوم الشهيد جان نجيم الذي تسنّم قيادة الجيش اللبناني فاغتالته المخابرات المركزية الأميركية بحادث يشبه حادث اغتيال المرحوم الشهيد رشيد كرامة ليأتي إلى قيادة الجيش خلفاً له اسكندر غانم الذي كان متقاعداً يعمل في مكتب الملحق العسكري الأميركي والذي اغتال مكتبه الثاني المرحوم الشهيد معروف سعد وفجّر الأوضاع في لبنان وفجّر معها الجيش اللبناني، نقول إنه عندما ترجل الوزير جميل مردم من سيارته عند مدخل باحة الكلية وبدأ عزف النشيد السوري له لم يتمالك العسكريون العرب، ضباطاً وتلاميذ ضباط ورقباء وجنوداً، أنفسهم واستبد بهم الشوق العارم للحرية فتركوا صفوفهم التي انتظموا فيها للاستقبال الرسمي لضيفهم الكبير وهرعوا راكضين من كل حدب وصوب نحوه ليحملوه على الأكتاف ويهتفوا له ويدوروا به في باحة الكلية أمام جنرالات الفرنسيين وضباطهم الذين تجمدوا هنا وهناك في زوايا الباحة وقد شلت المفاجأة تفكيرهم وعقدت ألسنتهم. ثم استمر الاحتفال على شكل مظاهرة وطنية بلغ فيها الحماس أقصاه، وقد انسحب منه الفرنسيون وتركونا نحن العرب نتمه فكان فاتحة احتفالات الجلاء المجيد عن أرض الوطن. لذلك قال السفاح الجنرال أوليفا روجيه في تعميمه رقم 24 ب على الضباط والجنود الفرنسيين عشية ارتكابه مذبحة 29 أيار عام 1945 في دمشق: "إن العسكريين العرب في جيش الوحدات الخاصة لا يمكن الاطمئنان إليهم وانحيازهم لحكومتهم الوطنية أمر منتظر..".

وسوَّف الفرنسيون تسليم قطعات الجيش السوري إلى الحكومة الوطنية وماطلوا في الجلاء عن أرض الوطن بعد أن وضعت الحرب أوزارها في الثامن من أيار عام 1945 وانقطعت كل حجة لاستمرار وجودهم العسكري. وكانت تدور محادثات عقيمة بين الحكومتين السورية واللبنانية من جهة وبين الفرنسيين من جهة أخرى حول إعادة تلك القطعات العسكرية إلى حكومتيهما الوطنيتين وتنفيذ الجلاء. وفي السابع عشر من أيار عام 1945 أعلن المفوض السامي الفرنسي الجنرال بينه للرئيس شكري القوتلي بحضور وزير الخارجية جميل مردم أن فرانسة مستعدة للقيام بإعادة الجيشين السوري واللبناني إلى حكومتيهما لقاء معاهدة تمنحها قواعد عسكرية، برية وبحرية، في كل من الدولتين العربيتين وتبقي لها قيادة الجيشين المذكورين. وأكد هذا الجنرال عرضه هذا خطياً لكل من حكومتي سورية ولبنان بتاريخ 18 أيار عام 1945. واجتمع لذلك في 19 أيار عام 1945 مندوبو الحكومتين العربيتين في شتورة واستعرضوا الموقف ثم قرروا في النتيجة قطع تلك المفاوضات العقيمة مع الجانب الفرنسي. وقد أُبلغت السلطات الفرنسية بهذا القرار في العشرين من الشهر المذكور، كما أُبلغت به الحكومات العربية وحكومات الدول الأخرى. وكان الفرنسيون في الواقع يعدّون العدة للانقضاض على استقلال الدولتين العربيتين، سورية ولبنان، وتحطيمه وإعادة حكمهم المباشر فيهما. وما كان من باب الصدف أن مجيء الجنرال بينيه إلى الرئيس القوتلي ليقدم مقترحاته الآنفة الذكر على شكل إنذار وقع في السابع عشر من أيار في ذات اليوم الذي تم فيه إنزال اللواء الفرنسي الذي ذكرناه أعلاه في ميناء بيروت لتعزيز قوات الاحتلال الفرنسي. وفي 23 أيار صدرت تعليمات الجنرال أوليفا روجيه بتفاصيل حركة العدوان الفرنسي على العاصمة السورية دمشق، كما صدر في 26 منه بلاغ آخر ينهيه هذا الجنرال السفاح بالعبارة التالية "..أطلب من العسكريين الفرنسيين الصبر بضعة أيام، وقد لا يتجاوز صبرهم بضع ساعات وعند ذلك نشرع بالمجزرة الكبرى، وليكن كل واحد منكم مستعداً وسنصفي الحساب كله بضربة واحدة..".

ووجه الجنرال أوليفا روجيه إنذاره إلى رئيس المجلس النيابي سعد الله الجابري وفيه بالإضافة إلى التهديد والوعيد "أمراً" بأن تقوم شرطة البرلمان بتحية العلم الفرنسي عند إنزاله في الساعة الخامسة عن سارية المندوبية الفرنسية الواقعة في مواجهة البرلمان في العدوة الأخرى من الشارع. وكان مقرراً أن تعقد في تلك الساعة جلسة لنواب الأمة. فرفض الجابري إنذار السفاح الفرنسي، وأبلغ النواب إلغاء جلسة الساعة الخامسة من بعد ظهر ذلك اليوم، كما أمر شرطة المجلس أن لا تشترك باحتفال إنزال علم الأجنبي المحتل لأرض الوطن. وكان ذلك السفاح المستعمر قد اختار ذلك اليوم وتلك الساعة للقيام بذبح نواب الأمة عند عقد جلستهم المقررة فيها. ففي الساعة الخامسة والنصف من مساء ذلك اليوم التاسع والعشرين من شهر أيار عام 1945 انصبت نيران المدفعية والرشاشات على البرلمان السوري. ثم تقدمت المشاة الفرنسية واحتلت مبناه بعد مقاومة باسلة من رجال الشرطة السورية حرسه الذين ما كان عددهم يتجاوز الثلاثين ولا يملكون من الأسلحة سوى مسدساتهم وبضع بنادق. وقام المتوحشون البرابرة بمجزرة رهيبة ذبحوا فيها أولئك الأبطال ومثّلوا بهم بتقطيع أوصالهم بالبلطات، ثم نهبوا ما يمكن نهبه وحطموا ما لا يحمل وتركوه قاعاً صفصفاً بعد أن كان تحفة من روائع اليد الدمشقية في العمار وفن التزيين. وكان المستعمرون في أثناء ذلك ينفذون خطة السفاح أوليفا روجيه في احتلال بعض المواقع في دمشق وقصف الأحياء السكنية الآمنة بالمدفعية وقنابل الطائرات وقتل المارة الآمنين في الشوارع العامة وهدم وإحراق الدوائر الرسمية. ولكن المقاومة الشعبية قامت بالرد الفوري والعفوي على أولئك البرابرة الهمج ومنعتهم من استباحة المدينة وحصرتهم في ثكناتهم وفي بعض الأحياء التي اعتادوا ارتيادها وسكناها. ودامت المعركة طوال ليل ونهار الثلاثين من أيار وامتدت إلى ما بعد ظهر الواحد والثلاثين منه. وكانت المقاومة قد عمّت البلاد السورية منذ العشرينات من أيار. فاندلعت ثورة حماة في السابع والعشرين من أيار وكبّدت الفرنسيين خسائر فادحة وأوقعت الهزيمة بحملاتهم وتمكنت من الاستيلاء على بطارية مدفعية ذاتية الحركة من عيار 75 مم أميركية الصنع إلى جانب غنائم أخرى كبيرة من الأسلحة والمعدات وإبادة عدد كبير من المعتدين المستعمرين. وكانت فائدة هذه البطارية كبيرة جداً لنا في مقاومتنا للصهاينة في جيش الإنقاذ عام 1948 لا سيما في معارك باب الواد عند حصار القدس اليهودية ومعركة اللطرون عندما سحقنا بها هجوماً للصهاينة وملأنا سهل عمواس بجثثهم. وتمكنت المقاومة في حلب من حصر الفرنسيين في ثكناتهم وتحرير المدينة. وطُرِد المستعمرون من أقضية حلب والجزيرة ومن مدينة دير الزور. وحرر ثوار جبل العرب جبلهم واحتلوا ثكنات المستعمرين ورفعوا عليها العلم السوري. كذلك حرر الثوار درعا وإزرع وطردوا المستعمرين من محافظة حوران. وجلا الفرنسيون عن حمص تحت ضغط المقاومة كما طردوا من الساحل السوري. وقد سقط خلال نصف شهر، من عشرين أيار حتى الخامس من حزيران، نحو 620 شهيداً من المقاومة السورية إلى جانب ألفين ومائة جريح.

وكانت السلطات الفرنسية في التاسع عشر من أيار قد اعتقلتني أنا وشقيقي صلاح الدين البزري في مدينة حمص حيث كنت ضابطاً في كتيبة مدفعية وكان شقيقي مدير مكتب الموقع للهندسة، ونقلنا إلى السجن العسكري في بيروت الـ (D.T.L) حيث التقينا برفيقنا الضابط سرّي الربّاط الذي أوقف في بيروت. ولم تطل إقامتي كثيراً في هذا السجن فقد تمكنت في الساعة الثانية من بعد منتصف ليلة الخامس من حزيران من الفرار منه والالتحاق بالحكومة الوطنية في دمشق. وقد صادفت أثناء فراري وابتعادي عن السجن شيخين، رجل وامرأته، يتسامران على باب خان يخصهما، وطلبت مساعدتهما فلبيا طلبي في الحال وقالت لي تلك الأم العربية المسنة، وهي تلوّح بعصاها: "تعال يا بني، إن فرانسة كلها لن تستطيع أن تأخذك مني!..". وقادني هذان الشيخان الطيبان، وهما من آل العيتاني الكرام، إلى بيت في المنطقة قضيت فيه بقية الليل، وفي اليوم الثاني خرجت بحماية شابين بطلين من العائلة الكريمة المذكورة رافقاني بسيارتهما من بيروت إلى بيت والدي في دمشق.

 وكانت السلطات الانجليزية قد تدخلت وأعادت القوات الفرنسية إلى ثكناتها وحاصرتها فيها. وتألفت لجان للعمل على تشجيع وتسهيل انسحاب العسكريين السوريين، والعسكريين العرب والمسلمين كالجزائريين والأفارقة، من مختلف القطعات الباقية بقيادة فرنسية والتحاقهم بالسلطات الوطنية السورية. وقد عمل في هذه اللجان في البدء العسكريون السوريون واللبنانيون الذين سبقوا زملاءهم بالالتحاق بالسلطات الوطنية السورية، وبعض الشخصيات المدنية كالنائبين في البرلمان السوري الأستاذ أكرم الحوراني والأستاذ عبد الرحمن الهنيدي والأستاذ صلاح البيطار وغيرهم. وكان عدد هذه اللجان يزداد بما كان ينضم إليها من العسكريين الملتحقين بالسلطات الوطنية كل يوم. الأمر الذي أضعف قبضة المستعمرين الفرنسيين وجعلهم يدركون عدم جدوى إصرارهم على عدم تلبية تسليم ما بقي من القطعات الخاصة، لا سيما أسلحة ومعدات هذه القطعات، لأن عسكرييها كانوا يلتحقون بالسلطات الوطنية في دمشق كل يوم مع عدد غير قليل من العرب المغاربة والمسلمين الأفارقة، بحيث لم يبقَ منهم كثير في صفوف أولئك المستعمرين. وبالفعل أذعنت السلطات الفرنسية لطلب الحكومتين العربيتين، سورية ولبنان، وتم تسليم بقايا القطعات الخاصة في صيف عام 1945، وبقيت مسألة الجلاء الأجنبي عن أراضي هذين القطرين العربيين.

وكانت بريطانيا تراقب ما يجري في سورية ولبنان، طوال وجودها أثناء الحرب إلى جانب الفرنسيين كسلطة احتلال أخرى في هذين البلدين العربيين، وتحاول توجيه الأحداث في اتجاه يعزز وجودها في المنطقة العربية المشرقية: في أقطار مصر والأردن والعراق والخليج وعمان وعدن التي كان لها فيها قواعد عسكرية واجتماعية قوية. كانت تعمل على الحلول مكان الفرنسيين في سورية ولبنان استعداداً لمواجهة المسيرة الأميركية حينذاك نحو هذه المنطقة بمزيد من القواعد والأنصار. فالأميركان، كما مر معنا في الفصل السابق، كانوا في تلك الأثناء جادين في عملية بناء إمبراطوريتهم العالمية، وكانت الصهيونية قد انحازت إليهم بشكل حاسم بعد انهيار النازية في أوروبا التي أصابها الدمار الشامل بنتيجة الحرب. فكانت بريطانيا إذن في ظل هذه الظروف تحاول تعزيز مواقعها الاستعمارية في عالم هذا الاستعمار الجديد إلى جانب بُناته الأميركان، لا سيما في منطقة النفط الشرق أوسطية وعلى طريق مناطق الثروات الأسطورية حول المحيط الهندي وفي الشرق الأقصى. يقول ديغول في مذكراته: "..غير أن بريطانيا كانت تسعى إلى فرض زعامتها على الشرق الأوسط بأكمله دون الالتفات إلى الوجود الفرنسي فيه، بحيث كانت تعمل في الخفاء حيناً لبسط سيطرتها على سورية ولبنان، وفي الجهر حيناً آخر…". انتهى قول ديغول. كانت إذن السلطات البريطانية شريكة الديغوليين في احتلال دولتي المشرق العربي سورية ولبنان تشجع كل ما يسيء إلى الوجود الفرنسي فيهما في حدود مصالحها الاستعمارية. كانت مثلاً تؤيد إلغاء الانتداب الفرنسي وجلاء جيوش فرانسة عن هذين القطرين لتسهيل ضم سورية إلى العراق أو الأردن حيث يحكم هذين القطرين العربيين نظامان أنشأتهما مدرسة الجاسوس البريطاني الشهير لورنس، مع إقامة حكم موال لبريطانيا والصهيونية في لبنان. وسنعود بالتفصيل إلى هذا الأمر في دراستنا هذه. وهنا نقول إنه بعد أن جرت الانتخابات النيابية في شهر تموز عام 1943 وفاز فيها الوطنيون تشكلت حكومتان عربيتان وطنيتان في كل من دمشق وبيروت. وقد قلنا أعلاه إن شكري القوتلي انتخب رئيساً للجمهورية السورية بنتيجة تلك الانتخابات. أما في لبنان فقد تم انتخاب بشارة الخوري رئيساً للجمهورية وعيّن رياض الصلح رئيساً للوزراء وحميد فرنجية وزيراً للخارجية ومجيد أرسلان وزيراً للدفاع. وفي شهر تشرين الثاني من العام المذكور طرحت الحكومة اللبنانية قانوناً تلغي فيه كل الامتيازات الاستعمارية للسلطات الفرنسية بدون عقد أية معاهدة مع هذه السلطات. فجن جنون الفرنسيين وقام هيلُّو المفوض السامي الفرنسي باعتقال رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء والوزراء وزجّ بهم في قلعة راشيا. ولكن وزير الدفاع الأمير مجيد أرسلان تمكن من الإفلات والذهاب إلى الجبل حيث أعلن استمرار الحكم الوطني والثورة على الفرنسيين ومقاومتهم. فسارع تشرشل عندئذ أمام الغليان العام في كل العالم العربي وأمام الاستنكار العالمي لهذا العمل الفظيع الذي قامت به سلطات فرنسية ما زالت بلادها هي بالذات تئن تحت ربقة الاحتلال الأجنبي وهي تسعى وتستجدي الرأي العام العالمي لمساعدتها للخلاص والتحرر، نقول سارع تشرشل في هذه الظروف إلى إنذار الفرنسيين بإعادة الأوضاع في لبنان إلى ما كانت عليه خلال ثمانية وأربعين ساعة تنتهي في الثاني والعشرين من شهر تشرين الثاني. وتكرر ذات الشيء بعد ظهر الحادي والثلاثين من شهر أيار عام 1945 عندما أنذر البريطانيون الفرنسيين وأمروهم بسحب قواتهم من الشارع السوري إلى ثكناتهم ومعسكراتهم. ولكن الإنجليز بعد تطور الأحداث إلى الحد الذي وصل فيه الوضع الفرنسي في القطرين العربيين إلى أدنى درك من الضعف والخذلان عادوا وأبرموا مع فرانسة في شهر حزيران عام 1945 اتفاقية بيدو ـ بيفان، وزيري خارجية البلدين المستعمرين، وهي تنص على الجلاء التدريجي وإبقاء قوات احتلال تضمن سلامة المصالح المزعومة في كل من سورية ولبنان. واتبعت، من ثم، الحكومتان الاستعماريتان خطة التسويف والتأجيل في تلبية طلب الجلاء عن أراضي القطرين الشقيقين. وكانت كل دولة من هاتين الدولتين المستعمرتين كثيراً ما تلقي مسؤولية عدم تلبية طلب الجلاء على الأخرى فتقول مثلاً الواحدة: "لتجلُ الأخرى كي أقوم أنا بدوري بالجلاء!..". وأخيراً تقدمت الدولتان العربيتان بشكوى إلى الأمم المتحدة ضد الدولتين الاستعماريتين ونوقشت القضية في مجلس الأمن حيث طالب الاتحاد السوفياتي بالجلاء الفوري للجيوش الأجنبية عن أراضي الدولتين العربيتين العضوين المؤسسين لتلك المؤسسة الدولية العالمية فلا يجوز تواجد جيوش أجنبية على أراضيهما دون إذن منهما، ثم استعمل المندوب السوفياتي فيشنسكي حق النقض في 18 شباط 1946 ضد قرار أميركي يسوِّف أيضاً في عملية الجلاء ويجعلها رهينة مفاوضات تطول وتطول. عند هذا الحد وجد المستعمرون الإنجليز والفرنسيون أن بقاء جيوشهم في سورية ولبنان مستحيل في ظل الأوضاع العالمية الجديدة وأمام استمرار المقاومة الشديدة لجماهير هذين البلدين وواقع أن الجلاء الفرنسي عن سورية كان من الناحية العملية قد تمّ بمعظمه بحيث لم يعد لهؤلاء المستعمرين حينذاك سوى وجود عسكري ضعيف جداً في هذا البلد العربي نتيجة ثورة أهله المشار إليها أعلاه، نقول عند هذا الواقع لم يجد المستعمرون بداً من تنفيذ الجلاء. فكان أن غادر آخر عسكري مستعمر سورية في الساعة التاسعة من الخامس عشر من نيسان عام 1946، وتبع هذا جلاء المستعمرين عن لبنان أيضاً.