الفصل الثالث

على طريق التحرر

 

المجتمع السوري بعد الجلاء

 

كان عدد سكان القطر السوري عندما جلت الجيوش الأجنبية عن أراضيه في عام 1946 نحو أربعة ملايين نسمة. وكان اقتصاده متعدد الفروع يقوم على الزراعة والتجارة والتوسط والحرفة والصناعة الناشئة والسياحة وبعض المداخيل الأخرى التي منها مثلاً ما يحوله المهاجرون والعاملون خارج حدود القطر من أموال إلى ذويهم.

 وتقول بعض الإحصائيات إن الزراعة كانت تعطي نحو 50% من الدخل القومي في الوقت الذي يعيش فيه نحو 75% من السكان من الأعمال المتعلقة بالزراعة بشكل مباشر بينما كانت تشكل الصادرات الزراعية الخام والمصنعة نحو 85% من الصادرات التي توفر بصورة أساسية ما كان يحتاجه القطر من العملات الأجنبية. وتبين هذه الصورة بسهولة شدة الحيف اللاحق حينذاك بالفلاحين وبالفئات الأخرى المساعدة في القطاع الزراعي عند توزيع الدخل القومي على مختلف فئات السكان: إن 50% من الدخل القومي يوزع على 75% من السكان، وفيهم الفلاحون ومساعدوهم في الإنتاج الزراعي كحرفيي القرى أو المرتبطين بالقرى وأمثالهم، بينما يوزع النصف الآخر من الدخل القومي على ما بقي من سكان القطر الذي يشكل ربع السكان. فإذا قلنا أن هناك الإقطاعيين وكبار التجار والمرابين الذين يحصلون على الحصص الكبيرة في توزيع الدخل، وأن هناك أيضاً الرأسماليين الاحتكاريين الأجانب المشترين لمنتوجاتنا الزراعية بالرخص والبائعين لمنتوجاتهم المصنّعة بالغلاء نجد أن حصص المنتجين الكادحين الزراعيين كانت ضئيلة جداً بالمقياسين المحلي والعالمي. ونجد من جهة ثانية، بحسب الإحصاء الآنف الذكر، أن النشاط الاقتصادي الآخر الذي يعطي النصف الباقي للدخل القومي لا يجلب من العملات الأجنبية سوى نسبة 15%، أي ما يزيد قليلاً على سدس ما يجلبه الإنتاج الزراعي. فيكون إذن في هذه الحالة معظم ثقل علاقات قطرنا غير المتكافئة مع النظام الرأسمالي الاحتكاري العالمي يقع أيضاً على عاتق الكادحين في القطاع الزراعي وفي القطاعات الأخرى المتممة. ولكن القطر السوري مع هذا، من الناحية المعاشية، كان يبدو أفضل بكثير من معظم الأقطار العربية الأخرى ومن أقطار العالم المتخلف الذي كان يرزح حينذاك تحت ثقل الاستعمار القديم. فمشاهد البؤس والشقاء التي كانت تقوم في بعض أقطار العالم المتخلف، كأقطار أميركا اللاتينية مثلاً والهند ومصر، ما وجدت على الإطلاق في سورية: كان الفلاح السوري على العموم يجد دوماً ما يقوم بأوده في قريته، وبالتالي كانت الهجرة الريفية إلى المدن في قطرنا محدودة حينذاك. أما الحد الأدنى لدخل الفرد في المدن فكان على العموم يتجاوز ضعف أو ثلاثة أضعاف مثيله في مصر مثلاً. وقد شهد قطرنا السوري نهضة صناعية كبيرة وسريعة قامت على مواردنا الخاصة وبرؤوس أموال سورية صرف ودون أية مساعدة أجنبية أو عربية في الفترة المنقضية بين الاستقلال والوحدة السورية المصرية. فعدد العمال مثلاً ارتفع خلال عقد ونصف من الزمن من بضعة آلاف إلى أكثر من مائة ألف عامل يعملون في الصناعة الخفيفة الحديثة وفي صناعة إنتاج مواد البناء، بالإضافة إلى أكثر من ربع مليون شغّيل في قطاع النقل والتجارة والتوزيع، وبالإضافة إلى أكثر من أربعين ألف حرفي في مختلف الورشات والحرف السورية المتنوعة ذات الشهرة العالمية.

إن سورية، ككل قطر عربي آخر، بلد من العالم الثالث يقع تحت قهر النظام الرأسمالي الاحتكاري العالمي. وقد مرّ معنا فيما سبق من هذه الدراسة بعض خواص هذا النظام الاستعماري العالمي الذي يمر حالياً، منذ ثورة أكتوبر وقيام الاتحاد السوفياتي، بمرحلة الزوال ليحل مكانه نظام لطور أعلى من أطوار الجملة الإنسانية. فمن البديهي إذن أن يكون للنظام خواص وأن تكون الخاصة الأساسية للنظام الرأسمالي الاحتكاري العالمي متجلية بقهر المتقدم المستعمر للبلد المتخلف. وعندما تنتفي هذه الخاصة فيزول الاستعمار من الدنيا فإن هذا النظام يزول بداهة ويحل محله ذلك النظام للطور الأعلى. ونجد في آخر الأمر أن تخلّص قطر من التخلف في جملة المجتمعات الإنسانية الحالية لا بد من أن يكون بالتخلص من النظام الرأسمالي الاحتكاري الذي يفرض خاصته الآنفة الذكر فيديم تخلف المتخلفين لصالح المستعمرين. فتقدم المتخلف في إطار هذا النظام يبقى لذلك محدوداً وتبقى ارتباطات هذا المتخلف بمستعمريه قائمة إن لم تتفاقم. فسورية مثلاً بعد أن تخلصت من الاحتلال الأجنبي تقدمت اقتصادياً بعض الشيء، ولكنها بقيت منخرطة في النظام الرأسمالي الاحتكاري العالمي وبقي شعبها في أغلال الاستعمار الجديد كما بقي اقتصادها متخلفاً رهن النظام العالمي لهذا الاستعمار . وهنالك أيضاً العديد من المشاكل الأخرى يسببها هذا النظام العالمي للمتخلف، مشاكل يرتبط بعضها ببعضها الآخر فلا يمكن مواجهة الواحدة منها دون أن تعترض الأخريات، ونجد في نهاية الأمر أنه لا بد من أن يتحرر المتخلف من النظام العالمي المذكور ليتخلص من مشاكله التي منها تخلفه الاقتصادي والاجتماعي. فالاستعمار مثلاً مزّق الأمة العربية بعد أن هدم دار الإسلام وجعل منها أقطاراً عديدة متخلفة متنافرة، وسلب قطراً من أقطار وطننا هو القطر الفلسطيني وأقام عليه قاعدته التي تشكل الكيان الصهيوني. فهذه المشاكل وغيرها مترابطة ولا يمكن الخلاص منها نهائياً إلا بالتحرر من نظام المستعمرين.

وسورية جزء من المنطقة الحضارية المؤلفة من وادي النيل ومن الإهليلج الخصيب الذي يحيط بالصحارى العربية ما بين المحيط الهندي جنوباً وجبال طوروس وكردستان شمالاً وبين الأبيض المتوسط غرباً والهضبة الإيرانية شرقاً. وهذه منطقة أقدم وأعرق الحضارات الإنسانية ومنطلق ثورات التوحيد لتحرير الإنسان من كل عبودية وقهر. وهي مفتاح الطرق إلى ثروات العالم الأسطورية، فهي لذلك موضع أطماع كل طامع بنهب تلك الثروات في أقطار آسيا وأفريقيا. وقد حمل أهلها دوماً رسالة الدعوة إلى تعاون بني الإنسان وتكاملهم وتكافلهم بشتى ثوراتهم التوحيدية ليقوموا على الوجه الأكمل بوظيفتهم الإنسانية التي أهّلهم لها موقعها المتوسط من أوطان العالم وليردوا الطامعين بحرمانهم من هذه الوظيفة بانتحالها أو تعطيلها. فالصليبيات التي منها حالياً إقامة الكيان الصهيوني في فلسطين ليست إلا لتثبيت أقدام أولئك الطامعين في منطقتنا لينفذوا منها إلى مناطق الثروات الأسطورية المحيطة بالبحر الهندي وفي شرقي آسيا. وكذلك كانت إسرائيل محرساً يراقب للمستعمرين منطقة الاحتياطي العالمي للنفط محرك الحضارة المعاصرة. ثم إن تفتيت الوطن العربي يشكل سبباً أساسياً في تخلف أقطاره ووقوعها جميعها في شباك النظام الرأسمالي الاحتكاري العالمي القائم حالياً بشكله الجديد بزعامة الولايات المتحدة الأميركية، الشكل الذي أتينا على وصفه فيما سبق من هذه الدراسة. فخلاص سورية إذن من تخلفها ليس مسألة اقتصادية فحسب وإنما هو أيضاً مسألة قومية تاريخية تتضمن عدداً من الجوانب لا بدّ لتحقيقه من حلها جميعها وفي مقدمتها جانب تمزق أمتنا. ولكن وحدة الوطن العربي وخلاص هذا الوطن من نظام الإمبراطورية الأميركية العالمية يشكلان بداهة ضربة مميتة توجه إلى قلب هذه الإمبراطورية القائم في منطقة هذا الوطن، وبالتالي يشكلان نهاية مرحلة انتقال الجملة الإنسانية لتبلغ هذه الجملة عتبة الطور الأعلى المقبل بعد اندثار الطور العبودي الرأسمالي.

التيارات الوطنية في الأقطار العربية

 

قلنا إن المستعمرين الأوروبيين مزقوا شمل أمتنا وجعلوا من وطنها أقطاراً متنافرة ومتخلفة اجتماعيا. وقد بسطوا عليها شبكة علاقاتهم الرأسمالية الظالمة التي لا تنفك عن العمل في كل الفرص لزيادة ذلك التمزق ولتعميق التخلف فيها. فالقضية الأساسية أمام الحركات الوطنية العربية تتلخص إذن بالخلاص من هذه الشبكة، بالخلاص من النظام الرأسمالي الاحتكاري العالمي. وقلنا أعلاه إن هذا الأمر يعني قيام الدولة العربية الاشتراكية الكبرى التي تضم كل أقطار أمتنا، ويعني أيضاً بالضرورة ضرب الرأسمالية الاحتكارية العالمية في قلبها القائم في الوطن العربي، أي الوصول بالجملة الإنسانية إلى عتبة طورها الأعلى وإزالة العبودية الرأسمالية فيها. ولكن كيف نصل إلى هذه الغاية وعلى أي طريق؟.. إن كفاح أمتنا في مختلف أقطارها ضد المستعمرين القدماء والجدد هو في جوهره كفاح من أجل الخلاص من نظام القهر العالمي وليس هنالك من معنى آخر لهذا الكفاح: من غير المعقول أن نكافح لنبقى محكومين بنظام القهر الاستعماري، كما أنه كثوار على الظلم لا يمكن أن نسعى للتقدم من أجل الوصول إلى أن نصبح شركاء لقاهري الإنسان وناهبي ثرواته الرأسماليين الاحتكاريين، وهذا على كل حال أمر غير متيسر لنا ونحن محكومين بحالة التخلف التي وضعنا فيها المستعمرون. فلننظر إذن عن قرب إلى مختلف أشكال الكفاح الذي مارسه قطرنا السوري، فهذه الأشكال لا تتغير كثيراً عندما ننتقل إلى أقطار عربية أخرى. ولننظر أيضاً إلى مختلف مذاهبنا التي دفعتنا في هذا القطر لنعمل على الخلاص من قهر المستعمرين. ويجب أن لا يغرب عن بالنا عند الكلام عن طبقات المجتمعات المتخلفة أن جميع فئات هذه المجتمعات هي على العموم فئات مقهورة يستغلها المستعمرون ميسورة كانت هذه الفئات أم فقيرة. فالتاجر أو البرجوازي هنا لا يشبه نظيره في البلاد المتقدمة، فهو لا يتعدى كونه وكيلاً لمصالحه الاستعمارية في بلده المتخلف، وهو جوهرياً بهده الصفة يتميز عن متوسطي الحال وعن الفقراء من مواطنيه.

أولاً- الإقطاع والبورجوازية:

قلنا أعلاه إن دخل الإنتاج الزراعي في الاقتصاد السوري كان يشكل في أعقاب الجلاء نسبة 50% من مجموع الدخل القومي الذي هو ما يبقى للبلد بعد ضياع قسم كبير من قيم الإنتاج بنتيجة النهب الرأسمالي الاحتكاري الاستعماري. وقلنا أيضاً إن هذا الدخل يذهب بمعظمه إلى خزائن الإقطاعيين وشركائهم من كبار التجار والوسطاء، فلا يبقى للكادحين الفقراء ومتوسطي الحال والمُتَعَيِّشَة سوى نصيب ضئيل. فقبل الإصلاح الزراعي مثلاً بلغت الملكيات الإقطاعية التي تزيد على مائة هكتار نسبة تقدر بنحو 50% من الأراضي المستثمرة. وكان الأغنياء من الفلاحين الذين لا يمثّلون أكثر من 6% من سكان الريف، بحسب الإحصاءات عند صدور قانون الإصلاح الزراعي عام 1958، يملكون 35% من مجموع الأراضي الزراعية المستثمرة. أما كبار التجار في المدن الرئيسية السورية، وخاصة منها مدينتي دمشق وحلب، فقد كان باستطاعتهم تأسيس صناعات حديثة كبيرة بأموالهم الخاصة وأموال المساهمين الآخرين ودون أية مساهمة أجنبية أيام الحرب العالمية الثانية وفي أعقابها. فقامت مثلاً في دمشق الشركة الخماسية لإنتاج أنواع النسيج وشركة الإسمنت وقبلها في حلب معامل الغزل والنسيج ومعامل حلج الأقطان وغير هذا من المشاريع الصناعية الحديثة. وقد قلنا أعلاه إن قطرنا السوري حقق بعض التقدم في اقتصاده بعد الجلاء، ولكن الإقطاع والبورجوازية الوطنية على اختلاف أشكالها الصناعية والتجارية والعقارية، هذه الطبقة، كانت تؤمن بأن جلاء الأجنبي عن أرض الوطن يكفي لحل جميع مشاكل العرب في الوقت الذي كانت تفتقر هي فيه إلى العقيدة الصحيحة لبناء ستراتيجية توصلها إلى تحقيق البدء بالثورة العربية الكبرى للخلاص من شبكة المستعمرين.

وقد ردد الرئيس شكري القوتلي الذي مثّل أفضل تمثيل هذه الطبقة في كل الخطب والكلمات التي كان يلقيها في شتى المناسبات المعاني التالية التي أتت في خطاب له يوم عيد الجلاء عام 1956: "..إننا نحمل أعباء رسالة قومية في هذا العالم، هي في الصميم رسالة إنسانية، مبعثها كل ما في ضمير هذا الشرق من أسمى مبادئ الدين القويم، والخلق النبيل. وليس في ديننا أو أخلاقنا أو تقاليدنا إلا كل دعوة إلى الخير والتسامح وعدم التفاضل بين الناس إلا بما يقدّمون بين أيدي ربهم من حسنات. ونحن العرب إنما نؤمن بحق تقرير المصير لجميع الشعوب الطامحة إلى حياة الكرامة والحرية. ونؤمن بأن لا سبيل إلى سلام عادل في الأرض إلا إذا احترم الأقوياء هذا المبدأ الإنساني الرفيع. فصراعنا مع قوى البغي والعدوان أينما كان هو صراع قومي وإنساني معاً. وكفاحنا ضد الصهيونية الباغية على الأخص ليس إلا جزءاً من هذه الرسالة أيضاً. إنما الصهيونية فتنة مدمرة ودعوة إلى الحرب الشريرة والوثنية الضالة ضد كل مبادئ الدين والأخلاق. وما فلسطين العربية المغتصبة سوى حرم المقدسات وأرض الخير والرفق والسلام. ومن أجدر من العرب بحفظها ورعايتها تحقيقاً لأسمى مبادئ الحق والسلام..". ولقد كان الرئيس القوتلي يعبر على الدوام عن الإرادة التي لا تتزعزع للشعب السوري بأن يُستكمل الجلاء بالوحدة الشاملة لأمته على كامل أرض وطنها بعد القضاء على كل علاقة استعمارية عندما كان يردد المعاني الآنفة الذكر في كل خطبه وكلماته. ولكننا نعود ونقول مرة أخرى إن تحقيق هذا الأمر هو بحد ذاته ثورة إنسانية كبرى لها دعوتها وطريقها وجهادها.

فالأقوياء الذين ورد ذكرهم في الكلمة السابقة هم المستعمرون ومن المستحيل أن يحترم هؤلاء حقوق الأمم دون قسرهم وكسر شوكتهم وإزالة نظامهم العالمي المبني على استعباد الإنسان. وفي الواقع، إن الطبقة التي حكمت سورية بعد الجلاء، وهي طبقة الإقطاع والبورجوازية التي قادت بلا منازع جهاد الشعب السوري ضد المستعمر الغاصب طوال مدة الانتداب تحت أعلام الكتلة الوطنية، بدت حينذاك "مرتاحة ومقتنعة إلى درجة الشعور بالاكتفاء" بما حصل من استقلال سياسي لوطنها السوري. لقد شعرت بأنها أصبحت في موقع "السيادة" على هذا الوطن بدلاً من المستعمر الذي جلا، وبأن بإمكانها تحسين موقع "إقطاعها" هذا في جملة النظام العالمي. ولكن المستعمرين لم يتركوا لها هذا "الحلم الجميل" تنعم به طويلاً. فالتغيرات التي خلفتها الحرب العالمية الثانية أخذت تعصف بالكيانات الاستعمارية القديمة. وكانت الولايات المتحدة الأميركية تعمل، كما مرّ معنا في فصل سابق، على صياغة الاستعمار الجديد ببناء إمبراطوريتها العالمية في الوقت الذي كانت فيه الاحتكارية البريطانية تسعى إلى بناء وتوطيد كيان لها في النظام العالمي الجديد إلى جانب الأميركان الزعماء الجدد للاستعمار في العالم. وكان الهجوم الصهيوني على القطر الفلسطيني قد بلغ أقصى درجات الشدة ولكن في هذه المرة بالشكل الأميركي، بدلاً من الشكل الإنجليزي الذي قام في فترة ما بين الحربين العالميتين، وذلك لإقامة قاعدة الاستعمار الجديد في قلب وطننا العربي بدولة إسرائيل. واشتد الغليان الثوري وعمّ في كل الأقطار العربية من المحيط إلى الخليج. وما كانت تلك الطبقة الحاكمة في سورية ممالئة للمستعمرين ومستسلمة لمخططاتهم، بل إنها وقفت على العموم في صف مقاومة مشاريعهم. فهي على كل حال قد نبتت في تربة إنسان هذه المنطقة ذي الماضي العريق بالحضارات وبالصراع مع الصليبيات العدوانية الطامعة. وقد قلنا إنها قادت الجهاد من أجل جلاء المستعمر عن أرض الوطن. وما كانت الفئات المفرّطة بحقوق الوطن بينها والمحالفة للمستعمرين إلا قلّة ضئيلة منبوذة لا حول لها ولا طول حتى في أيام الاحتلال الأجنبي. ولكنها كانت غارقة في عمايات الجهل والجاهلية، وكانت قد جمّدت بوثنيتها مُثُلَ أمتها التاريخية الثورية وجعلت منها مجرد ذكريات "مقدسة" للاجترار كذكريات النبلاء المفلسين. أما المقاومة لمشاريع المستعمرين فما كانت تمس نظامهم العالمي واقتصرت على محاولات إصلاح ما يسببوه لقطرنا من أذى دون العمل الجدّي للخروج من عالمهم العبودي بالعمل على اقتلاع هذا النظام من أرض الوطن. فقيام القاعدة الصهيونية في فلسطين مثلاً كانت، وما تزال، في ظنهم حدث يهودي منفصل عن البنية العالمية الاستعمارية، والتخلف هو أمر يمكن تلافيه "بالشطارة" وتقليد "حذق" المتقدمين فهو ليس نتيجة لعبودية نظام هؤلاء "المتقدمين" في العالم، ليس الظاهرة الطبيعية الضرورية لهذا النظام العبودي بحسب هذا الظن. بل إن بريق الأمل الخلّب باكتشاف روح العدل والإنصاف في المستعمرين كان، وما يزال، الهادي لتصرفات هذه الطبقة. وقد عبر الرئيس القوتلي عن هذا الأمر بكل وضوح بعبارته التالية التي وردت أعلاه بخطابه بعيد الجلاء عام 1956: "..ونؤمن بأن لا سبيل إلى سلام عادل في الأرض إلا إذا احترم الأقوياء هذا المبدأ الإنساني الرفيع (مبدأ حق تقرير المصير لجميع الشعوب الطامحة إلى حياة الكرامة والحرية)…". مع العلم أن هؤلاء "الأقوياء" هم الذين لا ينفكون عن تعذيب الإنسانية بعدوانيتهم وشرههم منذ ابتلاء أميركا اللاتينية بهم، ومنذ إبادتهم للهنود الحمر، حتى يومنا هذا. وهم الذين أبادوا مئات ألوف الأنفس بقنابلهم الذرية لمجرد تجريب هذا السلاح في الإنسان وتجمعاته وممتلكاته دون أية ضرورة عسكرية.

ولم ترَ الطبقة الحاكمة في سورية واقع عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية على حقيقته لتحيي ما تجتره من ذكريات الأجداد العظام، الذكريات التي يعبّر عنها نشيدها الوطني. لم تعمل على إحياء هذا الماضي بوعي العالم الموضوعي وروح المؤمن المصمم كما فعل أولئك الأجداد العظام في عصورهم، أو كما فعلت هي بالذات عندما قادت مقاومة احتلال المستعمر لأرض الوطن. لم ترَ نشوء الاستعمار الجديد من بين أنقاض الاستعمار القديم، بل إنها تغاضت عنه إن لم نقل أنها ساعدته في تمكين جذوره في أوطانها فأضاعت تلك الفرصة الذهبية لخنقه في مهده قبل أن يستفحل شره وتترسخ أسسه ويتوطد بناؤه بتمام بناء إمبراطوريته الجديدة المتعددة الرؤوس بزعامة أكبرها الذي هو الولايات المتحدة الأميركية. مع أن رياح الاستقلال السياسي التي هبت في أعقاب الحرب العالمية الثانية كانت مؤاتية بشكل جيد جداً كي تقوم هذه الطبقة بدعوة جدية ومخلصة تؤول إلى توحيد أقطار أمتنا العربية، أو توحيد معظمها، تحت راية ترتكز على مفاهيم تقدمية عصرية: كانت رجعيات العرب وانتهازيوهم يشكلون السد الأول والأقوى في طريق الوحدة.

ولننظر عن قرب إلى مسألة الوحدة العربية. فمن البديهي أن هذه المسألة تقوم على أن هناك أمة عربية نشأت وارتقت عبر تاريخ طويل شمل أطواراً إنسانية بكاملها بتفاعل مختلف فروعها في مجمل أرض وطنها المعروف جغرافياً. وهذا ينفي بطبيعة الحال ما تطرحه بعض العقائد الشوهاء كالتي تعيد مثلاً فضل نشوء هذه الأمة إلى فرع واحد من فروعها الذي خرج حصراً من الجزيرة العربية نتيجة صدف تاريخية لينتشر في أرجاء الوطن المذكور و "يُعَرِّبَ" و "يدمج" في كيانه مختلف الفروع الأخرى التي تبدو في النتيجة بحسب هذه النظرة الخاطئة فروعاً غريبة طارئة على العروبة. والواقع أن نتاج تفاعل كل هذه الفروع بدون استثناء وعلى مدى تاريخ كاف أكسبها جميعها صفة العروبة بالتساوي وجعل منها كائناً مادياً واحداً هو الأمة العربية. أما اللغة الواحدة فهي التعبير عن أن هذا الكائن موجود قائم حي. وعلى هذا الأساس، أساس التاريخ المشترك المتشابك بالتفاعلات لمختلف فروع الأمة في نشوئها وارتقائها، تقوم مختلف الظواهر الأخرى للأمة في كل ظرف من ظروف جملة المجتمعات الإنسانية: في ظروف عبودية النظام الرأسمالي لجملة المجتمعات الإنسانية تكون الأمة العربية مثلاً غير موحدة ومتخلفة مادياً وروحياً ولكنها مع ذلك تكون في تميّز يوحدها بين الأمم الأخرى بخواصها المشتركة بنتيجة نشوئها وارتقائها: إن إنسان كل الأقطار العربية مثلاً له ذات النفسية المكوَّنة عبر العملية الواحدة لنشوء أمته وارتقائها وله ذات الطموحات التي يأتي في مقدمتها الخلاص من التمزق والتشرذم وتحقيق وحدة هذه الأمة إلى جانب لسان واحد يعبّر به بلغة قرآنه عن عالمه الروحي الواحد. لذلك فإن توحيد أمتنا العربية وخلاصها من التخلف في هذا العصر هو بالضرورة ثورة واحدة للخلاص من النظام الرأسمالي الاحتكاري العالمي. فهذا النظام لا يوحد ما مزقه من الأمم إلا بالعبودية والتخلف الاجتماعي تماماً كما وحد العرب مثلاً في جامعتهم العربية وجاهليتهم المعاصرة، أو كما دفعهم مؤخراً إلى تجمعاتهم التي برزت في الشمال الأفريقي والمشرق العربي والخليج العربي، التجمعات التي يراد بها إجهاض الكفاح العربي في فلسطين الذي هو أيضاً في جوهره كفاح أمتنا من أجل الخلاص من قهر نظام المستعمرين العالمي والوصول إلى توحيد أمتنا. ونختصر ونقول إن توحيد أمتنا هو زحف ثوري يهدم ويجرف في طريقه الحواجز والسدود ويقتلع التخلف وكل مرتكزات النظام العبودي الرأسمالي المتجلّي بمختلف الأنظمة الرجعية والانتهازية ومختلف قواعده التي تأتي إسرائيل في مقدمتها ليقوم جسم الأمة حياً على كامل أرض وطنها.

وقد انقسمت طبقة الإقطاع والبورجوازية السورية حول مسألة الوحدة وانقسمت معها الكتلة الوطنية التي قادت النضال ضد الاحتلال الأجنبي إلى حزبين: الحزب الوطني وحزب الشعب، وبينهما المستقلين. فحزب الشعب الذي قام رسمياً في 15/8/1948 بنتيجة مؤتمر انعقد في فالوغا كان ميّالاً إلى الوحدة مع العراق الذي كان يقوم فيه العرش الهاشمي وتحكمه مدرسة أسسها رجل المخابرات البريطانية الشهير لورانس. والدافع إلى هذا الاتجاه في هذا الحزب قام على أسباب اقتصادية وعقائدية. فحلب مركز ثقل حزب الشعب مدينة صناعية تزدهر تجارتها مع تحسن الأحوال الاقتصادية للشمال السوري كله بفتح أسواق العراق: كانت حلب في السلطنة العثمانية ولاية هامة تمتد علاقاتها التجارية في أعماق الأناضول والعراق وإيران وتصل إلى الهند براً. وبعد انهيار السلطنة العثمانية واقتسام الأراضي العربية بين المستعمرين، حيث كان العراق والأردن وفلسطين من نصيب الإنجليز وكان لبنان وسورية من نصيب الفرنسيين، تقلصت العلاقات الاقتصادية الآنفة الذكر لحلب وكادت تقتصر على الشمال السوري. وما كان في أيام الانتداب الفرنسي لسورية منفذ على البحر إلا من خلال ميناء بيروت القريب من دمشق. أما ميناء مدينة اللاذقية القريب من حلب فما كان موجوداً عند جلاء الفرنسيين عن سورية. ونجد من جهة أخرى الدافع العقائدي لحزب الشعب للسعي إلى إقامة الوحدة مع العراق فيما كان يردده في كل المناسبات المرحوم هاشم الأتاسي، رئيس الكتلة الوطنية طوال عهد الانتداب والأب الروحي لحزب الشعب، من أقوال مفادها أن: "في عنقه بيعة للبيت الهاشمي". وكان بقوله هذا يشير إلى يوم الثامن من آذار عام 1920 عندما نادى المؤتمر السوري برئاسته باستقلال سورية الطبيعية، من مصر حتى جبال طوروس ومن البحر حتى العراق، وبفيصل بن الحسين ملكاً عليها: لقد غدا الثامن من آذار واحداً من أعيادنا الوطنية بعد جلاء الأجنبي عن أرض الوطن. وكان أيضاً لدعوة الوحدة مع العراق صدى مستحباً في نفوس الجماهير السورية أيام الاحتلال الفرنسي. فالعراق كان قد نال استقلالاً حينذاك بموجب معاهدة تبقي النفوذ البريطاني فيه بينما كان الفرنسيون يصرون على إطالة عمر انتدابهم على سورية بكل الوسائل التي منها نكولهم عن تصديق معاهدة عام 1936 التي أبرمتها الكتلة الوطنية معهم والتي تُبقي لهم نفوذاً في سورية كشبيهه الإنجليزي في العراق. فكانت الجماهير السورية لذلك تجد في الوحدة مع العراق خلاصاً من الانتداب الفرنسي وكسباً لوحدة مع قطر شقيق وإن شاب هذه الوحدة ذلك النفوذ للمستعمر البريطاني. إلا أن علينا هنا التأكيد مرة أخرى على أن توحيد الأقطار العربية بهذا الشكل وفي مثل تلك الظروف لا يشكل إن تم سوى تحصيل حاصل لا يغير شيئاً من واقع العدوان الاستعماري على أمتنا الذي جعلها في علاقات نظام الرأسماليين العالمي سجينة قفصهم: إن الأمة العربية، وكل أمة مزقها الاستعمار، تكون، ما دامت تكافح من أجل البقاء، موجودة، وتمزقها بالنظام الاستعماري ما هو إلا ظاهرة سطحية عابرة لوجودها الرسمي، ولكنها تبقى كائناً مادياً واحداً نشأ وارتقى عبر التاريخ. فالأمة الحية بكفاحها تشغل بحياتها هذه أرض وطنها بكل أقطاره فتوحد هذه الأقطار بوجودها فيها من فوق كل الحدود والسدود التي أقامها الاستعمار في ظروف عابرة، كما لا تشكل أنظمتها الرجعية والانتهازية المتناقضة المتعارضة سوى زبد وبثور على السطح. فهي ما دامت معطلة الإرادة بتبعيتها لنظام المستعمرين العالمي ومحرومة في هذا النظام من العلاقات الداخلية والخارجية للأمم الحرة تكون مبتلاة بأمراض المستنقع الرأسمالي التي منها هذه الأنظمة البثور التي حكامها لا يَعْدُونَ كونهم "وقّافين" على مصالح المستعمرين. وفي هذه الصورة للواقع، وما دامت الأمة في قفص المستعمرين، فإن كل سعي إلى تشكيلة لا تخرجنا من هذا القفص أو لا تقرّبنا على الأقل من الخروج منه يكون سعياً باطلاً لا نفع فيه. فالمسألة تبقى إذن مسألة الخلاص والتحرر من نظام المستعمرين العالمي، مسألة الثورة على هذا النظام لإزالته والوصول بجملة المجتمعات الإنسانية إلى عتبة الطور الأعلى.

وكان إلى جانب التيار الوحدوي الخُلَّبي الآنف الذكر تيار آخر يقوم في صفوف طبقة الإقطاع والبورجوازية السورية الحاكمة ويعارض بشدة الهاشميين ومن ورائهم الإنجليز. وكانت الأسرة العلوية الحاكمة في مصر حينذاك مع الأسرة السعودية تساند هذا التيار الأخير بكل ما في استطاعتها. فالقطران السوري والمصري شكّلا دوماً الركيزتين المتكاملتين للاتصال الاقتصادي الآسيوي الأفريقي. وكانت الوحدة السورية العراقية، وحدة الهلال الخصيب، تخيف السعوديين الذين يرون فيها تفاقماً خطراً لنفوذ الأسرة الهاشمية في المشرق العربي، سيما وأن هذه الأسرة كانت تحكم الحجاز ولها أطماع في بناء عرش هاشمي على كل منطقة الإهليلج الخصيب الذي يحيط بسورية الطبيعية وما بين النهرين والجزيرة العربية. وكانت البورجوازية الدمشقية بغالبيتها تحبذ التقارب مع مصر والسعودية بقوة وتجد في هذين القطرين سوقاً واسعاً لتجارتها بالإضافة إلى أن لها ارتباطات تاريخية اقتصادية واجتماعية بهما: إن مدخل طريق التوابل الذاهب إلى مناطق الثروات الأسطورية في المحيط الهندي وشرقي آسيا عبر الجزيرة العربية يقوم في سورية ومصر، بينما يقوم مدخل الطريق الأسطوري الآخر طريق الحرير الذاهب إلى الصين وتفرعاتها في شرقي آسيا عبر إيران وأواسط آسيا في سورية والعراق. وقد نشأت أمتنا العربية وارتقت في خضم الدفاع عن وظيفتها في حفظ مفتاح هذين الطريقين وسدانتهما ضد الطامعين الأغراب وخدمهم المحليين، ضد الرأسماليين الصهاينة حالياً وخدمهم من الأنظمة العربية. وكان الحزب الوطني السوري يمثّل التيار الثاني الآنف الذكر، كما كان الرئيس شكري القوتلي الأب الروحي لهذا الحزب.

وكان من الواضح أن مثل هذه التيارات التي رفعت شعارات متعارضة لوحدة أمة عربية واحدة كانت تغفل عن عمد أوعن جهل مغزى وأخطار الدفع الاستعماري في هذا الاتجاه أو ذاك في هذه القضية: كان الإنجليز وراء التيار الهاشمي لتعزيز مواقعهم في نظام الاستعمار العالمي، بينما ساند الفرنسيون السعوديين والمصريين ضد الهاشميين ليحتفظوا بمواقع لهم في سورية ولبنان، أما الأميركيون فكانوا يعملون على اقتلاع الاستعمارين الإنجليزي والفرنسي من المنطقة لبناء استعمارهم الجديد العالمي فيها. وكانت البورجوازية مع الإقطاع تتعامى على الأخص عن أن النظام الاستعماري العالمي بكل أوجهه القديمة والجديدة لا يسمح إلا بمزيد من تخلف وتمزق الأمم، فلا تتخذ لذلك الموقف القومي اللازم في هذه القضية من هذا النظام، وإنما كانت وما تزال تنشط وهي منخرطة تماماً فيه، فكانت شعاراتها الوحدوية ومساعيها لتحقيق هذه الشعارات لا تخرج عملياً عن محاولات السير في الطريق الذي يؤمّن مصالحها الضيقة والمحدودة والتافهة نسبياً مع مصالح المستعمرين.

ثانياً: العقائديون:

إن علينا التزاماً بالواقع وحقيقته أن نؤكد على أمور إيجابية في إنسان مجتمعنا العربي. فنقول إن هذا الإنسان بمختلف مواقعه الطبقية سليل حضارات يطول إحصاؤها والكشف عن خواصها. ولكن بإمكاننا أن نشير إلى أن هذه الحضارات بتجاربها المُرّة والحلوة التي تكررت طوال عصور عديدة مديدة جعلت من مجتمعها التربة الصالحة لنشوء وارتقاء العقائد الإنسانية السمحة التي كانت تُجْمِلُها وتعبّر عنها، في مختلف أطوار مسيرة تقدم إنسان تلك الحضارات، ثورات التوحيد الداعية دوماً إلى الأخذ بكل أسباب التقدم الروحي والمادي في إطار أخوّة بني البشر وتعاونهم وتكاملهم وتكافلهم. وهنا يجب علينا أن نفصل بين ما ينشأ ويستفحل على تلك العقائد الثورية بمرور الزمن من وثنيات تحرف أصحابها عنها وبين أصولها، وأن ننتبه إلى أن لكل عقيدة زمانها وظروفها وإن كان لها دوماً محتوى واحداً هو تقدم الإنسان في الإطار الآنف الذكر لأُخوّته. أي باختصار: إن إنساننا العربي ثار على العبودية دوماً وهو يستنير بعقيدة تناسب ظروفه الموضوعية وتشكل بالضرورة آخر درجة على سلم ارتقاء عقائد ثوراته في سلسلة حضاراته التاريخية. فلننظر إذن فيما يلي إلى مقدار استجابة التيارات العقائدية الأساسية التي كانت تقوم في سورية، بعد جلاء المستعمر عنها، لهذه القاعدة. ولكن لنقل سلفاً إن جميع هذه التيارات العقائدية كانت معقدة بشكل أو بآخر ببريق الحضارة العبودية الرأسمالية، وكان لثقافة هذه الحضارة تأثير كبير في تشويه رؤيتها الصحيحة للكون "فتستعير أصالتها" في كثير من الأحيان من دروس جامعاتها وبحوث مستشرقيها كهنة عبوديتها المرسلين إلينا. ثم إننا هنا لا نعرض بشكل خاص كل عقيدة من العقائد المشار إليها آنفاً بتفاصيلها فهي لها باحثوها المختصون وبحوثها التي يمكن الرجوع إليها، وإنما سنكتفي منها بما يفيد بحثنا الحالي.

جماعة الأخوان المسلمين

 

 يمكن القول أن الإسلام مرّ بثلاثة عصور يتميز كل عصر منها بداهة بظروفه الموضوعية:

 العصر الأول: عصر البناء العقائدي والمادي للطور الإسلامي العالمي ودار الإسلام، العصر الذي قام فيه طور الحرفة الحرة والتجارة العالمية النشطة بعد زوال طور الرق. وفي هذا العصر الذي امتد بصورة عامة فشمل أزمنة الدعوة والخلافتين الراشدية والأموية برزت الأمة الإسلامية ككيان بشري يضم العديد من الأجناس المترابطة بعقيدة الإسلام كما يحتوي على أجناس أخرى تلتزم بالنظام الإسلامي دون الالتزام بالعقيدة الإسلامية. وظهر في هذه الأمة بطبيعة الحال كثير من الشيع والفئات الاجتماعية المتناقضة والمتعارضة مادياً وفكرياً بنتيجة تكوّنها. ولكن الجهاد من أجل نشر العقيدة الإسلامية وتحرير البشر من الوثنيات كان الفرض الأول على المؤمن بهذه العقيدة فيؤديه الجميع بدون استثناء، كل بما يناسب ظروفه الخاصة، بالعمل على هدم أنظمة العبودية وبالسعي إلى إقامة أقرب نظام ممكن مادياً إلى جوهر العقيدة الإسلامية وذلك بحسب اجتهاد كل فئة من الفئات الإسلامية: لم تَدْعُ أي من الفئات المتعارضة المتناقضة حينذاك إلى نبذ الإسلام وبناء عقيدة أخرى تخالفه وتعاديه بل كان الجميع يسعون باسم الإسلام إلى أهدافهم الاجتماعية السياسية و غير السياسية فلا مجال إذن لأي فرقة من تلك الفرق الإسلامية أن "تحتكر" عنوان الإسلام في دعوتها ما دام الجميع يحتجون بجوهر الإسلام، يحتجون لتعزيز دعوتهم وكفاحهم بجوهر الإسلام. وانتهى الأمر في النتيجة إلى أن جهاد المسلمين نقل العالم إلى الطور الإسلامي الآنف الذكر بإقامة دار الإسلام كعقد وسيط يربط جمل المجتمعات الإنسانية في مناطق الحضارات العالمية الأولى الثلاث: حضارة البحر الأبيض المتوسط وحضارة الهند وحضارة الصين، ويضع هذه الجمل الثلاث في جملة إنسانية واحدة تشمل كل العالم المعروف حينذاك ويسود فيها النظام الإسلامي العالمي.

العصر الثاني: عصر دار الإسلام الذي شمل كل الأزمنة التالية التي ازدهرت فيها هذه الدار ثم تفسخت سياسياً وفي النهاية تمزقت وانهارت بحملات المستعمرين الأوروبيين الرأسماليين عليها. وفي خضم أحداث هذه الدار الواسعة الشاسعة كانت تقوم الدول وتدول بتنافس مختلف أقوامها فيما بين بعضها بعضاً. وكانت لا تنقطع حروب هذه الدار لترد عنها عوادي مختلف الأعداء وخاصة منهم أقوام أوروبا بقيادة رجعية عبودية وثنية تقودها البابوية التي كانت تحلم دوماً ببعث حكم الروم: إن مغاربة العرب حتى أيامنا هذه يطلقون اسم الروم على كل الأقوام الأوروبية غير المسلمة. وفي بدايات عصر الانحطاط قامت ممالك إسلامية لرد غارات الصليبيين المستشرية على دار الإسلام في الأندلس والمشرق العربي: قام الزنكيون والأيوبيون والمماليك الأتراك والمرابطون والموحدون إلخ… هنا نجد أن فريضة الجهاد اتجهت نحو العمل بكل الوسائل لترسيخ كيان الأمة الإسلامية روحياً وفكرياً ومادياً. فنجد الرشيد مثلاً قد اشتهر بأنه كان يحج سنة ويغزو سنة أخرى، بينما كان عصر المأمون قمة ازدهار الطور الإسلامي فكرياً ومادياً، وتلاه عصر المعتصم الذي غدا فيه المسلم وكل رعايا نظامه في أمن مطلق، فكانت جيوش الإسلام حينذاك تهرع بجبروتها مثلاً لإغاثة امرأة صاحت "وامعتصماه!..". ثم نجد الجهاد يقوم كما قلنا لرد أولئك الصليبيين الذين يقهرون في المشرق العربي بعد صراع مرير دام قرنين من الزمان، ولكن المسلمين فشلوا في رد الوثنية الصليبية في الأندلس فدالت دولهم هناك. ونجد هنا دعوتين تسترعيان الانتباه بالاتجاه الذي أخذته عقيدة كل منهما: دعوة "المرابطين" التي اتجهت، كما يدل عليه اسمها، إلى رد عادية الصليبية عن مغرب دار الإسلام العربي والأندلسي بالمرابطة والسهر الدائم، ودعوة "الموحدين" التي اتجهت إلى صد تلك الصليبية ذاتها عن المنطقة المذكورة من دار الإسلام برفع شعار التوحيد في وجه الفرق الإسلامية المتعددة هناك والمتناحرة وفي وجه الشرك الصليبي ووثنية المسلمين الذين تعددت معبوداتهم بتعدد أهوائهم وتضاربها. ومع كل هذا وغيره لم يحاول أحد له أهميته ووزنه أن يجدد الدعوة للإسلام بين المسلمين فلم تقم فرقة مثلاً "تحتكر" لنفسها اسم الإسلام دون الفرق الأخرى، وإن تعددت حينذاك الاجتهادات وتعارضت في الإطار العام للعقيدة الإسلامية التي تمت بجوهرها يوم حجة الوداع للرسول الكريم: كان يحدث مثلاً أن الفرقة الإسلامية الواحدة ترمي منافستها أو منافسيها بالانحراف عن خط الإسلام وحتى بالكفر ولكنها ما كانت تدّعي بأنها هي كل المسلمين وإنما هي تجاهد من أجل المسلمين وعنهم. ونقول باختصار إن الإنسان المسلم الفعال، مع الراضي بالنظام الإسلامي، كان يجاهد، أو يسعى جهده، من أجل الدفاع عن داره القائمة على نظام عالمي ينادي بأُخوّة البشر وتعاونهم وتكاملهم وتكافلهم، ينادي بسلوك الطريق المستقيم المؤدي إلى الخلاص النهائي، روحياً ومادياً، من الاستعلاء والعدوان ومن كل قيد يخلّ بتكافؤ الفرص أمام كل الناس كي ينطلقوا جميعاً في دروب الكفاح من أجل التقدم والتغلب على سدود الطبيعة وصعوباتها. أي أن هذا الإنسان الفعّال مع مساعديه كان يقف في وجه الردة إلى الوثنية وجحيم الطغيان، كان يقف في وجه الردة التي كانت تعتمل في أوساط الأقوام الهامشية المحيطة بداره، لا سيما منها الأقوام الأوروبية بقيادة البابوية التي تمكنت في النتيجة من فرض نظام العبودية الرأسمالية على الجملة الإنسانية.

العصر الثالث: عصر تمزق دار الإسلام واستعمار أوطانها وخضوع أممها لنظام الرأسمالية وهو العصر الذي نعيش فيه حالياً. وفي هذا العصر، ككل عصر عبودي يكافح فيه الإنسان ليتحرر وينطلق في طريق التقدم الروحي والمادي، نجد أنفسنا كعرب مسلمين عقيدة أو نظاماً، كعرب لهم تاريخ ثوري طويل في الكفاح ضد التعددية الوثنية الممزِّقة للمجتمع الإنساني بأنظمة القوى الغاشمة المتنافرة بطبيعتها وأطماعها، كعرب موحدين في كل الميادين الروحية والمادية، نقول نجد أنفسنا بطبيعة وجودنا امتداداً لذلك الواقع التاريخي الطويل المديد فيكون جوهر حياتنا الحالي إذن الاستمرار في التوجه في هذا الاتجاه الإنساني. ولا بد لأمتنا، بالتالي، من أن تسعى إلى التخلص من العبودية الرأسمالية لتعود إلى عتبة الطور العالمي الذي يوفر تعاون البشر وتكاملهم وتكافلهم، لا بد لها من أن تحقق ثورة تشكل حلقة جديدة في السلسلة الطويلة لثوراتها التاريخية ضد مختلف الوثنيات المحلية والعالمية.

إن من واجب المسلم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكانت إذن الأهداف التي توختها جماعات الأخوان المسلمين في بدايات ظهورها في مختلف البلاد السورية في نهاية الثلاثينات من هذا القرن، وهي التثقيف والتوجيه وتأسيس المدارس الليلية للعمال، من صميم واجبات المسلم. وكذلك كان انتقال هذه الجماعات بعد توحدها في جماعة واحدة للكفاح من أجل تحرير الشعب السوري من ربقة المستعمرين وقهرهم، مع التعاون مع الجماعات الإسلامية الأخرى في العالم من أجل تحرير المسلمين وبعث دارهم المهدومة من أول فرائض الإسلام. ولأداء هذه الفريضة لا بد من تحقيق الأمور التالية:

أ- تحديد هوية العدو وبشكل دقيق لا لبس فيه. فقد كان يكفي في الماضي إطلاق كلمة استعمار لتحديد هوية العدو المتمثل حينذاك بالاستعمار القديم لكثرة ما عانى الناس من هذا الشكل من القهر طوال عصور عديدة فعرفوه، كما كانت تكفي كلمة رأسمالية لتعريف العامل الأوروبي على هذا الأسلوب في الإنتاج لكثرة ما قام من جدل حوله في أوساط هذا العامل. ولكن الاستعمار الجديد الذي أقامته الولايات المتحدة الأميركية في أعقاب الحرب العالمية الثانية هو من التعقيد بحيث يتطلب فهمه وتحديد هويته وعلاقات نظامه المتشابكة كثيراً من البحث والاستقصاء. وهذه مسألة ما تزال حتى يومنا هذا بحاجة إلى المزيد من الاستجلاء أمام القوى التي تتصدى للكفاح ضد هذا الشكل الجديد للقهر العالمي. فالوثنيات وكثير من المفاهيم التي تكونت خلال الكفاح الطويل ضد الاستعمار القديم وتجمدت تشكل حالياً عند المناضلين والثوار حاجزاً يحجب عنهم واقع الحياة ويرميهم في متاهات لا مخرج منها ما دام قائماً في أذهانهم وممارساتهم.

إننا نكرر إذن ونقول إن القوى الوطنية في كل بلد في العالم الثالث مع القوى التقدمية لم تنتبه في أعقاب الحرب العالمية الثانية بشكل كافٍ ومُجْدٍ إلى خطورة الاستعمار الجديد الناشئ الذي أخذ حينذاك يستفحل ويفرض نظامه العالمي بإمبراطوريته المتعددة الرؤوس على كل العالم الرأسمالي بشقيه المتقدم والمتخلف. وكان وما يزال من أبرز الظواهر في هذا الاستعمار الجديد الحركة الصهيونية العالمية وقاعدتها المتمثلة بالكيان الإسرائيلي في فلسطين إلى جانب مرتكزاته الأخرى القائمة بمختلف الأنظمة التابعة. ولكننا نجد أن حركة الأخوان المسلمين في سورية التي حاربت وتحارب الكيان الصهيوني، قاعدة النظام الرأسمالي العالمي في فلسطين، تحالف في كثير من الأوقات الأنظمة العربية التي تشكل امتداداً للنظام العالمي المذكور الذي يقهر أمتنا. إن رسولنا ومعلمنا محمداً عليه السلام دعا خدم الروم والفرس من العرب ليدخلوا في دينه وينفضوا عن كواهلهم أعباء مستعبدي أمتهم ولكنه ما حالفهم أبداً بل حاربهم عندما رفضوا الاستجابة إلى دعوته، ثم أزال الإسلام ممالكهم الكرتونية ورماها في مزابل التاريخ.

ب- إن عنوان "جماعة الأخوان المسلمين" لا يكفي لتحديد هوية المكافح المجاهد في سبيل تحرير الأمة العربية أو الإسلامية. فهناك مثلاً كثير من المسلمين الذين انقلبوا إلى وثنيين بتجميد عقيدتهم وحشوها بالغيبيات التي ما أنزل الله بها من سلطان. ومنهم من أصبح في خدمة المستعمرين هادمي دار الإسلام فهو يسير تحت أعلامهم وفي ركابهم ضد أمته ودينه فهم لا يصلحون أبداً كجند للإسلام. كما إن هناك كثيراً من المسلمين المخلصين لتاريخهم ومعتقدهم الإسلامي وهم يخالفون "جماعة الأخوان المسلمين" في رؤيتهم للواقع ولا يوافقونهم في كثير من آرائهم. ونجد أن أقرب هوية للمكافح في سبيل التحرير من قهر المستعمرين في هذا العصر هي هوية الموحد الذي بلغ الكمال بالمسلم المجاهد من أجل إزالة كل نظام عبودي في العالم. فيكون مثلاً الصدام ورد العدوان الأميركي المعاصر بكل أشكاله في سورية بالنسبة إلى هذا الموحد جزءاً من الجهاد العالمي في سبيل تقويض الاستعمار الجديد الذي بنته وتزعمته الولايات المتحدة الأميركية. وعلى المسلم المجاهد عندئذ، أو بالأحرى على جماعة الأخوان المسلمين عندئذ أن يحددوا نصيبهم من الجهاد العالمي المذكور لتتحدد هويتهم وتتعين حدود مهماتهم الجهادية، الأمر الذي لم يحدث أيضاً.

ج- بناءً على ما تقدم، ولأننا لم نرَ حتى يومنا هذا أي محاولة منهجية جدية لاستخلاص جوهر الإسلام الحي من قيود الضرورات العابرة مع الزمان، ومن جمود الوثنيين الغيبيين وألاعيب الانتهازيين الشطار، نجد أنه كان من الطبيعي أن لا يكون لجماعة الأخوان ستراتيجية متماسكة ترسم لهم طريق الخلاص من النظام العبودي الرأسمالي. فالإسلام عندما قامت دعوته مثلاً حدد هويته بعقيدته التي بنى بها نفوس المؤمنين، كما حدد هوية عدوه الأكبر وهو نظام العبودية لاستعلاء الأقوى على الأقل قوة القائم على إباحة استرقاق الإنسان للإنسان مع القائمين عليه: من مشركي قريش وبقية العرب ويهود الجزيرة العربية وبقية موحديها الجامدين الوثنيين إلى قياصرة الروم وأكاسرة الفرس مروراً بخدمهم من أمثال الغساسنة والمناذرة. وكان هذا التحديد الدقيق للعدو، لعدو الإنسان، منزهاً كلياً عن الغمغمات والجمجمات الشبيهة بكل تلك التي تحاط بها هوية العدو الأميركي في أيامنا هذه. فكان الخط الستراتيجي الإسلامي واضحاً بسيطاً يتلخص بجعل الجزيرة العربية قاعدة الانطلاق لتقويض النظام العالمي العبودي حينذاك بعد تنظيفها من وثنيات المشركين واليهود والموحدين الآخرين الذين جمّدوا عقائدهم الأصلية واقتصروا منها على شعائرها وقشورها فأضاعوا التوحيد بِشِرْكٍ مناسب. وكان الهدف الستراتيجي الأساسي للإسلام لتقويض نظام الرق العالمي حينذاك: توجيه طعنة قاضية في قلب هذا النظام القائم في الإهليلج الخصيب المحيط بالجزيرة العربية ووادي الرافدين وسورية وفي وادي النيل. هذا القلب الذي تنازعه الروم والفرس خلال قرون عديدة لاحتكار لبنه وعسله والذي ما يزال حتى يومنا هذا يشكل بموقعه وثرواته والثروات المارة به والواردة إليه المضخة الأساسية التي تدفع في عروق الإمبراطورية الأميركية العالمية العبودية دماء الحياة، فهو إذن ما يزال الهدف الستراتيجي الأول لكل ثورة عالمية، الأمر الذي لا يتضح أبداً في كتابات الأخوان، كما لا يتضح أيضاً في كتابات وأهداف الحركات العقائدية الأخرى في سورية.

ونجد باختصار أن العقائديين في العالم الثالث، في أحزابهم وأهدافهم، ومنهم الأخوان المسلمون، كانوا عملياً لا يعطون الانتباه الكافي إلى التناقض القائم بين "الظن" الخادع بأن أمم الجملة الإنسانية، وخاصة منها أمم العالم الثالث، تتمتع باستقلال مطلق وبين الواقع المر الذي هو خضوع هذه الأمم للنظام الرأسمالي الاحتكاري العبودي السائد في الجملة المذكورة والذي يستفيد منه على التوالي أشد الناس قوة فالأقوياء فالأقل قوة إلخ… بحيث نجد أن الضعفاء هم مستعمرات اليوم في الاستعمار الجديد. ونتيجة لهذا تقوم المفارقة التالية في موقف العقائديين المذكورين الذين يسكتون عن انخراط بلدهم في ذلك النظام الاستعماري العالمي في الوقت الذي يظهرون "الانزعاج" و "يحتجون" عندما يقوم الأقوياء بانتهاك "استقلالهم المزعوم" بشكل أو بآخر في ظل العلاقات العبودية للنظام المذكور. والصحيح بداهة، والأجدر بهؤلاء العقائديين أن يمارسوا الثورة على هذا النظام العالمي لاقتلاعه من جذوره وإزالته نهائياً من الوجود وليس الدعوة فقط إلى الاحتماء من "صفعاته" أو السعي، غير المجدي للمقهور على كل حال، إلى مشاركة الأقوياء فيه، إلى توجيه "الصفعات" إلى الآخرين. إلا أن هناك ثواراً مسلمين ينعتون بالأصوليين، وهناك أخوتهم الناصريين في مصر، والمجاهدين عرب فلسطين، داخل فلسطين وحولها في القواعد، والمجاهدين اللبنانيين الصابرين، وغيرهم في كل أرجاء الوطن العربي، كل هؤلاء يبذلون الدم بسخاء في ميادين مقاومة الخيانة وقتال الأعداء الأميركان والصهاينة والمتأمركين والمتصهينين: يحاصرون الكيان الصهيوني بقواعدهم، ويقضّون مضاجع الأعداء بانتفاضتهم البطولية في القطر المحتل، ويقاومون امتداد الخيانة الساداتية في مصر بعد أن أبادوا صاحبها السادات، ويقاتلون الصهاينة والمتصهينين في لبنان، ويكافحون ويناضلون هنا وهناك في كل أرجاء الوطن، اليوم وغداً كما في الأمس وقبله، نقول إن كل هؤلاء يجاهدون ويبذلون دماءهم كما أمر به الإسلام فهم لذلك أقرب الناس إلى روح الإسلام وجوهره.

إن الأخوان المسلمين كانوا دوماً، ولعلهم لا يزالون، من الأعداء الألدّاء للاشتراكية العلمية فيكفّرون معتنقيها في الوقت الذي يبدون فيه "التسامح" و "المودّة" للغربيين المستعمرين. فكانوا في الخمسينات من هذا القرن على عداء شديد مع البعثيين والشيوعيين. يقول مثلاً الأستاذ عدنان سعد الدين، وهو من قادة الأخوان، في حديث صحفي للوطن العربي (عدد 27/5/1988): "قامت حركة الأخوان في حماة في أواخر الثلاثينات، ويقول البعض في عام 1939 بقيادة من الشباب المثقف والتجار في المدينة. وكانت تمثل كل القطاعات من بورجوازيين وممن يسمون بالإقطاع والطلاب والعلماء والفقراء. ولم تكن تمثل شريحة اقتصادية وهذه كانت من الحجج التي نواجه بها الشيوعيين لنسفّه بها التحليل الماركسي للرأسمالية والديالكتيك والصراع الطبقي…".

الحزب السوري القومي

 

انطلق أنطوان سعادة مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي في دعوته من عقيدة وضعها هو أولاً ثم بشّر بها وناضل واستشهد في سبيلها. ولعله كان هو وحسن البنّا مؤسس جماعة الأخوان المسلمين أول من جاهد واستشهد في هذا العصر من أمتنا العربية في سبيل الدعوة إلى عقيدة محددة متكاملة متفردة. فقد انطلق في دعوته من تحديد الهوية السورية القومية فقال: "..من نحن؟ وكان هذا السؤال الذي شغل فكري من أول بداية تفكيري الاجتماعى القومي..". وفي النتيجة قامت عقيدة الحزب على شعار "سورية للسوريين، والسوريون أمة تامة". وحدد سعادة الهدف الروحي لحركته فقال إنه " "بناء الإرادة العامة للأمة السورية التي تدفع إلى السعي نحو تحقيق الحرية بالالتزام بالنظام وتوفير القوة والقيام بالواجب". وقال: "إن هناك ارتباطاً عضوياً بين الأمة السورية وحدودها الجغرافية الوطنية، كما إن هناك وحدة عضوية للمجتمع السوري حصلت بنتيجة تفاعل تاريخي طويل للبشر في البوتقة الجغرافية السورية". وقال أيضاً في بحث بعنوان المبادئ: "إن الأحوال المشتركة للكنعانيين والآراميين والآشوريين والعموريين والميتانيين والأكاديين الذين يشكل واقع وجودهم وامتزاجهم حقيقة تاريخية وعلمية لا تنازع تجعل منهم الأساس العضوي التاريخي والثقافي بينما تشكل مناطق الهلال الخصيب، أي سورية الطبيعية، الأساس الجغرافي والزراعي والاقتصادي والستراتيجي لوحدة سورية". ويشرح سامي الخوري، وهو سوري قومي قيادي، أفكار سعادة في رد له على ساطع الحصري فيقول: "لقد قُسمت الأرض، إثر تغيرات جيولوجية معينة حدثت ما قبل التاريخ، إلى عدد من المناطق الجغرافية المتمايزة سكنتها طوائف متمايزة مستقلة جغرافياً عن بعضها بعضاً. وبمرور الزمن أصبحت علاقة الإنسان بالأرض لا مجرد إعمار ولكن تفاعلاً مع البيئة الطبيعية: بدأ الإنسان بترك آثاره على الطبيعة وكذلك بدأت هي بتكييفه. فكل منطقة جغرافية (على الكرة الأرضية) كان لها ملامح مميزة، وقد حدث أن التفاعل بين الإنسان والطبيعة الذي تم في كل منطقة قد اختلف من طائفة إلى أخرى، وقد زادت الحضارات المختلفة من حدة الاختلافات الآنفة الذكر، وفي النتيجة نمت ملامح خاصة لكل مجتمع. وقد توسعت هذه الملامح الخاصة وتطورت وأصبحت تمثل ما دعاه سعادة روح المجتمع أو الأمة. وتشكلت حدود سياسية على الحدود الطبيعية الجغرافية منعت سكان كل منطقة من التوسع وبهذا رسمت أمامهم طريقاً واحدا للحياة فيها، وبهذه الطريقة راحوا يشكلون مجتمعاً واحداً تسوده نفس الروح. وتشكل وحدة الروح القومية هذه مع مظاهرها الثابتة الوحدة الاجتماعية. فالمجتمع في روحه وميزاته يشكل وحدة لا نستطيع معها التمييز بين العنصر البشري الذي هو قوام البنية وبين الأرض التي هي القاعدة التي استقرت عليها هذه البنية". انتهت أقوال سامي الخوري.

وواضح أن أنطوان سعادة تأثر كثيراً في بناء عقيدته القومية السورية وإقامة تنظيمات حزبه شبه العسكرية بالعقائد النازية التي كان لها رواج كبير في عالم المستعمرات في الثلاثينات من هذا القرن، وذلك بسبب الكره الذي كانت تكنّه الشعوب المقهورة للاستعمار القديم الذي كانت النازية حينذاك تحاول هدمه لبناء استعمارها الخاص بها. ولكنه، أي سعادة، كان في عقيدته المذكورة يستند على وقائع تاريخية وموضوعية لا جدال في صحتها وهي أن أقوام الهلال الخصيب بنت الحضارات الأولى للإنسان وأن هذه الأقوام تفاعلت فيما بين بعضها بعضاً خلال حقب تاريخية طويلة. أما النازيون الذين ادعوا بتفوق عرقهم فقد افتقروا في دعواهم هذه إلى ما يشبه تاريخ الهلال الخصيب عندما كان أجدادهم أصول عرقهم يهيمون في غابات أوروبا وصحاريها الجليدية وهم في درك عميق من الانحطاط والتخلف. ومن البديهي أن يؤثر الإنسان في بيئته وأن يتأثر بها وأن تتفاعل أقوامه في بوتقتها لتتم تكوين مجتمعه فيها، إلا أن أية حدود جغرافية ما كانت تمنع أيضاً تفاعل أقوام تعيش في مناطق جغرافية مختلفة فيما بين بعضها بعضاً. فالهجرات الكبرى كانت تقوم فتنتقل أقوام برمتها من أقاصي الأرض إلى أقاصيها، كما فعل المغول مثلاً عندما انتقلوا من حدود الصين إلى أوروبا غربي آسيا، وكما فعل الأتراك بهجراتهم من أواسط آسيا إلى غربيها. وكانت القبائل العربية تدور في الإهليلج الخصيب، من وديان وواحات الجزيرة العربية إلى سهول وجبال سورية والرافدين ووادي النيل، وأتى الفتح الإسلامي فتحركت أقوام برمتها، عربية وأعجمية، عبر دار الإسلام الممتدة من الصين إلى اللوار ومن القفقاس إلى أواسط أفريقيا، وتفاعلت فيما بين بعضها بعضاً. لقد كان هذا، على عكس ما أكده الأستاذ الخوري بكلمته الآنفة الذكر التي شرح بها أسس العقيدة السورية القومية، دأب وديدن البشر طوال تاريخهم. ثم إن السورية القومية فصلت تعسفياً حضارات الهلال الخصيب عن جسمها الحضاري العام الذي قام في الإهليلج الخصيب ووادي النيل، الذي قام بها وبحضارات الحجاز واليمن وحضر موت وعمان والخليج ومصر، وأهملت نشوء هذه الحضارات وارتقاءها في ذات الأقوام التي شكلت مختلف روافد الأمة العربية بتفاعلها الحضاري عبر تاريخ طويل.

وعلينا أن نستلفت الانتباه إلى أمر على غاية من الأهمية وهو ما نردده باستمرار فنعيد القول بأن دعوات التوحيد التي قامت في حضارات الإهليلج ووادي النيل تشكل سلسلة واحدة مترابطة الحلقات ومتكاملة لثورات اجتماعية كبرى ضد الوثنية وهي لا تنفصل أبداً عن مجمل العملية التاريخية الواسعة الطويلة التي تكونت بها أمتنا العربية بنشوئها وارتقائها. فهذه الدعوات ليست ضد القومية كما جاء في العقيدة السورية القومية وهي على العكس من هذا في أساس نشوء وتقدم القومية العربية نحو تكامل أبعادها وتجسدها بأمتنا، في الوقت الذي حطمت وثنيات الانحراف عنها سلسلتها التاريخية المتصلة ودعت إلى تمزيق أمتنا: الجمود والتعصب أنسى أتباع مختلف دعوات التوحيد أن عقائدهم ما هي جميعها إلا رفض واحد للاستعلاء وقهر الإنسان في إطار أمتهم أولاً ثم في الجملة الإنسانية.

إن جملة المجتمعات الإنسانية العالمية كائن مادي تكون عبر عملية تاريخية قامت بنتيجتها مختلف الأمم كأعضاء له. لذلك كان، بالبداهة، دوماً لهذه الجملة نظامها العام الواحد الذي اختلف من طور إنساني إلى آخر: في زمان واحد تكون الجملة في طور واحد يسود فيه نظام عالمي واحد هو نظام أكثر أممها تقدماً مادياً فلا تقبل أكثر من هذا النظام إلا في مراحل انتقالها من طور له نظامه العام المناسب له إلى الطور الأعلى الذي له أيضاً نظامه المناسب الواحد الذي تخضع له جميع الأمم. ونجد في النتيجة أن خلاص أمة وتحررها من نظام عالمي عبودي مثلاً، كالخلاص من النظام الرأسمالي واستعماره، لا يكون إلا في نهاية مرحلة انتقال الجملة الإنسانية من نظامها المذكور إلى النظام الأعلى مادياً وهو في مثالنا هنا، نظام الاشتراكية المنتصرة عالميا. وهذا أمر لم تلحظه العقيدة القومية السورية فكان أتباعها في الخمسينات من هذا القرن في عداء شديد في سورية مع حزبين تبنيا العقيدة الاشتراكية هما الحزب الشيوعي وحزب البعث الذي كانت عقيدته تنادي بالوحدة العربية بالإضافة إلى السعي لتحقيق الاشتراكية.

حزب البعث العربي

 

في النصف الثاني من ثلاثينات هذا القرن واجهت الحركة الوطنية العربية نكسات سببت خيبات أمل كبيرة في جماهير أمتنا. فالأنظمة العربية مثلاً تدخلت قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية لإجهاض الثورة في فلسطين لصالح بريطانيا، تماماً كما نشاهده الآن من محاولات لإجهاض الجهاد في الساحة الفلسطينية، في الداخل والخارج، لصالح أميركا والصهيونية. ولم تنل حينذاك المعاهدة السورية الفرنسية التصديق النهائي من قبل فرانسة وبقيت سورية مقيدة باستعمار هذه الدولة تحت اسم الانتداب، وانتُزِع لواء الاسكندرون من سورية وأُعطي إلى تركيا كي يكسب الحلفاء ولاء الأتراك لهم في عدائهم لألمانيا. وفشلت سياسة "التفاهم النزيه" التي نادى بها المرحوم جميل مردم أحد زعماء الكتلة الوطنية التي قلنا أعلاه أنها كانت حينذاك تقود مقاومة الشعب السوري ضد الاحتلال الفرنسي فاستقال رئيسها المرحوم هاشم الأتاسي من منصب رئيس الجمهورية، وقام المفوض السامي الفرنسي بحل البرلمان وتعيين حكومة المديرين. وكان من نتيجة هذه الظروف وأشباهها أن فقدت الأنظمة والقيادات السياسية التقليدية العربية نفوذها بين الشباب المثقف وامتدت خيبات الأمل إلى الجماهير في مختلف طبقاتها الاجتماعية. وبرز تيار ثوري قوي واسع بين الخريجين وطلاب الثانويات والجامعة السورية الذين ما كانت تهدأ لهم حال ولا يقر لهم قرار: فيضربون ويتظاهرون ويصطدمون بالمستعمرين وتغلق مدارسهم ومعاهدهم هنا وهناك في قطرهم السوري، ويجتمعون فيما لا يحصى من الحلقات في المنتديات والمقاهي والبيوت والمنتزهات والشوارع في كل بلد وقرية من سورية. نقول برز تيار ثوري قوي واسع بين أولئك الشباب المثقفين القلقين يبحث ويُنْضِج بديلاً لعصبة العمل القومي التي أخذت حينذاك بالتفسخ والتلاشي.

وكانت حينذاك الهجمة الإعلامية النازية على المستعمرين القدماء قد بلغت ذروتها من الشدة. وقد قلنا إن دعايتهم هذه ما كان لها صدى سيئ في نفوس جماهير أمتنا في الوقت الذي كنا فيه نذوق ألوان العذاب من أولئك المستعمرين. فكانت عواطف الناس تتراوح بين الشماتة بهم والأمل بما كان يطرحه أولئك النازيون من وعود (وإن كانت كاذبة على كل حال فالغريق لا يخشى البلل). واندلعت الحرب العالمية الثانية وتمنى الناس عندنا أن يُهزم فيها الإنجليز والفرنسيون لا حباً بالنازية وإنما كرهاً بهم. واشتعلت ثورة رشيد عالي الكيلاني في العراق فارتد عليها الإنجليز بمساعدة عسكر أمير الأردن عبد الله بن الحسين وسحقوها. وكان أن هب الشعب السوري يؤيدها ويشكل اللجان لتنظيم العون المادي لها وقد هرع كثير من الشباب السوري للالتحاق بها، ولكنها لم تدم طويلاً، الأمر الذي زاد في شعور الإحباط واليأس من الظروف والأنظمة العربية القائمة التي تمزق الوطن بتعددها وخنوعها للمستعمرين. وبرزت لذلك ضرورة العمل على توحيد الكفاح في كل أقطار الوطن العربي لتوحيد أمتنا بالتالي وبعث كيانها.

إن من المفيد هنا التأكيد على أهمية ظهور ذلك التيار من الشباب المثقف الذي ينتمي معظم أفراده إلى الفئات المتوسطة الحال التي فيها الكثير ممن يميل وضعه المعاشي إلى العسر وفيها أيضاً أبناء التجار الميسورين الذين لا يسلمون بزعامة الإقطاعيين الزراعيين. وقد كان للاتجاه القومي العربي في هذا التيار النصيب الأكبر الحاسم إلى جانب الاتجاه الديني المتمثل بجماعة الأخوان المسلمين، والاتجاه المتمثل بالسوريين القوميين. ومن الأهمية بمكان كبير التذكير بأن أصحاب الاتجاه القومي العربي كانوا منذ نهايات الثورة السورية الكبرى المسلحة وانتقال الحركة الوطنية إلى الكفاح بمختلف أشكال العصيان غير المسلح كالإضرابات والمظاهرات التي كانت تقوم في شتى المناسبات يشكلون مع الشباب المرتبط اجتماعياً بزعامات الكتلة الوطنية المحرك الأساسي لأنواع العصيان غير المسلح: كانت المظاهرات تنطلق على العموم من مدارس التجهيز. ثم أخذ الاتجاه القومي العربي يتميز من الاتجاه الكتلوي الوطني السوري في منتصف الثلاثينات من هذا القرن فظهرت حينذاك حركة عصبة العمل القومي التي جسدت طموح الخروج من العزلة القطرية إلى توحيد حركات التحرر في كل أرجاء الوطن العربي وبعث كيان الأمة العربية على كامل أرض هذا الوطن.

إن فكر القومية وبعث كيان الأمة العربية ما كان أبداً بفضل حزب أو فئة محدودة من العرب. فالشعور القومي قد يكون قد نشأ ونمى في الأوساط العربية مع نشوء وتقدم الإسلام كرد فعل على مواقف أولئك الأعاجم الرجعيين الذين قوض العرب بثورتهم الإسلامية العظمى ملك ذويهم العبودي وحرموهم من امتيازاتهم ومنافعهم الأنانية واستعلائهم على أبناء جنسهم في دولهم البائدة والذين كان العرب المتعصبون يسمونهم مع "كل من غضبوا عليهم أو من سبب لهم الضيق بشكل من الأشكال" بالشعوبيين. وتطور هذا الفكر القومي بضياع الملك من الأسر العربية العريقة وانتقاله في دار الإسلام إلى غير العرب فأخذ أشكال الصراع السياسي. وفي عهد أسرة محمد علي باشا (الألبانية اليونانية) التي حكمت مصر جرت محاولة لإقامة إمبراطورية عربية في المشرق العربي مبدئياً على أنقاض السلطنة العثمانية التركية. ثم أتى الشريف حسين بن علي ونادى باستعادة الخلافة إلى العرب في المشرق العربي أيضاً وحالف المستعمرين وحارب في صفوفهم الأتراك العثمانيين طمعاً في تحقيق هذه الغاية. ثم تطورت هذه الفكرة وأخذت كل أبعادها ومعانيها بدراسات الرواد المعاصرين للنهضة العربية في المشرق العربي وخاصة في سورية الطبيعية ومصر. وبعد استكمال عملية تقسيم الوطن العربي واحتلال أجزائه واستعبادها من قبل المستعمرين أصبحت القومية العربية عقيدة لكل وطني صادق يكافح من أجل الحرية. وقد أخذ هذا الكفاح في البدء الوجه القطري في كل قطر من أقطاره، ولكن الوجه القومي كان دوماً يشكل المطلب المثالي لأولئك المكافحين وإن كانت تقوم بعض الاتجاهات الضيقة في تلك الحركات الوطنية كالفرعونية المصرية مثلاً والسورية القومية. وكان الإسلام عند القوميين العرب مصدر اعتزاز بإعلائه شأن أمتهم عندما أقام دار الإسلام التي سادت الدنيا بنظامها، كما كانت الأمة العربية عند المتدينين المسلمين أمة خصها الله بنشر رسالته في العالم فبها عندهم يبدأ تحرير المسلمين قاطبة من القهر الاستعماري. والخلاصة، إن عقيدة حزب البعث من يوم ظهوره حتى أيامنا هذه لم تضف شيئاً على ما كانت تدين به جماهير أولئك المثقفين وتدركه بوعيها الطبيعي أو بنتيجة اطلاعها على الإنجازات الفكرية الإنسانية الأوروبية: كانت مساهمة مؤسسي حزب البعث تقتصر عملياً على تنظيم جماهير المثقفين والمناضلين وحشدهم في صفوف الحزب حول عقائد منتشرة سلفاً تشكل عند هذه الجماعات رأياً عاماً بكل ما في الآراء العامة من تناقضات وغيبيات إلى جانب الأصالة. فتاريخ أمتنا كان معروفاً بشكل جيد ليس من قبل المثقفين وطلاب المدارس فحسب وإنما أيضاً من قبل العوام الذين كانوا يتلقون أخبار أجدادهم في حلقات الدروس الدينية المنعقدة في المساجد. وبحوث الإنسانيين من أمثال أندريه جيد ورومان رولاند ونيتشه وغيرهم التي عزا الكتاب الأوروبيون إلى خرّيجَي السوربون الأستاذين ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار شرف نقلها والتأثر بها في بناء العقيدة البعثية، وقد جاراهم في هذا الرأي بعض الكتاب العرب في دراساتهم حول نشأة وتطور الحزب المذكور، نقول إذن إن بحوث الغرب الإنسانية، كانت معروفة جيداً من قبل المثقفين العرب السوريين وغير السوريين بالاطلاع على ترجماتها أو بقراءتها مباشرة بلغتها الأصلية دون لزوم الذهاب إلى باريز والانتساب إلى السوربون.

كان على مؤسسي البعث الذين رفعوا شعار توحيد الأمة العربية لتنجز رسالتها الخالدة: "أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة"، أن يعملوا على ترسيخ عقيدة تتضح فيها تماماً خواص عالمنا الحالي التي تحدد بدقة هوية الثورة العربية وهوية العدو في النظام الرأسمالي العالمي. كان عليهم أن ينتبهوا إلى تطور الاستعمار العالمي من شكله القديم الذي كان يقوم قبل الحرب العالمية الثانية إلى الشكل الجديد الذي أقامته الولايات المتحدة الأميركية في أعقاب هذه الحرب، وذلك لرسم طريق الخلاص إلى تحقيق أهداف الشعار الآنف الذكر. ورسالة أمتنا الخالدة هي تحديداً ثورة تضرب الاستعمار العالمي الجديد، المتجسد بالإمبراطورية المتعددة الرؤوس والموحدة بقيادة الاحتكارية الأميركية، في قلبه الذي هو الوطن العربي الذي تنطلق منه طرق المواصلات إلى كنوز العالم القديم والذي يكمن فيه احتياطي النفط محرك الحضارة المعاصرة. ولا تكمن هذه الرسالة الخالدة، كما يظن البعض، في قيام دولة عربية "ذات سمعة حسنة بنظر البشر" وهي منخرطة في النظام الرأسمالي الاحتكاري. لأن المنخرط في هذا النظام لا بد من أن يكون ظالماً أو مظلوماً فيفقد احترام البشر في الحالتين. وهذا الأمر ما كان واضحاً في عقيدة البعث فكان خلود الرسالة في تصورات جماهير البعث شعاراً ملحمياً مثيراً للخيال والحماس وينسحب على التاريخ المجيد لأمتنا أكثر منه شعاراً واقعياً يُطْلَبُ تحقيقه في الواقع بكل تصميم وعزم لخلاص الإنسان. إذ لا بد من القضاء على ذلك النظام العبودي الذي يقهر البشر ويهدد الحياة على الأرض بالفناء والذي هو النظام الرأسمالي الاحتكاري. ولن يتم هذا الأمر إلا بقيام الأمة العربية الموحدة الحرة في قلب عالم إسلامي حر ينفي عبودية الإنسان بشكل مطلق. وقد ضاعت فرصة ثمينة جداً على أمتنا وعلى الإنسانية في تلك الفترة الحرجة التي انتقلت فيها قيادة الاستعمار من الأوروبيين إلى الأميركيين في أعقاب الحرب العالمية الثانية. في تلك الفترة كانت قيادة البعث، التي لا يشك في عدائها للمستعمرين وللمتآمرين على سلامة وأمن الوطن، تمارس البرلمانية الغربية الخادعة، برلمانية المرابين الرأسماليين المخدرة، لتحقيق مضمون الشعار الثوري المار ذكره أعلاه، بدلاً من ممارسة الكفاح المسلح لتكنيس بقايا الاستعمار القديم ومنع قيام الاستعمار الجديد في الوطن العربي. ولكن البعث يبقى أبداً هدف الثورة العربية.

الحزب الشيوعي

 

إن الإنسان كما نقول ونردد على الدوام يقوم في كائن مادي كلي هو جملة المجتمعات الإنسانية التي تنتقل من طور إلى طور بتقدمها وتكاملها. وهي في كل طور يحكمها نظام عالمي واحد مناسب يستوعب كل علاقاتها الأخرى المتقدمة منها والمتخلفة لصالح نظام المجتمع الأكثر تقدماً مادياً فيها. ولا بد للانتقال من طور إلى الطور الأعلى في هذه الجملة من مرحلة انتقال يُحَطَّمُ فيها نظامها العالمي في منطقة منها لتبرز في هذه المنطقة بوادر النظام المقبل. ومما لا ريب فيه أن ثورة أكتوبر في روسيا القيصرية كانت الفاتحة لمرحلة انتقال الجملة الإنسانية المعاصرة من الطور الذي يسود فيه النظام الرأسمالي بشكل مطلق عالمياً إلى الطور الذي سيسود فيه النظام الاشتراكي بشكل مطلق. وقد قام في مرحلة الانتقال هذه، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، معسكر اشتراكي قوي يقف نداً للمعسكر الرأسمالي. ولكن معظم العالم بقي في أصفاد العبودية الرأسمالية ولا سيما منه ذلك الذي يطلقون عليه اسم العالم الثالث، وهذا أمر طبيعي لأن الانتقال إلى الطور الأعلى لم يتم بعد. ومن الطبيعي أيضاً أن لا تتكامل في هذه المرحلة الانتقالية أبعاد الاشتراكية في أي بلد في الجملة الإنسانية ما دامت الرأسمالية قائمة بقوتها التي تهدد عالم الأحياء بالزوال. ففي هذا الظرف العالمي أصبحت الحرب بين المعسكرين: الرأسمالي من جهة والاشتراكي من جهة أخرى، مستحيلة ما لم يغامر الإنسان بوجود الحياة على الأرض. ولكن ثورة تحرر الإنسان من النظام الرأسمالي الاحتكاري وإزالة هذا النظام بالتالي أصبحت ضرورة ملحة لإبعاد هذا التهديد بالفناء نهائياً. والثورة يقوم بها بداهة المقهورون لا سيما منهم أمم العالم الثالث وليس أولئك الذين تحرروا وأقاموا نظم الاشتراكية. وهذا صراع لا يجسر فيه الرأسماليون الاحتكاريون على استخدام الأسلحة النووية ما دام المعسكر الاشتراكي قائماً لردعهم: إن الرأسماليين معرضون أكثر من غيرهم للفناء النووي فلا يجسرون على البدء بإطلاق السلاح النووي في أي حال من الحالات وفي أي حرب من حروبهم الاستعمارية إلا إذا ضمنوا انعدام الردع، الأمر المستحيل إذ لا شيء يوقف الحرب النووية إذا انفلت السلاح النووي من عقاله في أي ظرف من الظروف.

كان الحزب الشيوعي السوري الحزب الطليعي لنشر أفكار الاشتراكية العلمية. وقد سقط منه العديد من الشهداء في سبيل العقيدة الماركسية اللينينية وفي سبيل تحرير الإنسان. وقد لوحق أعضاء هذا الحزب وشُرّدوا وسُجنوا وعُذّبوا سنين طويلة في سبيل تلك الأهداف: قال الأستاذان ميشيل عفلق وصلاح البيطار في بيان لهما حول "القومية العربية وموقفها من الشيوعية" في حزيران 1944: "كان شباب الحزب الشيوعي يعلنون عن فكرتهم ويهاجمون الاستعمار ويتعرضون لاضطهاده بجرأة تستحق الإعجاب..". إلا أنه كان على الشيوعيين السوريين مع ذلك أن يوصلوا هذه الحلقة من جهادهم بالسلسلة الطويلة لحلقات الجهاد من أجل تحرير الإنسان الذي مارسته الأمة العربية طوال نشوء وارتقاء كيانها عبر ألوف السنين. ونجد بالتالي أنه كان عليهم الاستفادة من الاشتراكية العلمية لبناء عقيدة لثورة عربية تحرر الوطن العربي وتوجه الضربة القاضية للنظام الرأسمالي الاحتكاري العالمي الذي يقع قلبه في هذا الوطن. ولكنهم ما يزالون، كأكثرية الشيوعيين في العالم، ممتنعين عن تمييز اشتراكية الطور الإنساني المقبل، المطلقة السيطرة عالمياً التي لم تقع بعد، من اشتراكية مرحلة الانتقال المتمثلة باشتراكية الاتحاد السوفياتي الحالية. فالماركسية اللينينية هي عقيدة ثورة البدء بمرحلة الانتقال، ولا يجوز التجمد عندها، ولا بد إذن من عقيدة أكثر جدة لثورة أخرى تنهي هذه المرحلة وتنقل العالم إلى عتبة الطور المقبل الأعلى.