الفصل السادس

الثورة قدر المستضعفين

 

الجمعية التأسيسية

 

مر معنا كيف أن قيادة حسني الزعيم لعملية قلب الوثنية القوتلية كانت بسبب تأخر القوى العقائدية التقدمية عن إيجاد صيغة صحيحة توحد صفوفها، وإحجامها بالتالي عن أخذ المبادرة وقيادة تلك العملية بدلاً من ذلك الأفّاق. وأشرنا إلى أن الفضل، مع ذلك، يعود إلى هذه القوى التقدمية بالذات لنجاح انقلاب الزعيم، فكان الأَوْلى بها أن تكون هي القائدة وأن تكون العملية ثورة بدلاً من أن تكون انقلاباً لمصلحة انتهازيين مرتزقة كانوا يخدمون مخططات المستعمرين. فالقوى التقدمية التي شكّلت الجبهة الوطنية وتسنّمت قيادة المقاومة ضد المستعمرين جميعاً وعلى رأسهم الأميركان بعد سقوط الشيشكلي كانت هي بذاتها موجودة باستمرار منذ جلاء الأجنبي عن سورية عام 1946 حتى الوحدة السورية المصرية عام 1958، وقد قلنا هذا في أكثر من مناسبة سابقة من هذه الدراسة. وتكرر، مع ذلك، سير القوى التقدمية تحت أعلام الانتهاز المدعوم من اليمين المتخلف في عملية إسقاط حسني الزعيم، وذلك بسبب غياب العقيدة الثورية أيضاً التي تبين الواقع وتحشد التقدميين الثوريين في خندق واحد وتبعد الانتهازيين وتعطل نشاط الخونة. فوجدنا سامي الحنّاوي الجاهل المنعدم الشخصية محاطاً بقبضة من الانتهازيين الأفّاقين، عسكريين ومدنيين على رأسهم عديله أسعد طلس الموظف في الخارجية السورية المار ذكره في هذه الدراسة، يقود قوى الانقلاب المؤلفة بأكثريتها من الوطنيين العقائديين الذين ما كانوا حينذاك ليجدوا الصيغة الحقيقية للوحدة تحت راية تحرير الوطن من جميع المستعمرين في الوقت الذي قبلوا فيه العمل معاً تحت قيادة أفّاقين يعملون لصالح رجعيين للخلاص من أفّاق آخر هو حسني الزعيم.

إن البلاغات الرسمية لا تخبرنا، بطبيعة الحال، عما يعدّ في مطابخ المستعمرين من خطط وعما ينعكس من هذه الخطط على تفاعلات مختلف القوى الاجتماعية، ولا بد لنا من التدقيق في مجريات الأمور للوقوف على الواقع وتخمين اتجاهاته المستقبلية. فنسمع مثلاً في الرابع عشر من آب عام 1949 بلاغاً صادراً عن "مجلس حربي أعلى" يقوده سامي الحنّاوي يُعْلِمُ الناس أن حسني الزعيم قد قُلِبَ وأُعْدِمَ وأن الجيش قد ابتعد عن السياسة وسلّم أمورها إلى الوطنيين المخلصين ليقودوا البلاد إلى برّ الأمان والسلامة. وعلم الناس في بلاغ آخر أمر تشكيل حكومة مدنية مؤقتة يرأسها هاشم الأتاسي وأعضاؤها الأساسيون من حزب الشعب إلى جانب وزيرين من حزب البعث ووزير مستقل وآخر من الحزب الوطني: زعيم حزب الشعب رشدي الكيخيا للداخلية، ومعاونه في الحزب ناظم القدسي للخارجية، وزعيم شعبي آخر فيضي الأتاسي للاقتصاد، وميشيل عفلق للتربية، وأكرم الحوراني للزراعة، وخالد العظم ممثل البرجوازية الدمشقية للمالية، والمستقل سامي كبّارة للعدل، وعادل العظمة من أطراف الحزب الوطني وزير دولة. وتبدو هذه التشكيلة الوزارية مناقضة لمشاريع الهاشميين ومن ورائهم الإنجليز. ففي البعث وحزب الشباب الحوراني مقاومة كبيرة ضارية لتلك المشاريع، كما كان خالد العظم عدواً مؤكداً لها إذ تقف دون طموحاته للوصول إلى كرسي الرئاسة.

ودعت الحكومة المؤقتة المذكورة إلى انتخاب جمعية تأسيسية، الأمر الذي يدل بوضوح على نية القوى الكامنة وراء هذه الدعوة في تغيير النظام السوري الجمهوري وتسهيل مشاريع هاشميي العراق الملكيين، وإلا لكانت الدعوة المذكورة من أجل انتخاب مجلس نواب يعيد الشرعية إلى البلد بعد القضاء على حكم الزعيم غير الشرعي. وقد وُضِعَ بالفعل نَصُّ قسم يؤديه رئيس الدولة والوزراء والنواب خالٍ من التعهد بالحفاظ على النظام الجمهوري، وتمكن حزب الشعب من توفير أكثرية في الجمعية التأسيسية المذكورة توافق على ذلك النص للقسم: كان لحزب الشعب في الجمعية 51 نائباً من أصل 144 نائباً، وللبعث ثلاثة نواب أشبه بنواب العشائر بثقافتهم وعواطفهم منهم بنواب حزب تقدمي ثوري هو البعث العربي. وبالفعل فإن أحدهم الأستاذ جلال السيد قال بتاريخ 16 آب عام 1965 في مقابلة مع الدكتور مصطفى دندشلي، وهو يظن بأن ما يقوله مبعث فخر له، إن نجاحه في تلك الانتخابات ما كان بقوة حزبه بل "بقوة نفوذه الشخصي"، أي بما كان له من نفوذ عشائري. ويضيف الأستاذ دندشلي سبباً آخر لنجاح هذا السيد هو ما "مارسه النظام العراقي من ضغوط انتخابية لمصلحته" في أوساط منطقته المحاذية للقطر الشقيق. ويؤكد هذا الأمر مستمسكات محكمة الشعب العراقية التي أُحيل إليها رجال العهد الملكي حيث يتبين أن لجلال السيد في تلك الأيام صلات وثيقة بهذا العهد. وقد فشل الأستاذ ميشيل عفلق في الدورة الأولى لانتخابات الجمعية التأسيسية المذكورة فانسحب ولم يتقدم للدورة الثانية، كما قدّم استقالته من الوزارة، بينما فاز أكرم الحوراني بمقعد نيابي عن حماة وبقي وزيراً للزراعة.

كانت الجمعية التأسيسية مسرحاً لصراع دائم شديد بين أنصار الوحدة مع النظام العراقي وهم معظم نواب حزب الشعب ومعهم بعض النواب المستقلين وبين مجموعة من النواب المعارضين لتلك الوحدة كان في مقدمتهم الأستاذ أكرم الحوراني والدكتور عبد الوهاب حومد (الذي انشق عن حزب الشعب فيما يخص هذه القضية) والأستاذ مصطفى السباعي زعيم الأخوان المسلمين وعبد الباقي نظام الدين من المستقلين. وكان أن فاز حزب الشعب، كما أسلفنا، بتوفير الأكثرية اللازمة لقبول نصٍّ ليمين الإخلاص يخلو من ذكر النظام الجمهوري. واستمرت المناورات والمداورات وبلغت حد قيام أنصار الوحدة بتقديم عريضة إلى رئيس الدولة هاشم الأتاسي يطالبون فيها بالإسراع في إتمام توحيد القطرين الشقيقين سورية والعراق. عندئذ قامت في الجيش، في 19 كانون الأول عام 1949، حركة تغيير لقياداته الموالية لحزب الشعب فَقُبِضَ على الحنّاوي وأعوانه وأُودعوا السجن، وعُيّن أنور بنود رئيساً للأركان وأديب الشيشكلي معاوناً له. ورئيس الأركان الجديد هذا لا يختلف كثيراً عن الحنّاوي من حيث الثقافة واتساع الأفق سوى أن الأخير كان يتصف بكثير من الطيب والبساطة والشجاعة إلى جانب انعدام ثقافته. وكان أكرم الحوراني وأديب الشيشكلي وراء حركة التغيير هذه وقاداها.

ونجد هنا مرة أخرى قيادة القوى التقدمية تتراجع عن الإمساك بالراية وتحفظ شعرة معاوية مع خليط البورجوازية التجارية السورية والرجعية والانتهاز. فتقوم مثلاً بطمأنة حزب الشعب بتعيين أنور بنود الحلبي الأصل ذي الصلات بهذا الحزب رئيساً للأركان وإلى جانبه الشيشكلي ذي الطماع الشخصية معاوناً، وذلك بدلاً من إقامة سلطة ثورية منظمة كان إمكان تحقيقها حينذاك ظاهراً بكل جلاء لكل عين: لم تكلف تلك الحركة التي قادتها القوى التقدمية وأدت إلى إقصاء الحنّاوي وكل أنصار الرجعية والانتهاز الممالئة لحزب الشعب سوى الزمن الاعتيادي لوصول المصفحات من معسكراتها إلى بيوت أولئك الرجعيين والقبض عليهم وإلقائهم في السجن. وفي النتيجة برزت ظاهرة اقتسمت فيها السلطة الشرعية مؤقتاً إلى حين جهتان متناقضتان:

                    -   القوى التقدمية في الجيش وفي الشارع؛

                    -   حزب الشعب مع حواشيه في قيادة السلطات المدنية.

فهذا الأمر، في تلك الحالة التي كانت عليها قيادات قوى التقدم السورية حينذاك من نقص فادح في وضوح رؤية التحولات العالمية وجهل على الأخص بتحولات الاستعمار من الشكل القديم إلى الشكل الجديد مع تسلل الانتهاز بقوة في صفوف تلك القيادات، نقول إن هذا الأمر المتناقض الذي حدث عقب إقصاء الحنّاوي يعود برأينا إلى الأسباب التالية:

       1- إن المرفوض في الوحدة مع العراق من قبل الجماهير هو الاستعمار البريطاني المهيمن حينذاك على القطر الشقيق من خلال مدرسة الجاسوس الشهير لورانس الحاكمة هناك. أما الوحدة بحد ذاتها فهي دوماً مطلب وطني جماهيري. لذلك رأينا مثلاً أن الحزب الوطني السوري الجمهوري النزعة الذي عارض بشدة الوحدة مع العراق الملكي لا يجد صعوبة في الوقوف موقفاً إيجابياً من الوحدة السورية العراقية فيصدر في 22 أيلول عام 1949 بياناً يقول فيه: "إن الوحدة الكاملة مع العراق وحدها فقط تستطيع إنقاذ البلدين من الخطر الصهيوني الجاثم". أما حزب البعث فمن المشهور أنه ورث عن عصبة العمل القومي الاتجاه نحو العراق للبدء بالوحدة العربية. أما الحزب السوري القومي فوحدة الهلال الخصيب تأتي في أساس بنيان عقيدته. ومن النافل التذكير بالمتدينين المسلمين، كالأخوان مثلاً، فمطلبهم توحيد دار الإسلام بدءاً من توحيد الأمة العربية. لذلك أتيح لحزب الشعب وأنصاره تلك الفرصة للبقاء في السلطة المدنية ولم تُعِبْهُ عقائدياً بنظر القيادات التقدمية الممسكة بالشارع وبالقوى المسلحة ما دام يمارس لعبة الديمقراطية فلا يجرب الغدر بالتآمر.

       2- كان في قيادة البعث أفراد، مثل جلال السيد، يشكلون امتداداً للمدرسة الحاكمة في بغداد، وهم موضوعياً في خندق واحد مع حزب الشعب فيما يخص العلاقات السورية العراقية.

       3- كان الصراع بين الهاشميين من جهة وبين المصريين والسعوديين من جهة ثانية على أشده لم يحسم بعد حينذاك. وكان الإنجليز كما نعلم وراء الهاشميين وأنصارهم والأميركان وراء المصريين والسعوديين وأنصارهم.

مواقف مختلف الجهات من الوحدة

 

قلنا دوماً إن الوحدة العربية ثورة إنسانية كبرى، والبدء بها من أي جهة وبأي عملية هو إعلان حرب على المستعمرين وعلى نظامهم العالمي، فلا يُسْتَأْذَنُ، بداهة، هؤلاء المستعمرون وأعوانهم في شأنها أبداً. ولننظر إلى مواقف مختلف الجهات ذات العلاقة من تلك الوحدة مع العراق على ضوء هذه المُسَلَّمَةِ:

الصهيونية: عدوة لدودة لكل وحدة عربية حقيقية، ونصيرة كل ما يمزق العرب والإسلام، وهذا من بديهيات الأمور.

السعودية: عدوة كل وحدة في وجه القهر العالمي ومع كل ما يعزز مواقع المستعمرين في المنطقة وفي العالم، فهي "كإسرائيل" دولة حدود للنظام الرأسمالي الاحتكاري العالمي.

النظام المصري الرجعي: يقاوم كل وحدة للهلال الخصيب ويعتبر سورية مجرد امتداد لأرض مصر في آسية.

النظام العراقي الملكي: كان ما يبحث عنه النظام الملكي العراقي ينطبق تماماً على ما كان يسعى إليه الاستعمار البريطاني. فهو بقيادة ولي عهده والوصي على عرشه الأمير عبد الإله كان يحاول "اصطياد" عرش لهذا الأمير على سورية بالتلويح بوحدة موهومة بين العراق وسورية ومن خلال التآمر على النظام السوري لقلبه. وهذا أمر معروف ومشهور في تلك الأيام. إن الأستاذ أكرم الحوراني مثلاً قال لتوفيق السويدي، وهو من كبار مسؤولي ذلك العهد الذي قاده عبد الإله ونوري السعيد والذي ما انفك أبداً عن التآمر على استقلال سورية منذ أن جلت الجيوش الأجنبية عن هذا القطر عام 1946 حتى ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958، نقول إن الأستاذ الحوراني قال للسويدي في ختام مناقشة طويلة جرت في دمشق في أواخر عام 1955: أنتم كاذبون مراوغون لا تريدون في الواقع لا وحدة ولا اتحاداً وإنما عرشاً لعبد الإله على سورية، أما نحن هنا فمن أنصار الوحدة والاندماج. وقد اعترف السويدي بهذه الواقعة أثناء مثوله أمام محكمة الشعب البغدادية في مطلع تشرين الثاني عام 1958 ليحاكم على الجرائم المنسوبة إليه التي يأتي في مقدمتها التآمر على استقلال سورية. وكان زعيم عصبة العمل القومي الأستاذ المجاهد علي ناصر الدين قد قال (بعد أخذ وردّ طويلين على ما يبدو) لعبد المنعم الكيلاني القائم بالأعمال العراقي في بيروت إن حكام العراق غير جديين في مسألة الوحدة مع سورية. وقد تقدم هذا القائم بالأعمال بتقرير حول هذا الحديث إلى مرجعه في بغداد ونشر هذا التقرير في جلسات محكمة الشعب البغدادية الآنفة الذكر.

وفي الواقع إن مجيء عبد الإله ليكون ملكاً على سورية يوسّع مدرسة لورانس في المنطقة العربية الآسيوية، ويعزّز بالتالي مراكز الاستعمار البريطاني القديم فيها تجاه كل من الحركة الوطنية العربية وزحف الاستعمار الأميركي الجديد، الذي كان يتقدم حينذاك بلا توقف ليقتلع البريطانيين هنا وفي العالم لصالح إمبراطوريته العبودية العالمية الناشئة. وفي ذات الوقت نجد أن تعدد العروش الهاشمية في الوطن العربي يكرّس تمزيق هذا الوطن بدلاً من أن يوحده ويلمّ شتات الرجعية والفساد في وجه حركات التقدم العربية. قال مزاحم الباججي، وهو رئيس وزراء ووزير سابق في العهد الملكي في العراق، في شهادة له أمام محكمة الشعب في جلسة 13 تشرين أول 1958: إن عبد الإله كان يريد عرش سورية لنفسه.. كما إن بريطانيا لا تريد سوى تشتيت شمل العرب ومصادرة حرياتهم في كل قطر من أقطارهم الأمر الذي اعترف به اللورد ستانس كيت من حزب العمال والوزير عدداً من المرات.

الاستعمار البريطاني: لا يهدف إلا إلى تقوية مراكزه الاستعمارية في المنطقة، ويحرص على سلامة إسرائيل، لذلك فقد قاوم الوحدة السورية العراقية وهو يتظاهر كذباً بتأييدها، كما قاوم مشاريع سورية الكبرى بالعمل على الدعوة لها بأساليب لا تتصف بالجدية، غايتها لا تتعدى تغطية عملية اقتسام أشلاء فلسطين بين الصهاينة وعميله حاكم الأردن عبد الله بن الحسين.

الاستعمار الأميركي: كالاستعمار البريطاني يقاوم كل ما من شأنه تشكيل خطر على الكيان الصهيوني، فهو العدو الأول والأصلي للوحدة العربية، التي سيكون تمامها بشكل صحيح الثورة الحاسمة التي تدفع العالم إلى عتبة الطور الإنساني المقبل بإنهائها النظام الرأسمالي الاحتكاري العالمي.

سورية: نكرر ونقول إن حزب الشعب كان مندفعاً إلى إقامة الوحدة مع العراق لتحقيق تطلعات البورجوازية التجارية الحلبية إلى فتح أسواق العراق وأواسط آسيا أمام بضائعها. فكان الحزب المذكور يصطدم بعرقلة الإنجليز وخدمهم من أمثال نوري السعيد وبمناورات ولي العهد عبد الإله الباحث فقط عن عرش له على سورية فكان لا يهتم بتطلعات التجار الحلبيين الآنفة الذكر إلا بكونها السراب الخلّب الذي يوجه هؤلاء التجار ويسوقهم إلى تحقيق تطلعاته هو فقط. وقد انتبه زعماء حزب الشعب إلى هذا الأمر، فوجدنا مثلاً ناظم القدسي يفاتح أحد كبار مسؤولي العهد الملكي أحمد مختار بابان بهذا الشأن، ويطلب أن يأتي أناس جديون يؤمنون حقاً بالوحدة ليتحاوروا مع السوريين، وقد ورد خبر هذا الحديث في شهادة مزاحم الباججي المار ذكرها أعلاه. وفي المقابل كان هناك تيار قوي في البورجوازية السورية، في الدمشقية على الأخص، يعارض الوحدة مع العراق، ويفضل أسواق الأردن والسعودية ومصر لنشاطه الاقتصادي، وقد مر معنا ذكر هذا الأمر فيما سبق من هذه الدراسة. يضاف إلى هذا ما نشير إليه دوماً وهو وجود المعارضة القوية النشطة في كل الحركات الوطنية السورية لكل مشاريع الوحدة مع العراق الملكي والأردن إلى جانب المقاومة الضارية للجماهير السورية ضد كل تسلل من إي شكل كان للاستعمار.

وانطلقت المؤامرات على استقلال سورية في خضم هذه الظروف. فرأينا مثلاً كيف ركب الاستعمار البريطاني من خلال نظامي الأردن والعراق العميلين حركة حسني الزعيم للتسلل إلى سورية، كما رأينا كيف طرح الأميركان الإنجليز أرضاً بواسطة نظامي مصر والسعودية الرجعيين ليركبوا تلك الحركة بدورهم، ليرتد هؤلاء الأخيرون على أولئك الأميركان فيقوضوا عهد الزعيم بانقلاب الحنّاوي. ثم إن الحنّاوي وأعوانه يذهبون بثورة قيادة الجيش التي أتت بأديب الشيشكلي إلخ… لقد كانت فترة السنتين المنقضية من إقصاء الحنّاوي في 19 كانون الأول عام 1949 حتى الثالث من كانون الأول عام 1951 عند إقصاء حزب الشعب عن الحكم وحل مجلسهم النيابي وتعيين فوزي سلو رئيساً للدولة بمرسوم عسكري من الفترات الحاسمة في تاريخ الوطن العربي. ففيها تفرغت الولايات المتحدة الأميركية لوضع أسس إمبراطوريتها الاستعمارية العالمية بتقدم مشروع جورج مارشال للهيمنة الاقتصادية الأميركية على الصناعة الأوروبية إلى جانب إتمام بناء حلف الأطلسي الاستعماري بقيادتها، ومد شبكة هذا الاستعمار الجديد في مختلف أنحاء العالم وفي مقدمتها المنطقة العربية الآسيوية. ولكن القيادات الوطنية بكل اتجاهاتها تخلفت، كما قلنا دوماً، عن رؤية وتقدير خطر الاستعمار الأميركي القادم، كما تعامت عن قوة زخم الانتفاضة الجماهيرية العالمية ضد الاستعمار بكل أشكاله، عن النهوض الجماهيري العربي للتحرر والخلاص على الأخص، فوجهت كل اهتمامها للاستعمار القديم، فلم تهمل فقط توجيه الجماهير للتصدي للجديد أيضاً قبل أن يتمرس ويتمكن في الأرض وإنما حاولت الاستنجاد به "ليساعدها" على القديم وفتحت له سبل التغلغل بعملائه وبالانتهازيين في الصفوف الوطنية. وقد اقتصر طموحها في سورية مثلاً بعد أن تمكن حزب أكرم الحوراني مع حزب البعث من السيطرة على القوات المسلحة خلال فترة السنتين الآنفتي الذكر على "مراقبة" حزب الشعب الساعي حينذاك عبثاً إلى تحقيق وحدة حقيقية مع العراق وعلى الوقوف في وجه عملاء ولي العهد عبد الإله الذين كانوا يسعون إلى تهيئة فرصة يتمكن فيها هذا الأمير من تنصيب نفسه ملكاً على سورية، وذلك بدلاً من سلوك الطريق الطبيعي الصحيح باستغلال إمكاناتهم في حشد الجماهير لتحويل سورية إلى قاعدة ثورية تلتف حولها الجماهير العربية الثائرة، وفي مقدمتها جماهير العراق، للقضاء على الاستعمار بكل أشكاله وتحقيق الهدف الثوري الإنساني الكبير وهو توحيد وطننا العربي في ظل نظام تقدمي لأمتنا يدفع بالمسلمين وبالإنسانية الثائرة أيضاً حينذاك إلى عتبة طورها الأعلى: إن تلك القوى الوطنية كانت لها قيادات تناور في مسألة الوحدة العربية، وكأن الاستعمار بمعزل عن هذه المسألة فلا يوليها اهتمامه الكبير، أو بالأحرى إن تلك القيادات الوطنية كانت تحاول "استغفال" المستعمرين وتحقيق الوحدة "من وراء ظهورهم"، في الوقت الذي هي فيه ثورة إنسانية كبرى لا سبيل إلى تحقيقها ثم كسبها إلا بمواجهة طويلة وكبيرة نشتبك فيها مع المستعمرين بسلسلة من المعارك المتنوعة إلى أن ينتصر حقنا ويهزم باطلهم. هذه هي المهمة الحقيقية التي كان على القيادات التقدمية السورية أن تعمل لتحقيقها بتكتلها جميعها في نظام ثوري واحد وليس باكتفاء واحدة منها بالقيام بدور الشرطي لحماية أمن النظام القطري القائم دون الاستفادة منه للانطلاق نحو تحقيق الهدف الأساسي للأمة بكليتها. ومما لا ريب فيه أن القوى الوطنية في الأقطار الأخرى لا بد من أن تتجاوب في النتيجة مع الموقف الثوري الصحيح فيقوم السيل العارم الذي يجرف المستعمرين ومرتكزاتهم. ولكن الشرط الأساسي هو أن تقوم تلك العقيدة الموَحِّدة لكل القوى الثورية في القطر وفي الأمة.

أديب الشيشكلي

 

ولد أديب الشيشكلي في عائلة إقطاعية حموية عام 1909 وانتسب إلى الكلية العسكرية عام 1930 بعد مرحلة إعدادية غير لامعة في ثانوية حماة وبعد دراسة لم تتم في المعهد الزراعي الابتدائي، في سلميّة، الذي كانت تُعادَلُ شهادته حينذاك بالثانوية العامة. وكانت عائلته في الصف الوطني، فأحد أفرادها الدكتور توفيق الشيشكلي كان زعيماً من زعماء الكتلة الوطنية ونائباً عن حماة في مجلسي نواب 1928 و1937، كما إن والده اضطّهِد من قبل الفرنسيين فأوقفوه في مرة من المرات وأجبروه على تأدية السخرة بتنظيف اسطبلاتهم وبيوت خلاء ثكناتهم وهو الوجيه الحموي الكبير، ثم إن المستشار الفرنسي لمدينة حماة طلب إليه أن ينتسب ولداه أديب وصلاح إلى الكلية العسكرية وذلك لاسترضائه وتقريبه من سلطات الانتداب. وكان والدي المرحوم طالب البزري قاضياً بدائياً في حماة وتربطه به صداقة فدعاه لأن يكون شاهد زواج ولديه أديب وصلاح من شقيقتين من آل الفنري الإقطاعيين الآخرين في قضاء إدلب من أعمال حلب، وذلك عشية التحاقهما بالكلية العسكرية.

كان أديب الشيشكلي مختلفاً كلياً بصفاته عن كل من حسني الزعيم وسامي الحنّاوي. كان، كآبائه أغوات الإقطاع، واثقاً من نفسه متزناً ذا إدراك جيد لأحوال الناس مع تفتح وثقافة كافيين لتجنيبه سخرية الآخرين. كان أيضاً اجتماعياً غير بعيد عن أصدقائه ومؤيديه وإن كان دوماً يضمر في نفسه طموحاً قوياً "للتزعم". كان كريماً ودوداً عامر المائدة التي كانت تُنْصَبُ بدون انقطاع إلى ما بعد منتصف الليالي حيث يسمر حولها الصحب والخلان فيتناولون كل المواضيع الجادة والمسلية.وكانت له بنية قوية تساعده على تحمل السهر مع مشاق مهنته العسكرية. كما إن ثروته العائلية سمحت له بإقامة تلك الولائم حتى نفذت في النهاية. ولقد بدأ قبل أن ينغمس في متاهات التآمر للوصول إلى السلطة وطنياً صادقاً فانضم إلى تنظيم الضباط الوطنيين في عهد الانتداب وساهم بفعالية في هذا التنظيم. وقد التحق بالثورة الوطنية ضد المستعمرين الفرنسيين في صيف عام 1945 في منطقة الفرات في الوقت الذي كان فيه شقيقه (الأكبر) صلاح يساهم في قيادة المقاومة الحموية الباسلة ضد الحملات العسكرية لأولئك المستعمرين.

وانتسب الأخوان أديب وصلاح مع نسيبهما وصديقهما الأستاذ أكرم الحوراني إلى الحزب السوري القومي منذ تأسيسه في حماة في مطلع الثلاثينات من هذا القرن. وقد حاول المستعمرون الفرنسيون في صيف عام 1937 تعطيل المعاهدة التي عقدتها حكومتهم مع الكتلة الوطنية في عام 1936، المعاهدة التي ألغت الانتداب واعترفت بموجبها فرانسة باستقلال سورية وجرت بموجبها انتخابات نيابية في سورية وقام على أساسها حكم وطني تزعمته الكتلة الوطنية المذكورة. وكان لهم عون في شخص قاد فصيلاً من الثوار في غوطة دمشق أيام الثورة السورية الكبرى ثم انقلب على هذه الثورة وغدا من عملائهم وهو رمضان شلاش. ويتلخص خبر هذه المؤامرة، كما سمعته من أديب الشيشكلي في عام 1948 عندما كنا في الجليل في جيش الإنقاذ، في أن الفرنسيين اتصلوا به بواسطة أمير شلاش ابن رمضان الآنف الذكر وقالوا له إنهم مستعدون لغض النظر والسماح بإجراء عملية بواسطة الضباط الوطنيين تؤدي إلى طرد حكومة الكتلة الوطنية في دمشق وإقامة قيادة عسكرية وطنية إلى جانب حكومة مدنية تحالف فرانسة التي تُبْقي قوة رمزية صغيرة في سورية. وقد ذهب أديب الشيشكلي وأمير شلاش وعرضا هذا الأمر على زعيم الحزب السوري القومي أنطوان سعادة في بيت مري في لبنان. كما جرى اجتماع في حماة برئاسة هذا الأخير وحضور أكرم الحوراني ونوقش العرض الفرنسي الذي رُدَّ في النتيجة لوضوح غايته وهو تعطيل المعاهدة الآنفة الذكر وضرب الحزب السوري القومي وتشتيت شمله والقضاء على كتلة الضباط الوطنيين السوريين واللبنانيين في القطعات الخاصة السورية اللبنانية.

وانضم أديب الشيشكلي إلى جيش الإنقاذ في عام 1948 فقاد إحدى كتائب لواء القاوقجي التي أُرسلت لمقاومة الصهاينة في الجليل. وقد انضم إلى هذه الكتيبة الأستاذ أكرم الحوراني مع عدد غفير من تنظيمه الحموي  من أمثال عبد الكريم زهور وعلى عدي وخليل كلاس وغيرهم. وقد قام الخلاف بين أكرم وأديب من أيام الجليل تلك حيث برزت استقلالية الأخير عن الأول وطموحه لأن يكون سيد الأمر وتبين بوضوح أن كلاً منهما كان يساير الآخر لتحقيق أهدافه الخاصة به: كان أكرم زعيماً سياسياً يبحث عن دعم لخطه السياسي في الجيش بينما كان أديب عسكرياً ذا مطامع شخصية يبحث عن تعزيز مكانته في الجيش عن طريق صداقاته العسكرية والمدنية التقدمية. وعندما التقى الجانبان، الحوراني والشيشكلي، في ساحة التطبيق العملي لصداقتهما في الجليل برز اختلافهما الشديد حول هدفيهما المتناقضين. وقد انسحب الأستاذ الحوراني ورفاقه المدنيون وعدد من العسكريين من أصدقائه من كتيبة الشيشكلي باكراً قبل انحلال هذه الكتيبة ومجيء القاوقجي لقيادة جبهة الجليل. وقد حدثني الأستاذ أكرم عن الشيشكلي وتصرفاته أثناء قيادته لكتيبته، وذلك في أواخر شهر أيار عام 1948 أثناء مروري بدمشق في طريقي إلى الجليل في قوات القاوقجي، وكان ذلك في مقهى الواحة حيث كنا ثلاثة أكرم والمجاهد الشهيد فتحي الأتاسي وأنا. فنعته بالخائن والمتخاذل الجبان الذي كان يختبئ دوماً فلا يعرف مكانه حتى أقرب معاونيه كالمرحوم فتحي الأتاسي الذي كان معاونه في قيادة الكتيبة. وللإنصاف أقول أن أكرم كان في تلك الأثناء تحت تأثير الخيبات التي كنا نعاني منها جميعاً نحن العرب فنلقي، بتأثير الغضب، التهم جزافاً يميناً وشمالاً. ولعل الشيشكلي الذي أُلقي على عاتقه الدفاع عن منطقة واسعة كالجليل بكتيبة ضعيفة التسليح، وإن كانت في البدء مرتفعة المعنويات، كان يبالغ بعض الشيء في تطبيق قاعدة التخفي عن أنظار العدو إلا أنه ما كان لينحط إلى درك تلك الصفات التي وصفه أكرم بها، كما لم يرتفع حينذاك إلى مستوى القائد الذي يعوّض بتدبيره وعبقريته النقص في إمكاناته المادية التي توفرت له: لم يبلغ ذلك المستوى الذي رفعه إليه باتريك سيل في كتابه "الصراع على سورية" عندما قال: ""..لقد شوهد الشيشكلي كأحد أمهر القادة السوريين في حملة فلسطين..".

نجد إذن أن أديب الشيشكلي قد تَكَشَّفَ منذ حرب عام 1948 عن رجل له أطماعه الفردية الشخصية وعن إنسان غير متميز إيجاباً أو سلباً في صفاته فلا يصعب جرّه واحتواؤه لهذه الجهة أو تلك، ومع ذلك، ومع كل تلك الظنون الآنفة الذكر التي يحملها ضده الأستاذ أكرم الحوراني كبير قادة القوى الوطنية العقائدية حينذاك، فإن قيادات هذه القوى عادت مرة أخرى وأفسحت الطريق أمام هذا الإنسان غير المتميز العادي ليجعل من نفسه ديكتاتوراً بعد تجربتين مشابهتين سابقتين: تجربة حسني الزعيم وتجربة سامي الحنّاوي. والسبب هو الذي نقوله ونكرره دوماً: فقدان العقيدة المُوَحِّدَةِ لكل تلك القوى الوطنية التي أقامت تعددية وثنية باختلافاتها وتعدد اتجاهاتها وأربابها فضلّت الطريق ولُدغت أكثر من مرة من ذات الجحر. فبعد أن فَرَطَتْ الوثنية القوتلية الموصوفة في الحلقات السابقة عقد الجبهة الوطنية التي حققت الجلاء كان ، وما يزال وسيبقى أبداً، على القوى التقدمية تحقيق الأمور الأساسية التالية:

       1- صياغة العقيدة المنيرة للواقع والمحددة لهوية الثائر المعاصر بكل أبعادها وتطلعاتها ولهوية العدو بكل تفاصيلها وأطماعها والمُبَيِّنَةِ لحقائق النظام العالمي المعاصر وحقائق الاستعمار الجديد ومختلف امتدادات شبكته في العالم وفي المنطقة؛

                 2- تنظيم الجماهير للجهاد وفقاً لستراتيجية تمليها العقيدة المذكورة؛

       3- أن تكون القوات المسلحة جزءاً لا يتجزأ من الجماهير المسلحة وامتداداً لها فلا تطغى أية فردية لتقيم ديكتاتورية تجهض منطلقات الثورة الإنسانية الكبرى.

إن كل حكم قطري، مهما كان شكله، لا يعمل على إزاحة النظام الرأسمالي العالمي عن عاتق قطره فينخرط في هذا النظام ويشارك في تكريس الوطن العربي الكبير للتمزيق هو في جوهره حكم ديكتاتوري وإن تستر ببرلمانية وديموقراطية وثنية تخدم مصالح قطرية ضيقة على حساب مصير الأمة. أي إن الكفاح ضد الديكتاتورية في القطر بهدف الوصول إلى حكم برلماني فقط يبقي البلد منخرطاً في النظام الرأسمالي لن يغير شيئاً من واقع تخلف المتخلف العربي ومن ارتباطه بقاهريه المستعمرين الجدد. فلا سبيل إذن إلا سلوك طريق الثورة للخلاص من هذا النظام العالمي العبودي. وهذه الثورة لا يمكن أن تكون قطرية ولا بد لها من أن تكون ثورة الأمة بكاملها، بجميع أقطارها. وهذا هو الذي لم يتضح في تلك الأيام في أذهان أولئك القادة للقوى التقدمية فكانت طموحاتهم تنحط إلى الحصول على السلطة القطرية، بل في عهدي الزعيم وحزب الشعب كانت تلك الطموحات تنحط إلى مستوى مشاركة الرجعية والانتهاز في السلطة، في الوقت الذي كانت فيه جماهير التقدميين هي القوى المحرِّكة، إلا أن قادتهم كانوا حينذاك منقسمين على أنفسهم يتسابقون للانفراد بتلك "السلطة" القطرية المنخرطة في نظام القهر العالمي للعبوديين الرأسماليين.

لا خلاص إلا بالثورة

 

كان الأستاذ أكرم الحوراني، وما يزال على ما نعتقد، يقول أن استلام التقدميين للسلطة في تلك الأيام يشكل مغامرة هوجاء لعدم توفر الظروف الداخلية والخارجية المؤاتية. فسورية كانت معرضة للغزو الخارجي في ظروف الحرب العالمية الباردة. وأضاف إلى هذا في عدد من المقابلات مع الأستاذ الدكتور مصطفى الدندشلي الذي كان يعدّ بحثه القيم "مساهمة في نقد الحركات السياسية في الوطن العربي"، فقال إن حزبه، الحزب العربي الاشتراكي، لم يعدم الفرصة لاستلام الحكم فالطريق إلى السلطة كانت مفتوحة أمامه منذ عام 1950 عندما أُسس وقام وحتى عام 1958 عندما تحققت الوحدة السورية المصرية. وأضاف بأن الإحجام عن الاستيلاء على السلطة كان بسبب انشغالنا بخلق وتوسيع حركة الجماهير بالاعتماد على العناصر التقدمية في الجيش. وما كان هذا الرأي يخص الأستاذ أكرم وحده بين التقدميين الثوريين بل كان هؤلاء جميعاً يقولون بهذا القول وأكثر. ولننظر عن قرب إلى هذا الرأي الذي يداوي الداء بالداء: المستدين مثلاً يداوي دينه بمزيد من الاستدانة، والمنخرط في نظام القهر والعبودية الرأسمالية الاحتكارية يحاول الخلاص من عبوديته بمزيد من الارتباط بهذا النظام، والغريق المتخبط بمزيد من التخبط إلخ…، فنرى ما يلي:

       1- إن الركون إلى آراء جنرالاتنا من أمثال الشيشكلي والحنّاوي والزعيم الذين لم يكتشفوا بعد الحروب الشعبية الثورية الطويلة الأمد وعقائدها وستراتيجياتها وعملياتها على مختلف حجومها لا ولن يروا أبداً ظروفاً داخلية وخارجية ملائمة للثورة على الظلم. فعندما لا تكون مثلاً ظروف الشعوب المقهورة ملائمة للتمرد في أعقاب الحرب العالمية الثانية، حيث كان المستعمرون قاهروها منهكين إلى حد التلاشي بنتيجة الدمار الشامل الذي سببته تلك الحرب لبلادهم واقتصادهم وحيث تصاعدت حركة التحرر العالمية إلى أعلى الذرى فلوحق الاستعمار في كل بقعة من العالم وهُزم ودُمّر، حتى الجديد منه وهو الاستعمار الأميركي المتبجح كان حينذاك يلقى هزيمة كاوية على يد الكوريين والمتطوعة الصينيين، نقول عندما لا تكون مثل هذه الظروف، التي عناها الأستاذ أكرم في رأيه أعلاه، ملائمة فمتى يا ترى تكون ملائمة؟.. ولقد انتظرناها هذه الظروف مع الأستاذ أكرم فأفسحنا بانتظارنا هذا للاستعمار الجديد الأميركي الطريق وهيأنا له "الظروف الملائمة" ليبني بيسر وسهولة إمبراطوريته العبودية العالمية ويضع قلبها في عالمنا العربي. وإنه من البديهي أن لا يجد أبداً الشعب المقهور ظرفاً ملائماً، داخلياً وخارجياً، عندما يمارس لعبة الاستقلال الموهوم في قفص المستعمرين العالمي فينتفخ انتفاخهم بممارسة الحروب النظامية بجيوشه المنفصلة عن جماهير أمته لاستخلاص حقوقه. فالجيوش النظامية في البلاد المتخلفة عندما لا تكون امتداداً لجماهير شعوبها الثائرة وفصيلة طليعية من الفصائل الثورية للجماهير تكون بداهة، كما رأينا بما مرّ علينا من تجارب، صالحة فقط كأداة قمع للثورات.

       2- إن القيادات التقدمية الثورية العربية أساءت تقدير شدة توتر المناخ الثوري الذي كانت تعيشه جماهير أمتنا، مع جماهير العالم المستعمر وشبه المستعمر، في الأربعينات والخمسينات من هذا القرن، المناخ الذي تجلّى بكل أبعاده عند تأميم القناة ويوم قيام الوحدة السورية المصرية ويوم اندلاع ثورة الرابع عشر من تموز في العراق. كان الأستاذ أكرم مثلاً، كما صرح به، يخشى من غزو الجيش العراقي لسورية. وهذه خشية مفهومة فيما لو اقتصر الصراع على الجيشين النظاميين للقطرين الشقيقين. ولكن ماذا كان بالإمكان أن يبقى من نظام الجيش العراقي عندما يُجابَه هذا النظام طوال مدة كافية بجيش سوري يكون طليعة الجماهير العربية الثائرة في العراق وفي سورية وفي كل الوطن العربي؟.. مما لا ريب فيه أن ذلك النظام للجيش العراقي الذي كان يخشاه الأستاذ أكرم لا بد من أن يتحول حينذاك إلى تلك الثورة العارمة التي أطاحت بالعملاء يوم الرابع عشر من تموز عام 1958. وكنت قد سألت مرة ممثل العراق في دمشق الوزير المفوض عبد الجليل الراوي في صيف عام 1957 أيام بلغ تآمر الاستعمار علينا ذروته في الشدة، وعندما كانت جماهير شعبنا السوري تملأ ساحات التدريب المنتشرة في كل أنحاء القطر للاستعداد لمواجهة المستعمرين فقلت له: "أتعتقد حقاً أن الجيش العراقي سيطيع الحكام هناك ويقوم بعدوان علينا؟". فأجابني الراوي: "إن الجيش العراقي سينتفض إذن على طغاته ويحرر العراق من حكمهم!..". وكنت في الواقع أسأله سؤال العارف فقد كانت لنا اتصالات وثيقة بقائد ثورة الرابع عشر من تموز المجاهد الشهيد عبد الكريم قاسم منذ لقائي به في الأردن عام 1956 أيام العدوان على القناة وسيأتي خبر ذلك فيما سيأتي من هذه الدراسة. ولا بد هنا من القول بأن الأستاذ أكرم الذي كان يخشى غزو الجيش العراقي لسورية كان، بحكم مركزه كرئيس لمجلس النواب وكعضو في الجبهة الوطنية، عالماً بتلك الاتصالات..

       3- إن من نتائج غياب العقيدة الصحيحة للثورة المعاصرة هو ظن قادة قوى التقدم الثورية أن التخلف بمختلف مظاهره المادية كالإقطاع مثلاً والبورجوازية الأنانية وضعف قوى الإنتاج والجهل والانتهاز وغيره هو "مرض داخلي" يمكن شفاؤه ويجب شفاؤه قبل منازلة المستعمرين، وذلك ظناً منهم بإمكان فصل ما هو داخلي عما هو خارجي في هذا العصر. إنهم لا يرون النظام العالمي على حقيقته، هذا النظام الذي يمتد بشبكة علاقاته إلى كل مناطق العالم فيحتوي كل الأنظمة الفرعية في كل جماعة إنسانية وكل قطر من أقطار الدنيا ويجعل من كل واحد منها امتداداً له في بلده يوفر لسادته الرأسماليين الاحتكاريين فضول القيم. فيكون إذن كل تعرّض لنظام خاص في كل بلد من بلاد جملة المجتمعات الإنسانية العالمية هو في ذات الوقت تعرّض لذلك النظام العالمي وبالتالي لا بد من أن يؤدي إلى الاصطدام بالمستعمرين. لذلك لا يمكن "سرقة التقدم" وتحقيقه في كل قطر من أقطار الدنيا بنجوة عن أعين هؤلاء المستعمرين وعن تدخلهم بشكل أو بآخر. أي إن التقدم المادي يأخذ بالضرورة شكل العمل الثوري الذي يقوّض نظامهم في ذلك القطر، أو إن منجزاته تكون مع مجمل اقتصاد البلد ملكاً للاحتكاريين عندما يتحقق بنتيجة قروضهم الأمر الواضح كل الوضوح في عالمنا الحالي، أو إنه لا يكون أبداً فيغرق البلد في ظلمات الفقر والجوع. هذه هي خيارات هذا العصر الذي هو العصر الأميركي. فالمسألة تبقى إذن فيما إذا كان من الواجب سلوك طريق الثورة للخلاص من هذا النظام الاستعماري أم البقاء والانخراط فيه تحت مختلف اليافطات الخادعة كالمحافظة على التقاليد مثلاً أو المحافظة على الديمقراطية أو محاولة التنمية والركض لإدراك مستوى المتقدمين "الطائر" أبداً بعيداً عن المقهورين.

       4- قال الأستاذ أكرم إن قيادته أحجمت عن الاستيلاء على السلطة بسبب انشغالها بخلق وتوسيع حركة الجماهير بالاعتماد على العناصر التقدمية في الجيش. ولكن الذي رأيناه حتى الآن في هذه الدراسة أن القيادات التقدمية الثورية كانت تقبل السير تحت أعلام غاصبي السلطة من حسني الزعيم إلى سامي الحنّاوي فأديب الشيشكلي الذين كانوا دوماً بعد وصولهم إلى السلطة بمساعدة تلك القيادات يقومون باضطهادها ومطاردتها. فكيف وأين كانت "تُخْلَقُ وتُوَسَّعُ" حركة الجماهير بالاعتماد على العناصر التقدمية في الجيش في ظل تلك الديكتاتوريات التي استمرت من 30 آذار 1949 حتى 25 شباط 1954؟.. والواقع، كما سبق وقلنا في أول فصل من هذه الدراسة، ما كانت الجماهير بحاجة إلى أن "تُخْلَقَ وتُوَسَّعَ" حركتها من قبل قياداتها فهي كانت تتقدم عليها، والذي كانت بحاجة إليه هو ما نردده دوماً: قيادة ترى وتفهم الواقع العالمي والمحلي بشكل جيد، وتنطلق لتدبير الثورة على هذا الواقع والخلاص منه.