الفصل الثامن

الأحلاف الاستعمارية

 

حلف الدفاع المشترك

 

قلنا في هذه الدراسة إن جلاء الجيوش الأجنبية عن سورية ولبنان عام 1946 حقق لهذين القطرين الشقيقين وضعاً عُدَّ في تلك الأيام ظاهرة شاذة في نظام القهر الرأسمالي الاحتكاري العالمي، حيث أصبح الشعبان السوري واللبناني بهذا الوضع مطلقين من كل قيد تعاقدي مع دول الاستعمار وخاليين من كل قاعدة للمستعمرين. وقلنا إن هذا الأمر قد أقلق المستعمرين جميعاً: قديمهم وحديثهم، فبادروا بالعمل، كل جهة منهم بالشكل الذي يلائم مصالحها، لحصر هذا الخطر أولاً ومنع تفشيه في بقية العالم المستعبد، وخاصة في بقية الوطن العربي، ثم للسعي إلى القضاء عليه بالطريقة المناسبة. فرأينا البريطانيين مثلاً يحاولون بكل ما لديهم من جهد، مباشر ومن خلال الهاشميين، مدّ نفوذهم إلى سورية وإخضاعها لسيطرتهم بإقامة عرش فيها لوليّ عهد العراق، بينما كان الأميركان، مباشرة ومن خلال الرجعيتين المصرية والسعودية، يعملون على "ضبط" القطر السوري بالديكتاتوريات المتعاقبة: كانت كل ديكتاتورية منها تعمل على "ضبط" وتمزيق الجماهير، وتعمل على الحؤول دون قيام ظروف الثورة الكبرى الحاسمة وامتدادها من القطر السوري إلى بقية الأقطار العربية وبالتالي تحقيق الوحدة الكبرى لهذا الوطن في معمعان الكفاح من أجل إزالة الكيان الصهيوني وإسقاط الرجعيات والانتهازيات المتعاونة مع المستعمرين مساندي الصهاينة. وكانت الديكتاتوريات تلتزم بمخططات المستعمرين الجدد الأميركان بعملها على إحباط محاولات المستعمرين القدماء الإنجليز في توطيد مراكزهم في المنطقة بانتظار الفرصة لاقتلاعهم واستبدالهم بهيمنة النظام الأميركي. ولعل من المفيد أن نعرض هنا، وهو ما كنا أوردناه في دراسة "العسكرية الأميركية سياج العبودية المعاصرة"، بعض أسس الستراتيجية الأميركية في طور ما بعد الحرب العالمية الثانية من عام 1945 حتى بدء الحرب الباردة بمجيء الثنائي (أيزنهور، دَلَس) في عام 1953 فنقول:

 كانت الاحتكارية الأميركية منهمكة بكليّتها بوضع الأسس والدعامات الأولى للإمبراطورية العالمية المتعددة الأطراف والموحدة بزعامتها وذلك بتحقيق الأمور التالية:

       ‌أ -  الأخذ بيد البلاد الرأسمالية الأوروبية المنتصرة والمهزومة في الحرب العالمية الثانية ومساعدتها للنهوض وبناء ما دمرته هذه الحرب فيها. والتغلغل أيضاً في اقتصادها والهيمنة عليها سياسياً وعسكرياً بالاستفادة من ظروفها الكارثية حينذاك.

       ‌ب -  تكنيس الشكل القديم للاستعمار، ودفع المستعمرات وأشباه المستعمرات (أي بلاد ما يسمى حالياً بالعالم الثالث) إلى الاستقلال السياسي في حدود النظام الرأسمالي الاحتكاري العالمي بوجهه المتخلف، النظام الذي يكون بزعامة الاحتكارية الأميركية.

       ‌ج -  المباشرة بإقامة الجهاز الإمبريالي العالمي الذي يتألف من مختلف الأحلاف العسكرية والسياسية في أوروبا الغربية، وأميركا اللاتينية، والشرق الأوسط، وجنوب شرقي آسيا. وإقامة شبكة تخريب وتجسس عالمية تغطي سطح الكرة الأرضية بقيادة مركز معقد التركيب يعمل تحت الإشراف المباشر لمجلس الأمن القومي الذي يرأسه رئيس الجمهورية في البيت الأبيض، ونشر القواعد العسكرية الأميركية في بحار ودول العالم الرأسمالي المتقدم والمتخلف، وتوزيع الأساطيل الحربية في جميع بحار العالم.

وحاولت الولايات المتحدة الأميركية في بدء هذا الطور أن تستغل ما تركته الحرب من دمار في الدول التي كانت حينذاك تقوم بتكوين المعسكر الاشتراكي، وعلى الأخص منها الاتحاد السوفياتي، لتضمها إلى إمبراطوريتها الآنفة الذكر. وقامت المحاولة على عرض مختلف المعونات الاقتصادية المشروطة من جهة وعلى الضغط الاقتصادي من جهة ثانية بمختلف أشكاله التي منها مثلاً الإلحاح على الاتحاد السوفياتي لتسديد ديونه التي عقدها مع أميركا أثناء الحرب (وهذه سياسة ثابتة لا تتغير نشاهد حالياً في التسعينات من هذا القرن تطبيقها الدؤوب من قبل أميركا لتصفية المعسكر الاشتراكي وإتباعه بإمبراطوريتها العالمية). ونجح الأميركان في إخراج يوغوسلافيا من المعسكر الاشتراكي وضمها إلى معسكرهم (بنظامها الاشتراكي الكامل) ولكنهم حينذاك فشلوا في التغلغل بعيداً في ذلك المعسكر.

ويمكن القول إن الولايات المتحدة الأميركية، كي تكسب الوقت وتتمم مشاريعها الاستعمارية العالمية الآنفة الذكر، كانت تمارس بشكل عام سياسة "التهدئة" تجاه الاتحاد السوفياتي، إلى جانب ستراتيجية دفاع إيجابي (على الرغم من الحرب الكلامية العنيفة التي كانت تقوم بينهما). ونقصد بالدفاع الإيجابي أن الولايات المتحدة الأميركية كانت حينذاك تُظهر تمام الاستعداد للدخول في حرب مع الاتحاد السوفياتي فيما لو تعرقلت مخططاتها العالمية بسببه. ويمكن تسمية الستراتيجية هنا باسم "ستراتيجية الإبعاد": إبعاد الاتحاد السوفياتي من طريق ما كانت تدبّره أميركا في العالم. وفي الواقع كان الاتحاد السوفياتي من جهته يرى في مساعي أميركا "لتكنيس" الاستعمار القديم من العالم "خطوة متقدمة" بالإضافة إلى انشغاله حينذاك بالأعمال الداخلية الهائلة الضخامة لإزالة ما خلفته الحرب من دمار في بلده. وبالإمكان أن نجمل الأسس المادية للموقف الأميركي بما يلي:

       1.  خرج الاتحاد السوفياتي من الحرب وهو أقوى دولة برية في العالم، تجاه حلفاءٍ لأميركا في أوروبا والشرق الأقصى كانوا منهكين ومنهمكين حينذاك بإزالة الدمار الشامل الذي خلفته الحرب في بلادهم.

       2.  كان المعسكر الاشتراكي يتسع اتساعاً هائلاً بانتصار ثورة الصين الشعبية، ثم امتداد نار الثورة إلى فييتنام، ووصول شرارتها إلى الأرخبيل الأندنوسي.

       3.  النهوض الكاسح للحركات الوطنية ضد المستعمرين القدماء، في المستعمرات وأشباه المستعمرات، مع اضطرار أميركا إلى وضع القناع الكاذب للتظاهر بالدفاع عن "التحرر وحقوق الإنسان" ريثما يتم بناء إمبراطوريتها العالمية على حساب المستعمرين القدماء وعلى حساب الحرية الحقيقية لشعوب العالم الثالث.

       4.  اشتداد الحركات الجماهيرية في بلاد المستعمرين بالذات ضد النظام الرأسمالي الاحتكاري العالمي الذي سبب كوارث الحرب الفاجعة: في فرانسة مثلاً كان للحزب الشيوعي حتى أواخر الخمسينات أكبر عدد من النواب في البرلمان وكان يسيطر على أكثر البلديات هناك، وما كان الوسط واليمين يتمكنان من تشكيل حكوماتهما إلا بعقد تحالفات بين مختلف أحزابهما.

       5.  كان تكوّن المخزون النووي الأميركي يتعثر، في الوقت الذي كان فيه الاتحاد السوفياتي يتقدم بسرعة نحو صنع أسلحته النووية، فتمت له أول تجربة ذرية عام 1949. يقول العالم الذري الألماني أرفين أوبنهايمر (الذي أصبح عالماً وباحثاً ذرياً أميركياً في أعقاب الحرب): "..كانت طائرات الولايات المتحدة هي التي ألقت قنابلنا الألمانية الذرية التي أنتجناها في إينسبروك على هيروشيما وناكازاكي، وكان قد استولى عليها الجيش الأميركي في أواخر الحرب ونقلها إلى بلاده… إن الحماسة الجنونية التي تلت تجارب حزيران لعام 1946 في بكيني تكاد لا تذكر اليوم أمام الحماسة التي ظهرت بعد ما عرف أن القنابل الأميركية التي يمكن دعوتها بحق قنابل ذرية قد ألقيت في أوائل أيار عام 1948 في إينيوتوك".

                  6.  مشاغل أميركا في بناء إمبراطوريتها العالمية.

وكان حلف الأطلسي قد قام منذ عام 1949 بزعامة الولايات المتحدة الأميركية. وقد انضم إلى هذا الحلف في البدء كل من الولايات المتحدة الأميركية وإنجلترة وفرانسة وإيطاليا والدانمرك والنروج وهولندة وبلجيكا واللوكسمبرغ وإيسلندة والبرتغال وكندا، ثم انضم إلى هذا الحلف فيما بعد كل من تركيا واليونان وألمانيا الغربية. وفي الربع الأول من عام 1951 عُقِدت اجتماعات قادةٍ أطلسيين أميركيين وإنجليز وفرنسيين وإيطاليين في جزيرة مالطة لبحث مسألة الدفاع الأطلسي في منطقة الشرق الأوسط. وكان قبل هذا، في الخامس والعشرين من أيار عام 1950، قد صدر عن الولايات المتحدة الأميركية وإنجلترة وفرانسة البيان الثلاثي الشهير الذي يحرّض على حرمان العرب من التسلح، ويعلن أن هذه الدول الاستعمارية الثلاث ملتزمة بحفظ السلام على الحدود الفلسطينية ومعارضتها المطلقة لاستعمال القوة أو التهديد باستعمالها بين دول المنطقة. والواضح أن مُصْدِري هذا البيان قصدوا بالعبارة الأخيرة منع العرب من استخلاص حقوقهم في وطنهم فلسطين، وليس منعهم من محاربة بعضهم بعضاً ولا منع الصهاينة من شن العدوان عليهم متى رغبوا لتحقيق مطامعهم الاستيطانية، فهم بعد هذا البيان شنّوا ما لا حصر له من الاعتداءات على العرب بتشجيع من هؤلاء المستعمرين أصحاب البيان بالذات.

وكان النظام الاستعماري البريطاني يهتز في تلك الأيام في المنطقة ابتداءً من مصر وحتى إيران. فالجماهير المصرية لا تنقطع عن الكفاح من أجل تحقيق الجلاء البريطاني التام عن أرض الوطن وإقامة وحدة وادي النيل وإحباط مشاريع الدفاع المشترك الاستعمارية التي كان الإنجليز يسعون إلى فرضها على العرب. وقد كتب مثلاً رئيس جمعية الشباب المسلم في مصر صالح حرب في النصف الثاني من شهر كانون الثاني عام 1951 كتاباً إلى الأمين العام للجامعة العربية يقول فيه: "إن الشعوب العربية بعد كل ما قاسته لن تقبل أن تباع باسم الديموقراطية في السوق البريطانية الاستعمارية. إن ما تبقّى من الكرامة العربية التي ورثناها عن أجدادنا العظام تدفعنا لأن نسألك باسم الشعوب العربية أن تعلن الحياد المطلق. إننا لا نرغب أن نساند الشيوعية ولا أن ندافع عن ديموقراطية المستعمرين". وكانت حركة الضباط الأحرار في تلك الأثناء في الجيش المصري تتصاعد وتبشّر بحدوث تغيّرات عميقة هناك. وقبل هذا كان قد اغتيل في الأردن الملك عبد الله وهو غني عن التعريف كخادم مجرَّب للاستعمار البريطاني. أما في سورية فقد سقطت مشاريع العميل الإنجليزي الآخر عبد الإله الوصي على عرش العراق بقيام حكم الشيشكلي. وكانت الجماهير هنا تعارض بطبيعة الحال بشدة مشاريع التحالف مع المستعمرين تحت أي يافطة. وقد عبّرت أحزاب البعث والاشتراكي الحوراني والجبهة الإسلامية منذ أوائل عام 1950، عندما تصاعدت روائح التحالف مع الغرب، عن معارضتها الشديدة لكل سياسة تؤدي إلى الانخراط في نظام دفاعي مع المستعمرين ونادت بالحياد. وكان النظام الاستعماري البريطاني يهتز في إيران. فرئيس الوزراء الإيراني علي رازمارا اتجه منذ أوائل عام 1950 نحو الولايات المتحدة طالباً مساعدة مالية بقيمة مائة مليون دولار للقيام ببناء اقتصاد بلده الذي دمرته الحرب، فنال فقط خمسة وعشرين مليوناً مع "همسة" في الأذن "تنصحه" بالعودة على الإنجليز ليطلب منهم إعادة النظر في عائدات النفط وجعلها 50% كما هو الحال القائم حينذاك بين الأميركيين والسعوديين (الحال الذي استجد في تلك الأيام في العلاقات النفطية الشرق أوسطية). وكان هذا الأمر منطلق الأحداث التي أدت إلى عهد مصدّق وإلى تأميم النفط الإيراني ثم تسلل الاحتكارات النفطية الأميركية للسيطرة على هذا النفط. وكان إلى وقت ليس ببعيد، إلى الوقت الذي أصبح فيه النظام الرأسمالي الاحتكاري العالمي بزعامة الولايات المتحدة الأميركية يستوعب حتى "النظم الاشتراكية" ببيروقراطياتها وانتهازييها عن طريق القروض وغيره، نقول كان التأميم، لا سيما تأميم النفط، يشكل بمفاهيم المستعمرين عدواناً شيوعياً. يقول خليل كنة مثلاً، وهو أحد تلامذة العميل البريطاني الشهير نوري السعيد، إن تأميم النفط هو "شعار شيوعي" يُقْصَدُ من ورائه تعطيل الثروة وإشاعة الفقر والعطالة ليتسنى للشيوعية استغلال التذمر وقيادة الجماهير التي غذتها بالحقد للإطاحة بالنظام القائم، وهذا بحسب ما جاء في مذكرات هذا الكنة تحت عنوان "العراق أمسه وغده". لكل هذا رأينا البريطانيين بعد اجتماعات مالطة المذكورة أعلاه يهرعون إلى منطقتنا في محاولة لتدارك الأحداث وتدعيم نظامهم الاستعماري المتهاوي، ويتبعهم عن كثب الأميركيون لتعطيل مساعيهم هذه لصالح بناء إمبراطوريتهم الاستعمارية العالمية، كما يأتي الفرنسيون أيضاً غرماء البريطانيين علَّهم يجدون بعض المنافع الاستعمارية. ففي شهري كانون الثاني وشباط عام 1951 زار الجنرال سير بريان روبرتسون العواصم العربية، كما عقد ماك غي مساعد وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأوسط مؤتمراً لسفراء دولته في أقطار المنطقة. وانعقد مؤتمر مشابه في القاهرة برئاسة سفير فرانسة كوف دو مورفيل في مصر، كما قام الجنرال الفرنسي فاليري بزيارة لدمشق.

لقد كان عرض الجنرال الإنجليزي روبرتسون في دمشق "صداقة" دولته بريطانيا لسورية ووقوفها إلى جانبها ضد مشاريع الهاشميين وذلك مقابل قبول سورية تسهيل مرور القوات الإنجليزية المرابطة في قناة السويس عبر أراضيها إلى شمالي العراق في حالة عدوان شيوعي على المنطقة. وكان هذا يعني فتح الحدود بين سورية والكيان الصهيوني في فلسطين مع وضع طرق وموانئ ومطارات سورية تحت تصرف الجيش البريطاني في حالة "عدوان شيوعي" تحدد شكله ونوعه الحكومة البريطانية. وقد رُفِض هذا العرض من قبل سورية.

إن المستعمرين جميعاً يعرفون جيداً أن الاتحاد السوفياتي بظروفه التي كان يمر بها في أعقاب الحرب العالمية الثانية لا يبدأ أي حرب ولا يستفيد من تفوقه براً إلا في الدفاع عن حدوده. والذي كان يشغل بالهم، وما يزال وسيبقى شغلهم الشاغل، هو أن يعمل العالم الثالث بجدية للخلاص من نظامهم الاستعماري العالمي وينطلق في سبل الحرية إلى بناء الطور المقبل للإنسان. فما يُرْمَزُ إليه بلغتهم بالشيوعية والخطر الشيوعي والعدوان الشيوعي وما شابه في بلد عربي مثلاً أو بلد نفطي كإيران هو قيام حكم وطني خارج النظام الرأسمالي الاحتكاري فيه، الأمر الذي يستوجب عندئذ تدخلهم العسكري بشكل من الأشكال لتحطيم الحكم المذكور. فبريطانيا، الدولة البحرية المتحكمة حينذاك بقناة السويس ومضيق جبل طارق، ولها قواعد عسكرية في عدن وشرقي أفريقيا والخليج العربي وجزر المحيط الهندي، ما كانت بحاجة إلى الأرض السورية لمرور قواتها إلى العراق. ولكنها كانت تخشى تلك القوى المتحررة من الاستعمار في سورية من أن تطور حركتها لتجعل من بلدها قاعدة للثورة العربية الكبرى التي تجذب الجماهير العربية في شتى أقطارها، لاسيما منها القطر العراقي وأقطار الخليج حيث يستقر أضخم احتياطي للنفط في العالم. فهذا الوضع المتحرر للجماهير السورية، الذي لم تستطع الديكتاتوريات المتعاقبة حينذاك على هذا القطر من النيل منه فكانت له دوماً الغلبة عليها، كان بالنسبة إلى الجنرال روبرتسون ولدولته بريطانيا وضعاً غير مستقر قد تنتقل عدواه إلى العراق حسب ما جاء في "الصراع على سورية" بقلم باتريك سيل. فكانت لذلك تلك المساعي البريطانية المتعددة الأشكال والموحدة الهدف لإدخال سورية في دائرة النفوذ البريطاني، حيث يتحقق "الاستقرار" الإنجليزي المنشود ضد التحرر العربي وضد المنافسين الخطرين الأميركان.

دعت الدول الكبرى، الولايات المتحدة الأميركية وإنجلترة وفرانسة وإيطالية، في الثالث عشر من تشرين أول عام 1951 مصر للدخول في حلف الدفاع المشترك. وقدّمت في ذات الوقت بريطانيا مذكرة إلى الحكومة المصرية تعلمها فيها أن الجلاء عن قناة السويس مرهون بقبولها لخطة هذا الدفاع المشترك. وكانت الدول الأربع المذكورة تأمل أن تقوم مصر، بصفتها أكبر دولة عربية، بجر بقية أشقائها إلى هذا الحلف. وقد أبلغ سفراء هذه الدول، في ذات اليوم، بقية البلاد العربية مضمون طلبها المذكور إلى مصر. وكان الرد الفوري لحكومة الوفد برئاسة مصطفى النحاس باشا رفض الطلب الاستعماري. وقبل أسبوع من هذا التاريخ، أي في الثامن من تشرين أول، كانت هذه الحكومة المصرية قد قامت من جانب واحد بإلغاء المعاهدة المصرية البريطانية لعام 1936 مع إلغاء اتفاقات القواعد الإنجليزية على التراب المصري وإعلان ملك مصر ملكاً على السودان أيضاً. وقد أيدت الجماهير في سورية بحماس موقف مصر من الإنجليز ومن الأحلاف الاستعمارية فقامت المظاهرات وأُرسلت برقيات التأييد إلى مجلس الأمن وإلى رئيسي الوزراء السوري والمصري. وتحت ضغط الجماهير شنّ وزير الخارجية السوري فيضي الأتاسي حملة شديدة على سياسة الأحلاف الغربية في البرلمان.

حلف بغداد

 

كان يقوم في وجه الاحتكارية الرأسمالية الأميركية في عملها على بناء إمبراطوريتها الاستعمارية العالمية في أعقاب الحرب العالمية الثانية ثلاث صعوبات رئيسية:

                    -   احتواء عالم المستعمرات وشبه المستعمرات المنطلق حينذاك بزخم كاسح في طريق التحرر والانطلاق نحو عالم منشود خال من المستعمرين.

        - الإمبراطوريات الرأسمالية الاحتكارية الأوروبية التي كانت تقتسم العالم فيما بينها وتقسمه إلى إقطاعيات، كل إقطاعة منها تشكل مستملكة خاصة للطغمة الرأسمالية الاحتكارية الحاكمة في بلد مستعمِرها. فكان من المستحيل قيام إمبراطورية عالمية موحدة بزعامة الاحتكارية الرأسمالية الأميركية ما بقيت تلك الإمبراطوريات القديمة.

        - المعسكر الاشتراكي الذي امتد بظفر الثورة الاشتراكية الصينية إلى مساحات شاسعة من الأرض تضم ما يقرب من ثلث بني الإنسان. فكان من المستحيل أن يمتد الاستعمار الأميركي الجديد إلى أجزاء من ذلك العالم الاشتراكي الضخم، بله احتواء هذا العالم بإمبراطوريته في ظروف ما بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة.

وكان من نتيجة هذا الوضع العالمي في مواجهة المطامع الأميركية أن تبنت الرأسمالية الاحتكارية هناك الستراتيجية المار ذكرها أعلاه تحت اسم "ستراتيجية الإبعاد"، أي إبعاد المعسكر الاشتراكي ليخلي الطريق أمام الرأسمالية الأميركية لتستوعب العالم المتخلف، المنطلق حينذاك في طريق التحرر من الاستعمار القديم، وتكنيس إمبراطوريات هذا الاستعمار لصالح بناء إمبراطوريتها الجديدة. وقد رأينا تفصيل هذا الأمر بقدر كاف في الفصل الأول من هذه الدراسة. ونعود هنا ونذكّر بالأساس الذي قامت عليه المساعي الأميركية العالمية لبلوغ غرضها هذا وهو: اندساس المساعي الأميركية، إلى درجة الامتزاج في كثير من الحالات، في حركات التحرر العالمية، الموجهة بطبيعة الحال حينذاك ضد الاستعمار القديم، للاستفادة من هذه الحركات في تقويض هذا الاستعمار وتكنيس أنقاضه، على أن يقف التحرر عند هذا الحد ويبقى "المتحررون" في النظام الرأسمالي الاحتكاري العالمي الذي ستكون أميركا بالضرورة زعيمة له. وهذا أمر لا يعني سوى أن تكون نتيجة ثورات التحرر في ذلك العالم في تلك الأيام انخراط أمم الثائرين في النظام الاستعماري الجديد وتبعيتها للإمبراطورية الاستعمارية العالمية المتعددة الرؤوس الموحدة بزعامة الولايات المتحدة الأميركية.

واندلعت الحرب الكورية في عام 1950، وكانت الحرب الفييتنامية في الهند الصينية مستمرة. وحلت الهزيمة الساحقة بالمستعمرين في هاتين الحربين: في الحرب الكورية عندما تحطم الجيش الأميركي على نهر يالو على يد الكوريين والمتطوعة الصينيين، وفي الحرب الفييتنامية عندما تحطم الجيش الفرنسي في ديان بيان فو على يد الفييتناميين الذين استمدوا أسلحتهم وكثيراً من وسائلهم من الصين والاتحاد السوفياتي. فتبين هنا أن ستراتيجية "الإبعاد" الأميركية الموصوفة أعلاه أصبحت بتلك الظروف غير مجدية، فسقطت لتقوم مقامها ستراتيجية "الحصار المزدوج"، وتتلخص بإقامة "ستار حديدي" على الحدود الفاصلة بين العالم الرأسمالي بشطريه المتقدم والمتخلف وبين العالم الاشتراكي. وقد رأت القيادة الأميركية التي قامت في عام 1953 بالثنائي (أيزنهور، دَلَس) أن خير تنفيذ لهذه الستراتيجية الأخيرة يكون من خلال "الحرب الباردة" التي توصل العالم، بحسب ما كان يعبر عنه دَلَس على الدوام في تلك الأيام، إلى "حافة الهاوية". وهذا الأمر يعني بوضوح تام: تضييق الهامش الذي يتمكن فيه الاتحاد السوفياتي ومعسكره من التحرك والتفاعل مع العالم الثالث إلى أدنى حد ممكن بحيث تندلع الحرب النووية عند أقل تجاوز لهذا الهامش. وهنا نجد من المفيد أيضاً أن نعرض فيما يلي ما كنا قدمناه حول هذا الموضوع في دراستنا تحت عنوان "العسكرية الأميركية سياج العبودية المعاصرة": إن طور الحرب الباردة ابتدأ فعلياً بعهد أيزنهور ووزير خارجيته دَلَس وانتهى بطور الانشقاق في المعسكر الاشتراكي، حيث دب الخلاف العلني بين الصين وأتباع أيديولوجيتها من جهة في العالم، وبين الاتحاد السوفياتي وأتباع أيديولوجيته من جهة أخرى في العالم. وفي هذا الطور كان المخزون النووي الحراري قد تقدم كماً وكيفاً في المعسكرين. وكانت العلاقات بين الدول الاشتراكية الأوروبية قد استقرت وقام حلف وارسو في مواجهة حلف الأطلسي. وفي الجهة المقابلة انتهت أميركا عملياً من توحيد الإمبراطوريات الاستعمارية القديمة في الإمبراطورية العالمية المتعددة الرؤوس بزعامتها. ولكن انهيار الاستعمار القديم وعجزه في تلك الأيام، وبروز الحكومات الوطنية في معظم المستعمرات القديمة ألهب حماس جماهير العالم الثالث، فاشتدت فيه الثورات التي كان من أعظمها ثورتا الجزائر والفييتنام. وراح الناس حينذاك في عالمنا المتخلف يتطلعون إلى الأفق الأبعد، يتطلعون إلى الخلاص من كل أشكال الاستعمار ومن جملتها الاستعمار الجديد وإمبراطوريته العالمية اللذين خرجت بهما أميركا على العالم. ثم إن القناع الخادع الذي كان يغطي الوجه الأميركي ويظهر أميركا كدولة مناصرة للحرية وحقوق الإنسان قد سقط في تلك الأيام. وظهرت هذه الدولة كأكبر عدو للإنسان وقيمه التي تتظاهر نفاقاً بالدفاع عنها. وبرز استعمارها في العالم القديم (البعيد نسبياً قبل تلك الأيام عن فظائعها في العالم الجديد وخاصة منه اللاتيني والزنجي) نقول برز استعمارها كأفظع بلاء ابتليت به البشرية طوال عهودها. ولا بد لنا بهذه المناسبة من أن نسجل بأن الشعب السوري كان له الفضل الأكبر في تمزيق ذلك القناع الخادع أمام جماهير العالم الثالث، بالنضال الجبار الذي خاضه ضد المؤامرات الأميركية عليه وعلى أخوته في الأقطار العربية الأخرى، وبإحباطه لتلك المؤامرات الواحدة تلو الأخرى: من اغتيال الشهيد عدنان المالكي إلى مؤامرة ستون والحشود التركية، مروراً بمؤامرات مختلف الأحلاف الاستعمارية. كان الهدف الأساسي للولايات المتحدة الأميركية في هذا الطور، نتيجة لما أشرنا إليه، هو عزل العالم الثالث والعالم الاشتراكي، كل واحد منهما عن الآخر. وكان هذا لتحقيق أمرين:

الأول: منع العالم الثالث من إقامة علاقات حرة طبيعية مع الكتلة الشرقية، كي لا تستفيد هذه الدول من مساعدات وأسلحة الاتحاد السوفياتي وحلفائه لبناء اقتصادها والدفاع عن استقلالها وحقوقها.

الثاني: عرقلة علاقات الاتحاد السوفياتي وحلفائه الاقتصادية والسياسية مع دول العالم الثالث، لعزل تلك الدول الاشتراكية والإضرار بتجارتها والنيل من نفوذها العالمي.

كانت إذن السياسة الأميركية تجاه الجزء المتخلف من إمبراطوريتها الرأسمالية الاحتكارية وتجاه المعسكر الاشتراكي سياسة حصار مزدوج:

        - حصار العالم الثالث وحصار ثوراته، التي تتجاوز الحدود النافعة للمستعمرين الأميركان إلى الإضرار بهم، ومنع المساعدات عنها، وبناء أسس الحملة عليها بالمبالغة بالتشهير بالشيوعية تمهيداً لضربها بعد اتهامها في وطنيتها ونعتها بالتبعية للاتحاد السوفياتي.

        - حصار المعسكر الاشتراكي، وعلى الأخص منه الاتحاد السوفياتي، تمهيداً للانقضاض عليه وضربه واحتوائه عندما تسنح الفرص وتقوم الظروف.

كانت الولايات المتحدة الأميركية تهدف إذن إلى إقامة "ستار حديدي" على حدود إمبراطوريتها العالمية تكون مفاتيح أبوابه بيدها. ولدعم السياسة الآيلة إلى هذا الهدف قامت ستراتيجيات الحرب الشاملة، والرد الشامل "الكثيف"، والحرب الوقائية، وكلها أسماء لمسمىً واحد هو: الهجوم العام على الاتحاد السوفياتي وحلفائه عند أول بادرة منه تهدد وجود الإمبراطورية الرأسمالية الاحتكارية المتعددة الأطراف والموحدة بزعامة أميركا، الإمبراطورية الحديثة التكوين حينذاك على أنقاض الاستعمار القديم الذي ما كان أصحابه قد بلغوا حينذاك درجة "هضم" هذه الإمبراطورية الأميركية.

وكانت الولايات المتحدة الأميركية قد حققت في تلك الأيام قيام جزأين من "الستار الحديدي" الآنف الذكر: الأول بحلف الأطلسي في غرب المعسكر الاشتراكي العالمي، والثاني بوجودها في شرقي هذا المعسكر في شبه جزيرة ألاسكا، بطبيعة الحال كأرض أميركية، ثم ببقائها في كوريا الجنوبية بعد التسوية التي تحققت في عام 1953، في أعقاب هزيمتها هناك، والتي دعمت ترشيح أيزنهور لرئاسة الجمهورية ومكّنته من الفوز بهذا المنصب، إلى جانب وجودها في الجزر اليابانية بنتيجة انتصارها على اليابان في الحرب العالمية الثانية. وبقي لإكمال بناء "الستار الحديدي" المذكور ثغرة جنوب المعسكر الاشتراكي وجنوبه الشرقي. وفي عشية انهزام فرانسة في الفييتنام، التي تمثل هذا الجنوب الشرقي من المعسكر الاشتراكي، حاولت أميركا أن تزج بإنجلترة في هذه الحرب ولكنها فشلت. وعلّق إيدن على هذه المحاولة بقوله الوارد في مذكراته: "يعتقد الأميركيون أن الزمن الذي يحتاجون فيه إلى مراعاة شعور ومتاعب حلفائهم قد انقضى!..". عندئذ مضت الولايات المتحدة في أخذ مكان فرانسة في هذه الحرب من خلال حلف أقامته في جنوب شرقي آسيا، ويضم كلاً من أستراليا وفرانسة والفلبين ونيوزيلندة وتايلند وحكومات الهند الصينية العميلة. إلا أنها هُزِمت وتمرغ أنفها بالرغام هناك في النتيجة. وخلال عام 1953 دفعت أميركا كلا من تركيا والباكستان لتحوّلا معاهدة الصداقة المعقودة بينهما إلى اتفاقية تعاون عسكري، تم التوقيع عليها في الثاني من نيسان عام 1953. وفي التاسع عشر من أيار تم توقيع اتفاقية تعاون عسكري بين أميركا والباكستان وسط الاحتجاجات الشديدة من كل من الهند والاتحاد السوفياتي والصين وأفغانستان وأمام الغيظ الكاوي لإنجلترة التي كانت تعتبر نفسها المسؤولة الأولى عن دول هذه المنطقة: من العراق وشرقي الأردن حتى الباكستان، والتي لم تُسْتَشَرْ في هذه الخطوة الأميركية وإنما بُلِّغَتْ بوقوعها لأخذ العلم. أما إيران التي تسد الفجوة بين تركيا والباكستان فإنها كانت قد وقعت في النفوذ الأميركي منذ انقلاب زاهدي في عام 1953 الذي انطلق من السفارة الأميركية في طهران. وبهذا قام القسم الأوسط من "الستار الحديدي" الأميركي الموصوف أعلاه: من أنقرة حتى كراتشي، فيغلق البحر الأسود بالسيطرة على مضيقي البوسفور والدردنيل، ويسير متتبعاً شواطئ البحر السود الجنوبية فجنوبي القوقاز والسواحل الجنوبية لبحر الخزر فجنوبي الجمهوريات السوفياتية في أواسط آسيا فجنوب الصين. وبهذا قام عملياً ذلك الستار الحديدي بكليّته حول المعسكر الاشتراكي.

واستمرت في تلك الأثناء المناورات المحلية المتناقضة ومن ورائها مناورات المتنافسَيْن الأميركي والبريطاني حول تثبيت علاقة الغرب بكتلة الدول العربية. فالسياسة البريطانية كانت، كما قلناه دوماً، تهدف إلى تعزيز وجود تلك الدولة الاستعمارية في هذه المنطقة لتكون لها كلمة قوية في نظام عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، الأمر الذي كان يؤدي إلى قيام قوة منفردة، إمبريالية منفردة، في الإمبراطورية العالمية الجديدة التي كانت أميركا حينذاك تجهد لبنائها، وهذا أمر يخل بوحدة هذه الإمبراطورية ويخل بزعامة أميركا لها. وقد فشلت المحاولات البريطانية الأولية، كما مر معنا أعلاه، لجر الدول العربية إلى أن توقع على معاهدة للدفاع المشترك مع إنجلترة. وكانت هذه الدولة الاستعمارية تُسابق الزمن في تلك الأيام علَّها تتمكن من تلافي خطر زوال كل نفوذ لها مسيطر في القضايا العالمية، وخاصة منها التي تتعلق بسيطرتها على الطريق الأسطوري الذي يصل العرب الآسيويين (الذين وفّروا لها النفط لتسبح عليه إلى النصر في الحرب العالمية الثانية، بحسب تعبير رئيس وزرائها تشرشل في مذكراته) بالهند وما يحيط بالهند، فيشكل معها ذلك العالم الأسطوري الذي طالما حلم الطامعون الأوربيون على مدى التاريخ بامتلاك ثرواته، وقد نجحت بريطانيا حيناً من الدهر في استصفاء هذه الثروات، وهاهي ذا ترى اقتراب خطر طردها نهائياً من هذه الجنان على يد غرمائها الأميركان وبكفاح الحركات الوطنية في المنطقة. فبادرت لذلك في أعقاب انتهاء أميركا من إقامة "ستارها الحديدي" الآنف الذكر بإرسال نوري السعيد إلى الهند، منتهزة استياء حكام هذا البلد من إشراك غرمائهم حكام الباكستان في أحلاف أميركا، للعمل على تكتيل أمم هذه القارة مع عرب آسيا وشعوب أواسط آسيا تحت إشرافها: كانت الهند والباكستان وما تزالان دولاً في الكمنولث البريطاني، كما كان لبريطانيا علاقات وقواعد في جميع الدول العربية المستقلة حينذاك عدا سورية ولبنان. ولكن رئيس الوزراء نهرو الذي كان، مع الزعماء الآخرين قادة حركات التحرر الوطني في العالم الثالث، يفكر في إقامة كتلة "غير منحازة" من دول هذا العالم الأخير، ردّ نوري السعيد خائباً. وكان هذا الفشل الجديد لبريطانيا، الذي أُضيف إلى فشلها في إدخال مصر معها في معاهدة دفاع مشترك كان يهدف، كما قلنا، إلى جر العرب كلهم إلى هذا الحلف بواسطة هذا القطر العربي الذي يعتبر كبير الأقطار العربية وقائدها، وذلك بمعزل عن أميركا ومخططاتها في إنشاء ستارها الحديدي المار ذكره، نقول إن فشل تلك المحاولات الإنجليزية دفع بريطانيا إلى محاولة جديدة هي العمل على جعل العراق، الذي تصاعدت وارداته النفطية في تلك الأيام، يتبوأ مكان مصر في زعامة الأقطار العربية وذلك بدفعه إلى الارتباط بالغرب عن طريقها هي بالذات.

وكانت قد وُقِّعَتْ اتفاقية الجلاء عن قناة السويس بالأحرف الأولى بين مصر وبريطانيا في تموز عام 1954. وطلبت مصر إجراء محادثات مع العراق لاستجلاء موقفه الإقليمي في ظروف ما بعد هذه الاتفاقية وظروف انتهاء أجل المعاهدة البريطانية العراقية لعام 1936 في سنة 1957، وكان تجديدها قد رفضه الشعب العراقي في انتفاضته ضد اتفاقية (بيفان، صالح جبر). وطار صلاح سالم عضو مجلس قيادة الثورة المصرية مع محمود رياض إلى الموصل في أواسط شهر آب 1954 ومنها توجه إلى سرسنك حيث كان الملك فيصل وولي عهده عبد الإله ونوري السعيد بانتظاره. وجرت مناقشات مطولة بين الطرفين أدت إلى اتفاق مبدئي مآله: "اتفق الطرفان على ضرورة إعادة النظر في ميثاق الأمن الجماعي العربي بقصد تقويته وجعله أداة فعالة تمكن البلدان العربية من التصدي لأي خطر قد يتهددها. وسيدرس كل من الطرفين الأمر ويجري المحادثات اللازمة مع الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا بهذا الشأن. إن اجتماعاً آخر بين مصر والعراق سيعقد في القاهرة خلال النصف الثاني من شهر أيلول لاستعراض نتائج الاتصالات مع الولايات المتحدة وبريطانيا ولمتابعة المحادثات، ثم سيجتمع الطرفان معاً مع ممثلي بريطانيا والولايات المتحدة لبحث الموضوع والاعداد لطرحه على الدول العربية الأخرى بقصد الوصول إلى اتفاق شامل". انتهى نص الاتفاق المبدئي بحسب الرواية العراقية على لسان نوري السعيد، عندما كان يدافع عن موقفه في أعقاب العدوان على قناة السويس في إذاعة بغداد يوم 16 كانون الأول عام 1956. فنجد إذن بجلاء بحسب هذا النص الذي يورده عميل بريطانيا نوري السعيد ما كانت تتمناه وتسعى إليه هذه الدولة، وهو جرّ "القيروان العربي" (القافلة العربية)، بمطيتها مدرسة لورنس الحاكمة في العراق، اعتباراً من مصر كبير أقطاره، إلى الانحياز بشكل من الأشكال إلى الغرب عن طريق بريطانيا. ونجد أيضاً في النص بجلاء أقل رغبة مصر بالاستناد إلى التضامن العربي وفي السعي إلى تقوية هذا التضامن وجعله الأداة الفعّالة في السياسة العربية. ومن الواضح أن الميزان هنا يميل نحو كفة نوري السعيد وليس إلى جهة صلاح سالم، الذي تخادع لهذا السعيد حتى خُدِعَ، وذلك باندفاعه لكسب العراق واحتوائه ومنعه من الانفراد عن العرب في خطه السياسي، حتى بلغ به الأمر إلى أن يصرح في التاسع عشر من آب عام 1954 في بغداد بأن مصر لا تعارض مشاريع وحدة الهلال الخصيب لحكام العراق، المشاريع التي رأينا فحواها في هذه الدراسة، وهو في حقيقته لا يعدو إقامة عرش لعبد الإله في سورية. وكان هذا الأمر سبباً في تصعيد غضب الجماهير السورية، وقيام حملة صحفية شعواء في دمشق ضد الحكم في مصر، الذي سمح لنفسه أن يقرر مع العراق مصير القطر السوري بغياب ممثليه. وجزع، من جهة أخرى، السعوديون أشد الجزع من تلك البادرة التي تعني بالنسبة إليهم، فيما إذا استمرت وأثمرت، القضاء على مساعيهم الدائبة في حصر الهاشميين في الأردن والعراق ومنعهم من التسلل إلى القطر السوري بانتظار فرصة تاريخية للقضاء عليهم القضاء المبرم أو لاحتواء بقاياهم كما هو حاصل في أيامنا هذه. ثم إن قيادة الثورة المصرية وجدت أن صلاح سالم قد خُدِعَ وذهب بعيداً في مساعيه لاحتواء حكام العراق إلى درجة الوقوع في حبائلهم. فدعت نوري السعيد ليزور القاهرة بهدف إيضاح الالتباس في الموقفين الحقيقيين لكل من مصر والعراق، في الموقفين اللذين تداخلا في الاتفاق المبدئي المذكور أعلاه. ولبّى السعيد الدعوة بعد تردد وبهدف إيقاع المزيد من البلبلة والخلاف في صفوف رجال الثورة المصرية. إلا أنه اتضح في النتيجة جيداً اختلاف موقفي ثورة يوليو المصرية ومدرسة لورانس الحاكمة في العراق الواحد منهما عن الآخر. فثورة يوليو تريد دفع الكتلة العربية حينذاك والتضامن العربي نحو موقف عدم الانحياز، الذي قلنا أن قيادات التحرر في العالم الثالث أخذت تتبناه وتعمل على إقراره وإقامته، بينما تقف مدرسة لورانس، بطبيعة الحال، عند تنفيذ المطامع الاستعمارية البريطانية التي عبّر عنها إيدن بمذكراته بالعبارة التالية: "لقد سررت لدى سماعي في نهاية عام 1954 أن نوري السعيد رئيس وزراء العراق كان يعمل في خط تقوية ميثاق الجامعة العربية بإدخال تركيا ومساعدة المملكة المتحدة والولايات المتحدة". ويضيف باتريك سيل على هذه العبارة لإيدن الشرح التالي في بحثه "الصراع على سورية": "كان هذا بديلاً واضحاً لخطة دَلَس (الأميركي). فبينما كان "الحزام الشمالي" (أي الستار الحديدي المنوّه عنه أعلاه) الذي أقيم ليكون خط دفاع أمامي على الحدود الروسية مكوناً من دول غير عربية، من تركيا وإيران والباكستان، مع احتمال إضافة العراق كشريك ثانوي، فإن مشروع نوري السعيد المنافس حَوَّلَ مركز الثقل في النظام الدفاعي (الرأسمالي العالمي) إلى العالم العربي مرة أخرى. فهو يُعِدُّ لمشاركة عربية واسعة من كل الموقّعين على ميثاق الأمن الجماعي العربي. ويعطي العراق الدور الأول كهمزة وصل بين هذه الدول العربية من جهة وتركيا والقوى الغربية من جهة أخرى. والمشروع بكامله يطبّق تحت الإشراف الإنجليزي وليس الأميركي". انتهى تعليق باتريك سيل.

وبعد فشل نوري السعيد في القاهرة وافتضاح موقفه الحقيقي بقوله العبارة التالية أثناء المحادثات: "إني لا أستطيع أن أعتمد على العرب في الدفاع عن بلادي. فإذا قلت لشعبي وأصدقائي الأجانب إنني سأعتمد على جيوش سورية والسعودية ولبنان للدفاع عن بلادي فسيقولون لي: نوري، إنك أحمق!.. إن الطريقة الوحيدة للدفاع عن بلادك هي في عقد تحالف مع الغرب. إنني أفهم شكوكك (شكوك مخاطبه عبد الناصر) تجاه بريطانيا، ولكنني ذاهب إلى هناك". وبالفعل فقد ذهب نوري السعيد إلى لندن مباشرة بعد محادثاته تلك مع رجال ثورة يوليو، حيث أمضى هناك ثلاثة أسابيع وُضِعَتْ له فيها الخطة الواجب عليه اتباعها، الخطة التي أدت به إلى الدخول في النتيجة في حلف بغداد. وذهب من لندن إلى استامبول وبقي فيها اسبوعين أجرى فيهما محادثات مع مندريس رئيس الوزراء التركي انتهت إلى إصدار بيان مشترك يعلن فيه الطرفان: "عزمهما على العمل لتحقيق تعاون مشترك بينهما يضمن سلامتهما". وقد أُرسل البيان إلى السفارات العربية في تركيا. وفي الثالث عشر من شهر كانون الثاني عام 1955 زار مندريس بغداد، حيث وقّع فيها مع نوري السعيد ميثاقها الشهير المؤلف من ثمانية مواد، تفتح منها المادة الخامسة الباب لدخول دول الجامعة فيه ولبريطانيا أيضاً تحت اسم: "الدول التي يهمها أمر السلم والأمن في المنطقة". وفي الواقع لم تتأخر هذه الدولة الاستعمارية، المغرمة بسلم وأمن كل منطقة في العالم من فوكلاند إلى الوطن العربي فالهند في حدود مصالحها العبودية، عن الدخول في هذا الحلف فوقّعت على ميثاقه في نيسان عام 1955. وكان الأشبه بها أن توقّع مع تركيا والعراق على هذا الميثاق في ذات التاريخ الذي قام فيه، أي في الثالث عشر من كانون الثاني، ولكنها تأخرت حتى نيسان بأمل أن تأتي دول عربية أخرى، أن يأتي الأردن على الأخص، للدخول فيه قبل أن يتجسد انحيازه إلى المستعمرين بانضمامها (بانضمام بريطانيا) إليه. وسنعود فيما يلي من البحث إلى موضوع مقاومة هذا الحلف وغيره من مشاريع ومؤامرات المستعمرين من قبل العرب وفي طليعتهم سورية.

وبعد، إن العالم الثالث عندما يكون اقتصاده مرتبطاً بالاقتصاد الرأسمالي الاحتكاري، أي إنه عندما يكون هنا في العالم شمال متقدم مادياً، بما نهبه من ثروات الشعوب المقهورة، وجنوب متخلف فقير يشكل الجزء المقهور من الإمبراطورية العالمية المتعددة الرؤوس الموحدة بزعامة أضخم رؤوسها الولايات المتحدة الأميركية، فإن المناداة "بعدم الانحياز" من قبل ذلك الجزء المقهور من هذه الإمبراطورية العالمية لا يشكل إلا نداءً فارغاً لا معنىً له. وعند انتهاء الحرب العالمية الثانية أدت ثورات العالم المقهور ضد قدماء المستعمرين إلى تحرر ذلك العالم من هؤلاء المستعمرين، فكان على قادة التحرر حينذاك إذن أن يكملوا طريقهم للتحرر أيضاً من النظام الرأسمالي الاحتكاري، كي يتحقق انعتاقهم من التبعية الرأسمالية التي تُلَوِّنُ العبودية بما يناسب الظروف، ولكنها تشدد عذابها ونكايتها بالإنسان بتطور الزمن. ولكنهم بدلاً من أن يأخذوا بهذا الاتجاه نادوا "بعدم الانحياز". وقد رضيت أميركا بهذا الموقف منهم، بل شجعته بكل ما لديها من قوة، على أن يبقوا منخرطين في النظام الرأسمالي الاحتكاري العالمي بوجهه المتخلف المقهور، أي أن يبقوا متخلفين ليشكلوا أهل الجنوب الحالي التابع للإمبراطورية الأميركية العالمية الذي يوفّر لأسيادها الاحتكاريين في أميركا وأوروبا أمواج فضول القيم: شجعت أميركا رفع "شعار عدم الانحياز" بالقول من قبل أولئك المقهورين المرتبطين بالفعل بنظام إمبراطوريتها العالمية، أي المنحازين عملياً بطبيعة علاقاتهم بهذا النظام. ومن المفارقات العجيبة أن قطع هذا الرباط بالنظام المذكور لتحقيق شعار عدم الانحياز بداهة كان انحيازاً بمفهوم أصحاب الشعار المذكور ومفهوم الأميركان. ثم إن النظام الرأسمالي الاحتكاري هو بطبيعته، كما نقول ونردد دوماً وأبداً، نظام القهر الذي يمتد على العالم فيقسمه شمالاً وجنوباً، متقدماً ومتخلفاً، سيداً ومقهوراً. فالمقهور الذي يختار البقاء في هذا النظام لن يحقق أي تقدم يجعله يلحق بالمتقدمين ويتحرر من القهر، وتكون بالتالي مناداته بعدم الانحياز مناداة فارغة، كما قلنا أعلاه، تدل على جهل وعماء عن حقيقة العالم إن لم تكن انتهازية وخيانة لقضايا الوطن. ومن البديهي أن يكون إنهاء النظام العبودي الرأسمالي الاحتكاري بتحرر المقهورين من هذا النظام والعكس بالعكس، وليس هناك من سبيل آخر. فالقضية بالنسبة لذلك العالم الذي تحرر من الاستعمار القديم ما كانت إذن عدم انحياز إلى هذه الجهة أو تلك وإنما كانت انحيازاً إلى طريق يؤدي إلى الحرية الحقيقية، إلى طور عالمي جديد لا يرى فيه الإنسان وجوه الذين طالما قهروه، وجوه الرأسماليين الاحتكاريين قتلة الشعوب.