الفصل العاشر

سورية تجمّد حلف بغداد

 

تفسّخ الرجعية وسقوطها

 

دخل اليمين دمشق في الأول من آذار عام 1954 "بعراضة" ضخمة تتألف من مئات السيارات وفي مقدمتها سيارة هاشم الأتاسي، الذي عاد ليتسنّم منصب الرئاسة الأولى، الذي انقطع عنه بفترة الديكتاتورية الشيشكلية. وقد أشرنا في الفصل السابق إلى أن الثورة على تلك الديكتاتورية ألغت كل ما قام في عهدها من قوانين وتشريعات وأنظمة ومكاسب لبعض الناس، واعتبرت ذلك العهد كأنه لم يكن. ولكن تلك المظاهرة ما أخذت الشكل الجماهيري القومي الذي كان بالإمكان قيامه بسهولة في تلك الظروف التي غمرت الناس بالسعادة لخلاصهم من تلك الديكتاتورية الذميمة، وإنما أخذت شكل الانتصار المزيف لليمين المذكور، الذي أراد حينذاك أن ينكر الدور الحاسم للجماهير بكل فئاتها المدنية والعسكرية في تحقيق ذلك الانتصار، وأن ينتحل هذا الدور ويدّعيه لنفسه حصراً. فاستُدعِيَ المجلس النيابي القديم الذي حلّه الشيشكلي، وقام حلف بين حزبي الشعب والوطني، وكُلِّفَ صبري العسلي، زعيم الحزب الوطني، بتشكيل الوزارة من الحزبين المذكورين مع بعض المستقلين الذين لا يختلفون كثيراً بلونهم السياسي عن بقية زملائهم المتحزبين اليمينيين. وقد أُطلق على هذه الوزارة اسم "وزارة المائة يوم"، وكانت على الشكل التالي: صبري العسلي من الحزب الوطني للرئاسة، فاخر الكيّالي من الحزب الوطني للاقتصاد، محمد سليمان الأحمد (بدوي الجبل) من الحزب الوطني للصحة، عفيف الصلح من الحزب الوطني وزير دولة، معروف دواليبي من حزب الشعب للدفاع، فيضي الأتاسي من حزب الشعب للخارجية، علي بوظو من حزب الشعب للداخلية، رشاد جبري من حزب الشعب للأشغال، حسن الأطرش مستقل للزراعة، عزّت الصقّال مستقل للعدلية، عبد الرحمن العظم مستقل للمالية، منير العجلاني مستقل للمعارف. ووقف اليمين بهذه التشكيلة ضد اليسار والوسط، أي ضد الأكثرية الساحقة من الشعب السوري، بالإضافة إلى تحديه للجيش بإسناد وزارة الدفاع إلى الشيخ معروف الدواليبي المكروه جداً في أوساط العسكريين.

كانت تلك الأيام التي عاشها الشعب السوري شبيهة بأيام الخلاص من الاحتلال الأجنبي، عندما سجّل هذا الشعب نصره العظيم على المستعمرين وحقق جلاءهم عن أرض الوطن. وبرزت في تلك الأيام البشائر الأولى للامتزاج الطبيعي لجميع الفئات الوطنية من كل الألوان المدنية والعسكرية، وذلك نتيجة للظروف التي قامت فيها كل هذه الفئات بتشكيل كتلة جماهيرية واحدة (مدنية ـ عسكرية) تمكنت بتلاحمها من الإطاحة بالديكتاتورية، الأمر الذي لم يستوعبه حينذاك ذلك اليمين الذي قام بتلك العراضة الآنفة الذكر، فغاب عن إدراكه وانطلق في طريق الضياع. لقد قامت حينذاك أولى البشائر لبروز تلك الجزيرة الخضراء للحرية في خضم ذلك العالم الذي ملأه المستعمرون الأميركان وأتباعهم بالجور والفساد، لبروز سورية المكافحة من أجل الحرية ببطولة انتزعت عجب وإعجاب العالم. وعاد اليمين إلى لعبته القديمة محاولاً تحويل الجيش إلى مجرد آلة بيد وثنية شبيهة بتلك التي نشأت في العهد الأول لشكري القوتلي، وذلك انطلاقاً من ذلك الادعاء بأنه هو الذي أطاح بالديكتاتورية كما أطاحت قيادة القوتلي بالاحتلال الأجنبي. وقد جرت الأحداث على الشكل التالي، مع وجوب ملاحظة أن مدرسة نوري السعيد في بغداد مع الإنجليز كانوا جميعاً في تلك الأثناء منهمكين بمحاولات احتواء مصر بضمها إلى حلف استعماري تتزعمه بريطانيا كحلف بغداد مثلاً، وقد جرى اجتماع سرسنك في شهر آب عام 1954 كما مر معنا في الفصل السابق في سياق تلك المحاولات:

أولاً: قرر حزبا الوطني والشعب في بادئ الأمر أن تعمل وزارة المائة يوم الآنفة الذكر على الاستعانة بالعراق لضرب القوى المعارضة بدءاً من مؤيديها في الجيش. وقد أرسلت الحكومة العراقية من جانبها فاضل الجمالي إلى لبنان لمراقبة الأوضاع في سورية عن كثب في تاريخ غير بعيد من انهيار ديكتاتورية الشيشكلي. وفاضل الجمالي هذا، الذي انهمك طويلاً في التآمر على سورية، وعلى الحرية والتقدم في العالم أيضاً، ابتدأ مسيرته في الحياة من وكيل معلم في المدارس الابتدائية براتب دون الأربعة دنانير ووصل إلى منصب رئيس وزراء العراق، وهو يتلون في مسيرته تلك بألوان الاستعمار المهيمن في المنطقة وفي العالم. فكان مثلاً عميلاً للنازية ولمندوبها في العراق السفير الهر كروبا قبل الحرب العالمية الثانية. وبعد فشل ثورة الكيلاني وسيطرة الإنجليز في المنطقة انضم إلى مدرسة نوري السعيد. ثم انتقل إلى خدمة أميركا فأصبح مع شارل مالك أحد أبواقها الجعجاعة على منابر الأمم المتحدة. ولننظر إلى المستمسكات التالية التي عُرضت في محكمة الشعب المنعقدة في بغداد في جلسة 24 أيلول عام 1958 لنتبين خط محاولات الحزبين المذكورين للاستعانة بالرجعية العراقية أثناء فترة المائة يوم لوزارة صبري العسلي الآنفة الذكر:

        - برقية فاضل الجمالي من بيروت إلى الاستخبارات العسكرية البغدادية تحت رقم 57 وتاريخ 28/4/1954: "اجتمعت بالقوميين السوريين وعلمنا منهم بأن سورية مقدمة على أحداث قد تكون خطيرة في الأسابيع القليلة القادمة. إنهم مستعدون للسير بتوجيهات العراق. أقترح استقدام المقدم غسان جديد ليحضر إلى بغداد لمواجهة فخامتكم بصحبة ملحقنا العسكري صالح مهدي".

ورداً على سؤال رئيس المحكمة في جلستها الآنفة الذكر قال المتهم فاضل الجمالي: "اجتمعت بنفس الوقت مع ميشيل عفلق وجلال السيد ومع جهات أخرى مختلفة".

        - أبرقت الخارجية العراقية إلى سفارتها في بيروت تحت رقم 49 وتاريخ 20/5/1954 بما يلي: "يسافر فخامة الدكتور الجمالي بالطائرة العراقية الأحد 23 الجاري. يُرجى حجز محل لفخامته في نادي الخريجين بقصد التداوي وإجراء الفحوص في مستشفى الجامعة الأميركية".

        - أبرق رئيس وزراء العراق أرشد العمري إلى القائم بالأعمال في بيروت ببرقية تحت رقم 53 وتاريخ 27/5/1954 وقال: "أرجو زيارة فخامة الجمالي في المستشفى للاستفسار عن صحته وإعلامنا نتيجة الفحوص الطبية وحالته الصحية وإخبار فخامته عن أن الحالة هنا مريحة وطبيعية".

        - أجاب الجمالي على البرقية السابقة ببرقية موجهة إلى الخارجية العراقية تحت رقم 97 وتاريخ 30/5/1954 وقال: "زارني عدد من الشخصيات السورية في المستشفى كنتيجة للمداولات. وقد يصل وفد إلى الجبل لاجتماع خاص ويقدّمون اقتراحات للاتحاد مع الحكومة العراقية. نظراً لضعف حالتي الصحية أتمنى لو أمكن إقناع صالح جبر للحضور أيام العيد إلى لبنان للتعاون في الأمر".

        - رد رئيس وزراء العراق على برقية الجمالي السابقة رقم 97 بالبرقيتين التاليتين: رقم 60 وتاريخ 2/6/1954، ورقم 61 وتاريخ 7/6/1954. ونقرأ في البرقية الأولى ما يلي: "بالنظر لانشغال فخامة صالح جبر فلا يسعه مع الأسف المجيء. معالي أحمد مختار بابان سيتوجه لطرفكم غداً الخميس بالطائرة العراقية الساعة الثانية والنصف وهو مخوّل عوضاً عن فخامة صالح جبر. يرجى الإيعاز باستقباله في المطار وحجز محل له في الأمباسدور في بحمدون ودفع جميع ما يقتضي له من سكنى ونثريات وغيرها وتخصيص سيارة لمعاليه. غادر صاحب الجلالة إلى سرسنك مع رئيس الوزراء". ونقرأ في البرقية الثانية: "يرجى تنويرنا عن نتيجة المداولات التي نوّهتم عنها ببرقيتكم المرقمة 97 بكتاب يرسل بالبريد السياسي وإخبارنا عن صحتكم وموعد عودتكم". وكان الجمالي قد أخبر بالتفصيل عن هذه المداولات المطلوبة بالكتاب التالي المؤرخ في 30 مايس 1954 والمرسل بالبريد الدبلوماسي، حيث نقرأ التالي في هذا الكتاب الذي نورده حرفياً (مع ما فيه من أخطاء):

"فخامة الأخ أبا عصام (أرشد العمري)

تحيات وأشواق قلبية وبعد. فإنني أفكر في مهامكم الشاقة دائماً وأسأله تعالى أن يوفقكم لخير البلاد. أبرقت عن إمكان اجتماعي بوفد من سوريا. جاءني أمس مساء بصورة مكتومة السادة صبري العسلي رئيس الوزراء وعبد الرحمن العظم وزير المالية وعدنان الأتاسي وحسني البرازي واجتمعنا إلى منتصف الليل. استعرضنا فيه الأوضاع الحاضرة في سوريا والاتحاد بين سوريا والعراق وما يلابسه من مشاكل ويقف في الطريق من عقبات وطرق التغلب عليها.

       1- إن الأوضاع الحاضرة في سوريا قلقة بسبب عدم ضبط الجيش وانتسابه إلى خمسة أحزاب على الأقل. ومع أن هذا الوضع لا يعطي السعوديين مجالاً للعمل الفوري إلا أنه خطر على كل حال. والسؤال المهم هو هل العراق مستعد أن يبعث بقوة (عسكرية) إذا قام قسم من الجيش (السوري) بالعصيان وذلك بعد أن يُطلب رسمياً وبصورة سرّية من الآن تدخّل العراق فيما إذا حدث انقلاب في الجيش.

لا شك أن الاحتمال هذا يكون بعيداً فيما إذا كتّلت الحكومة السورية موالين من الجيش وإغراء البعض منهم بالدراهم. إن الكل مجمعون على أن دخول الجيش العراقي سواء لقمع حركة عصيان أو لمجابهة تحرش إسرائيلي هو أكبر ضمان للاتحاد.

       2- إن استعراض عملية الاتحاد بصورة عامة تتطلب التفاهم مع الدولتين الغربيتين الكبيرتين أمريكا وإنكلترا وقد وعدت أن أقوم بذلك. أما فرنسا فلا يؤمل أن توافق ولا السعوديون ولا إسرائيل. ثم موافقة الحكومة العراقية والرأي العام العراقي. أما الرأي العام السوري فسهل موافقته. فمع أن رجال السياسة أكثرهم من دعاة الاتحاد إلا أنهم يخشون التظاهر بذلك. فإذا رأوا حكومة سوريا تندفع بالأمر فلا بد من سيرهم جميعاً معها دون أكثرية على الأقل.

       3- لقد تم الاتفاق على أن يُعِدَّ عدنان الأتاسي مشروع اتحاد يقدمه لنا بعد أسبوعين. وإني أرى أن يقوم السادة عبد الله بكر ويوسف الكيلاني يساعدهم عبد المجيد عباس أو عبد الكريم الأزري بإعداد مشروع مقابل.

       4- إن العنصرين المتحمسين كثيراً للاتحاد هما السادة صبري العسلي وحسني البرازي. وقد تم الاتفاق على تشكيل لجنة سرّية من الشخصيات البارزة الممثلة لتعقيب الأمر.

                 5- إن كل من السيدين صبري العسلي والبرازي ينتظران وضع العراق المبالغ اللازمة تحت تصرفهم للأمور التالية:

                   ‌أ-   السيطرة على الجيش.

                 ‌ب- التمهيد لانتخابات المجلس الجديد.

                 ‌ج- السيطرة على الرأي العام.

كنت قد أبرقت طالباً خمسة آلاف دينار مبدئياً للسيد حسني البرازي. هذا مجمل للوضع وهناك تفاصيل لا مجال لذكرها. وإني أرى أن الأمر يتطلب زماناً وجهوداً مستمرة ولكنه في نظري يستحق كل اهتمام لأنه الحجر الأساسي في إعادة اعتبار العالم العربي وإنقاذ كرامة العرب.

يصلكم الملحق العسكري العقيد صالح مهدي أرجو أن تزودوني معه بما لديكم من آراء وهو يشرح لكم الوضع جيداً.

التوقيع: فاضل الجمالي"  

ثانياً: قلنا إن الإنجليز مع مدرسة نوري السعيد كانوا جميعاً في تلك الأيام يقومون بمحاولات لاحتواء مصر وضمها إلى حلف تتزعمه بريطانيا، وقلنا إن هذه الجهة الاستعمارية كانت تحرص على أن لا تثير الحكم في مصر بالتدخّل علناً في الشؤون السورية بالتآمر المفضوح أو بالتدخّل العسكري العراقي، مع العلم أن تغيّراً في الحكم في سورية، يلائم مخططات الإنجليز دون أن تبرز فيه بوضوح آثار تدخّل خدمهم أصحاب مدرسة نوري السعيد، يبقى موضع ترحيبهم، فهو على كل حال مفيد في حرمان مصر من سند عربي قوي في موقفها ضد الأحلاف الاستعمارية. لذلك كانت تجري، في أثناء مساعي الجمالي الآنفة الذكر في لبنان، أمور تختلف تماماً عن هذه المساعي بغفلة عن قادة حزبي الشعب والوطني. فالحكومة العراقية كانت تتصل بالشيخ معروف الدواليبي سراً، وهو وإن كان من حزب الشعب فإنه ذو طبيعة ضعيفة الالتزام. وقد أرسل إليه العراقيون المقدّم المسرّح محمد صفا الذي يشبهه بغرابة أفكاره المتحدرة من القرون الوسطى. وكان هذا الضابط في العراق أيام الديكتاتورية على رأس تنظيم سوري يناوئ الشيشكلي، كما شكّل هناك ما دعاه "حكومة سورية الحرة". وما كان بعد سقوط الشيشكلي ملاحقاً من السلطات السورية الجديدة، وكان بإمكانه العودة إلى وطنه دون أي عائق. ولكنه، زيادة في "التخفي"، فضّل أن يدخل دمشق بسيارة وزير الدفاع الشيخ معروف، وأن يختبئ في بيت ضابط صديق له هو المقدّم فريد السيد درويش. ثم إنه أخذ يستدعي ضباطاً متقاعدين وفي الخدمة ويعرض عليهم "العمل على تنظيف الجيش من المشاغبين"، وذلك بالقبض عليهم وتخديرهم وحملهم بعد ذلك في أكياس خيش إلى الصحراء السورية (إلى الحمّاد) ورميهم هناك. وما كانت عين أمن الجيش غافلة عنه منذ وصوله بسيارة وزير الدفاع من بيروت إلى دمشق، بالإضافة إلى أنه ارتكب حماقة كبيرة باستدعائه المقدّم بشير صادق، وهو البعثي القديم، وعرضه عليه مشروعه الآنف الذكر. فقُبِض عليه في النتيجة وأُلقي في غياهب السجن في 5 حزيران 1954. وقد دب الرعب في قلب الدواليبي وخشي افتضاح دوره في تلك المؤامرة، وانتظر قيام أزمة تودي بذلك الحكم اليميني وبقادته. وسعى إلى عقد اجتماع لمجلس الوزراء حيث طرح موضوع توقيف المقدّم محمد صفا بشكل غير صحيح يوهم مستمعيه بأن الجيش يدبّر في تلك الليلة انقلاباً يطيح بالحكومة وينصح الوزراء بعدم المبيت في بيوتهم فيها. ولكن الوزير عفيف الصلح الذي له خؤولة في عائلة المالكي دبّر اجتماعاً ضم رئيس الوزراء صبري العسلي وقريبه وجاره العقيد عدنان المالكي مساء السادس من حزيران عام 1954. فتبين للعسلي أن التآمر ما كان من قبل الجيش وإنما من قبل وزير الدفاع معروف الدواليبي المدفوع من قبل العراق. وقد جرى حديث طويل بهذه المناسبة بين المرحوم الشهيد عدنان المالكي وبين العسلي اقتنع فيه الأخير بوجوب قيام وزارة حيادية للإشراف على الانتخابات المقبلة بدلاً من وزارته القائمة حينذاك التي يهيمن عليها حزب الشعب الذي لا يُؤْمَنُ جانبه بعد أن "استقل أحد قادته معروف الدواليبي بالتآمر بغفلة من شركائه في الحكم من الحزب الوطني". ولكن صبري العسلي ذهب مع ذلك في اليوم التالي ليجتمع مرة أخرى، هو وصديقه العضو في الحزب الوطني ميخائيل ليان، بالجمالي في برمانا في مساء السابع من حزيران عام 1954، وذلك لمعاتبة الجانب العراقي على اتصاله بالدواليبي بغفلة منه. وعاد إلى دمشق في اليوم التالي ليقدّم استقالة حكومته إلى رئيس الجمهورية ويرشّح الأستاذ سعيد الغزّي لتشكيل الوزارة الحيادية التي ستشرف على الانتخابات التالية. وقد قدّم الجمالي إلى مرجعه في بغداد التقرير التالي حول ما دار في ذلك الاجتماع الأخير مع العسلي:

"أوتيل الجبل الأخضر ـ برمانه

في 9/6/1954

فخامة الأخ الأعز أبا عصام (أرشد العمري)

أشواق واحترامات

وبعد، فقد اجتمع عندي ليلة الاثنين 8/6/1954 السيد صبري العسلي رئيس وزراء سوريا ومعه السيد ميخائيل ليان بحضور أحمد مختار بابان باشا ودام الاجتماع إلى الواحدة ليلاً وها أنا ألخّص لفخامتكم الظروف عل الوجه التالي:

                  1.  الجيش السوري هو مصدر عدم الاستقرار وضعف الحكومة الزائد يجعله سيد الموقف.

                  2.  الجيش السوري فيه عناصر تخشى الاتحاد وتفهم منه أن العراق سيجرّد الضباط من سلطانهم.

                  3.  الوزارة السورية الحالية ضعيفة وغير متجانسة ويُؤْمَل تقويتها قبل الانتخابات إذا لم يحدث ما لم يكن في الحسبان.

                  4.  السعوديون يدبرون خطة لإحداث الانقلاب والمجيء بشكري القوتلي إلى سوريا.

       5.  صبري العسلي ينتقد سياسة الحكومة العراقية في الماضي باعتمادها على حزب الشعب. ثم إنه انتقد اعتماد العراق على الشيخ معروف الدواليبي وعلى غيره من الشخصيات. ومن رأيه أن العراق إذا كان جاداً فيجب أن يعتمده هو ومعه ميخائيل ليان وأن في إيمانه بالاتحاد وإخلاصه له خير ضمان. ومع ذلك فهو لا يضمن النجاح فوراً ولكنه سيكرس حياته وجهوده لتحقيق أهدافه القومية وأنه وإن كانت العلاقة بينه وبين القوتلي طيبة إلا أنه لا يتفق معه على السياسة السعودية وموضوع الاتحاد الذي سيبقى يناضل في سبيله. وقد استعرضنا إمكان إرسال جيش عراقي فلم نجد إمكاناً لذلك فلا توجد اتفاقية بين سورية والعراق لمجيء الجيش العراقي لحفظ النظام الداخلي ولا توجد أكثرية وزارية تجرأ على القيام بهذه الاتفاقية حتى ولو كانت سرّية. كما إن الأتاسي رئيس الجمهورية بدوره يتخوف من توقيع طلب بذلك. ولا توجد إمكانية في الوقت الحاضر لتبادل الجيشين العراقي والسوري لغرض التدريب والمناورات لأن الجيش السوري لا يطمئن لذلك ولا يمكن استغلال العدوان الإسرائيلي على سوريا لأن ذلك قد يؤدي إلى صراع دولي يكون الغلبة فيه لإسرائيل ولذلك فإرسال جيش عراقي لحماية سورية من إسرائيل يجب أن ينتظر اعتداء إسرائيلي خطيراً ومع كل هذا فالجماعة يتركون الأمر لنا إن وجدنا طريقاً لإرسال الجيش فذلك أفضل الوسائل وأسرعها لإنجاز الاتحاد. إذا لا يمكن إرسال جيش عراقي فيجب العمل على كسب الجيش السوري وتكتيله إلى جانب الحكومة وهذا يتوقع السيد صبري العسلي مساعدات مالية ثم لا بد من القيام بحملة انتخابية اتحادية لكسب الموقف بالأصول البرلماني. يرى السيد صبري العسلي ضرورة الاعتماد عليه وحده وعدم القيام ببعثرة الدراهم والجهود هنا وهناك. إننا نؤيد الاعتماد على صبري العسلي وجعله مركز الثقل للحركة ولا يمنع هذا الاتصال بالآخرين على شرط أن يتم التناسق في العمل ويطّلع صبري على ما نقوم به من جهود.

قبل إنهاء الجلسة قلت لصبري أريد أن يكون واضحاً ماذا نقصد بالاتحاد؟ فقال الاتحاد في الشؤون العسكرية والسياسية والاقتصادية. قلت ولكن المهم لدينا رئاسة الاتحاد فنحن لا يسعنا دخول الاتحاد ليس ملك العراق رئيسه وإذ ذاك يصبح القلق الذي يساور سوريا بسبب نظامها الجمهوري يؤثر على مصير العراق أيضاً وفي هذا ضرر بليغ ما فوقه ضرر على المصلحة العربية ووافق على أن يكون ملك العراق رئيساً للاتحاد.

أنهى معالي السيد بابان الجلسة بقوله نحن يهمنا تقوية الحكومة القائمة في سوريا ودعم العسلي بكل طريقة ممكنة ولذلك فعلى العسلي أن يتقدم بطلباته واقتراحاته ونحن دوماً مستعدين لإنجاز ما نستطيع إنجازه.

فاضل الجمالي"

كان من نتيجة تلك المحاولة الفردية التي قام بها الشيخ معروف الدواليبي مزيد من التشرذم في اليمين السوري. فانحلت كما نرى وزارة العسلي المؤلفة من حزبي اليمين: الشعب والوطني ومن بعض المستقلين اليمينيين. وتبع هذا فيما بعد انقسام الحزب الوطني واقتراب أحد قسميه بزعامة العسلي من الوسط واليسار، بينما ناصب القسم الآخر العداء الحركة التقدمية الوطنية، وكان ميخائيل ليان من أبرز زعمائه الممعنين في التآمر على حرية وطنه السوري. وانعزل نهائياً حزب الشعب وسار نحو الاضمحلال، في الوقت الذي ظهرت فيه بوادر قيام الجبهة الوطنية التي مثّلت بأقرب شكل ممكن الاتجاه الواقعي للجماهير السورية حينذاك في مقاومة المستعمرين ومشاريعهم، وفي تقدم سورية في مختلف المجالات المادية والروحية، وفي مجال النضال القومي على الأخص لاسترداد فلسطين واستكمال تحرر الوطن العربي وتحقيق وحدته. وكان حرياً بقادة حزب الشعب أن يبادروا إلى محاسبة الدواليبي على تصرفه الأرعن السخيف الموصوف أعلاه، على انفراده عن رفاقه وقيامه بذلك العمل المشين واستغفاله لهم، إذن لكانوا بهذا قد عبّروا بصدق عن تطلعات جماهير حزبهم المؤمنة كغيرها من الجماهير السورية بأهداف وطنها، نقول لقد كان حرياً بتلك القيادات أن تحاسب ذلك الانتهازي حساباً عسيراً، وهي لو فعلت ذلك لما زادت في زخم ملايين الجماهير السورية المقاومة للمستعمرين حينذاك سوى أصوات بضع عشرات من الأفراد.

الجماهير تتجاوز الأحزاب:

كُلِّف المرحوم سعيد الغزّي بتشكيل الوزارة الانتقالية لإجراء الانتخابات فور استقالة صبري العسلي في الثامن من حزيران عام 1954. والغزّي من عائلة دمشقية اشتهرت بالعلم. وكان منها فوزي الغزّي أحد أقطاب الكتلة الوطنية في برلمان 1928، الذي اضطر الانتداب الفرنسي إلى دعوته في أعقاب الثورة السورية الكبرى، فأنشأ أول دستور للجمهورية السورية. وكان سعيد الغزّي محامياً مشهوراً بعلمه واستقامته ولين جانبه. وقد ألّف الوزارة الانتقالية في التاسع من حزيران عام 1954 على الشكل التالي: سعيد الغزّي للرئاسة والدفاع، أسعد الكوراني للعدلية والاقتصاد، نهاد القاسم للمعارف والزراعة، عزّة الصقّال للمالية والخارجية، اسماعيل قولي للداخلية، نبيه الغزّي للأشغال العامة والمواصلات والصحة. وعينت هذه الوزارة تاريخ العشرين من آب عام 1954 موعداً للانتخابات النيابية، واتخذت كل الإجراءات الضرورية لضمان نزاهتها: كالاقتراع السرّي وإجراء تنقلات بين الموظفين المسؤولين في عمليات الاقتراع وغيره. وقد انزعج الحزبان الوطني والشعب من هذه الإجراءات فأعلنا إضرابهما عن خوض تلك الانتخابات في 19 تموز عام 1954. عندئذ قرر الغزّي تأجيل موعد الاقتراع من 20 آب إلى 24 أيلول لإثبات نية الحكومة بالحياد التام ولإعطاء الحزبين المذكورين مهلة كافية للتفكير والرجوع عن إضرابهما. وعاد الحزبان بالفعل وقررا خوض معركة الاقتراع في التاريخ النهائي المحدد لها. وكانت النتيجة فوز المستقلين بـ 64 مقعداً، من العدد الكلي لأعضاء المجلس البالغ 142، وفوز حزب الشعب بـ 30 مقعداً، وحزب البعث بـ 17 مقعداً مع خمس مؤيدين غير بعثيين، والحزب الوطني بـ 19 مقعداً، وفاز بمقعدين كل من الحزب السوري القومي والاشتراكي التعاوني وحركة التحرير العربي، وحاز الحزب الشيوعي على مقعد واحد. ونجد بالمقارنة مع مجلس عام 1949 أن نسبة تمثيل الأحزاب الرئيسية تغيرت بالشكل التالي: هبطت نسبة تمثيل حزب الشعب من 38% إلى 21%، وارتفعت نسبة تمثيل الحزب الوطني من 11% إلى 13%، كما ارتفعت نسبة تمثيل حزب البعث من أقل من واحد بالمائة إلى 15%،  ودخل المجلس لأول مرة ممثل للحزب الشيوعي هو أمينه العام الرفيق خالد بكداش.

وشهد الناس جميعاً بنزاهة هذه الانتخابات ولم يجرؤ أحد، أجنبياً كان أو عربياً أو سورياً، على تجريحها. ومما يُؤْثَرُ أن تجار دمشق كانوا يقولون: "نريد حمل خالد العظم وخالد بكداش معاً إلى البرلمان ليراقب هذان الضدان الواحد منهما الآخر هناك". وقد نال بالفعل كل من هذين المرشحين عدداً ضخماً غير اعتيادي من أصوات مدينة دمشق تجاوز الأربعين ألف صوت، فكان لكل منهما على العموم ذات الناخبين المؤيدين. أما في العاصمة السورية الثانية حلب فقد نال الدكتور عبد الوهاب حومد، وهو من حزب الشعب، عدداً كبيراً من الأصوات يعادل ضعف ما ناله رشدي الكيخيا قائد حزبه، ويتجاوز ما ناله كل زعيم آخر لهذا الحزب في تلك المدينة حلب معقل الشعبيين. والدكتور عبد الوهاب حومد من عائلة متوسطة ومن حي فقير من أحياء حلب، مشهور بوطنيته وميوله الجمهورية واليسارية وباستقامته وعلمه. ونجحت قائمة الحوراني بكليتها في حماة. ونجد في النتيجة أن التأثير الحاسم في توجيه هذه الانتخابات كان لإرادة الجماهير السورية، التي نشأت وارتقت عبر سلسلة طويلة من حضارات الجهاد في سبيل رفع الظلم ودفع البغي عن بني الإنسان، وليس لخطط وترتيبات وحملات الدعاية للأحزاب المختلفة التي خاضت تلك المعركة الانتخابية. ويقول باتريك سيل، الكاتب الإنجليزي، في مؤلفه "الصراع على سورية"، معلقاً على نتائج الانتخابات ما يلي: "..أما الرأي العام الأميركي فقد تعامى عن كل شيء ما عدا نجاح خالد بكداش، إذ أعلنت صحيفة النيوزويك على سبيل المثال في عددها الصادر في تشرين الأول بأن سورية قد أصبحت الزعيمة الشيوعية في العالم العربي..". انتهت أقوال باتريك سيل. والرأي العام الأميركي الوارد ذكره في هذه العبارة هو بطبيعة الحال بمفهوم هذا الكاتب رأي المخابرات الأميركية وقادة الاستعمار العالمي الرأسماليين الاحتكاريين، وليس رأي الأميركي العادي المسحوق مادياً وفكرياً بأثقال نظام أمته الذي يقوده أولئك المستعمرون. ولكن هذه الكلمة تنبئنا على كل حال عن المشاعر الحقيقية للأوساط الاستعمارية، التي "رمز" إليها باتريك سيل بتعبير "الرأي العام الأميركي"، تجاه خروج الجماهير السورية من "الأقفاص"، بحيث نجد التاجر اليميني الدمشقي مثلاً ينتخب بحماس أمين عام الحزب الشيوعي الذي يمثل بنظره حينذاك قمة مقاومة الأميركيين متزعمي الاستعمار والقهر في العالم. لقد أعلن علينا إذن الاستعمار الأميركي الحرب كأمة مجاهدة في تلك اللحظات التاريخية، وقرر السعي إلى تدميرنا بكل وسيلة كشعب عدو وليس كنظام عدو، فقالت صحافته تلك الجملة المعبرة الآنفة الذكر: "إن سورية أصبحت الزعيمة الشيوعية في العالم العربي"، الجملة التي تُتَرْجَمُ باللغة المفهومة بما يلي: "أصبحت سورية العدوة اللدودة للمصالح الرأسمالية الاحتكارية في العالم العربي". وفي الواقع فإن السفير الأميركي في دمشق هرع إلى مقابلة رئيس الوزراء المرحوم سعيد الغزّي، عندما بلغه خبر تقدم الرفيق خالد بكداش بترشيح نفسه، وطلب إليه بالصفاقة المعهودة للدبلوماسيين الأميركان أن يرد هذا الترشيح ويمنعه، فرفض الرئيس الغزّي "بنعومة الدمشقي المتعالية"، التي لا يفهمها في العادة قتلة الهنود الحمر غليظي الأكباد، تنفيذ ذلك "الأمر" الأميركي، فأصبح لرفضه هذا شيوعياً أيضاً بنظر ذلك "السفير".

وقدّم المرحوم سعيد الغزّي استقالة حكومته الانتقالية في 14 تشرين أول عام 1954 بعد إنجاز الانتخابات النيابية. عندئذ كلف الرئيس هاشم الأتاسي نائب دمشق المستقل خالد العظم بتأليف الوزارة. وكان القصد من هذا التكليف في الواقع مجرد تجربة توخاها حزب الشعب لمعرفة الاتجاهات العامة في المجلس النيابي الجديد الذي لم تتبلور بعد التكتلات النيابية فيه وتحالفاتها، وإن كانت وحدة الجماهير متبلورة بطبيعة الحال في مقاومة مؤامرات المستعمرين وأحلافهم، هذه الوحدة التي أتت كما رأينا أعلاه بهذا المجلس بالذات: إن تكتلي كل من حزبي الشعب والبعث كانا معروفين وواضحين منذ البداية، ولكن مؤيدي العظم مثلاً، وهم حوالي الثلاثين نائباً مستقلاً أتوا من هنا وهناك وكانوا يسمّون كتلتهم "الكتلة الديموقراطية"، نقول إن هؤلاء المؤيدين ما كانت لهم كتلة متبلورة في البدء بحيث تضم عدداً مؤكداً من النواب في ظروف يكفي فيها نائب أو نائبان لتقرير مصير الوزارة. وكانت هناك أيضاً كتلة نواب العشائر المشكّلة من حوالي اثني عشر نائباً، وهناك كتلة المستقلين الذين يشكّلون حوالي الثلاثين نائباً فيهم الدكتور مأمون الكزبري ورفاقه من بقايا حركة التحرير التي تألفت في عهد الشيشكلي، وكتلة الدكتور منير العجلاني وغيرهم. أما الحزب الوطني فكان حينذاك يتمخض عن انقسام وتشرذم تتعدد فيه الاتجاهات والولاءات. كل هذا أدى إلى إخفاق العظم في تشكيل الوزارة فاعتذر وانسحب. وكانت هذه هي النتيجة التي ينتظرها الشعبيون، فأسرعوا بدفع راعيهم الرئيس هاشم الأتاسي إلى أن يستدعي فارس الخوري، الغني عن التعريف كرمز كبير بعلمه وماضيه الوطني وسنّه المتقدم، لتغطية وزارة يمينية تعمل على ضعضعة وشل الحملة العربية التي كانت حكومة الثورة المصرية تتزعمها ضد حلف بغداد الذي كانت تدبره بريطانيا حينذاك. ففي تلك الأيام بالذات كان نوري السعيد، الذي لم يتمكن من إقناع رجال ثورة يوليو بالانضمام إليه للعمل على جر العرب إلى حلف مع الغرب أثناء اجتماعه بهم في القاهرة، يتشاور مع البريطانيين في لندن ويضع معهم أسس حلف بغداد. وقد مر معنا خبر ذلك في فصل سابق من دراستنا هذه. ورأينا أيضاً أن مندريس رئيس وزراء تركيا ذهب إلى بغداد في 13 كانون الثاني عام 1955، حيث أصدر مع نوري السعيد بياناً مشتركاً يعلنان فيه عن عزمهما على إقامة حلف بغداد الذي تم التوقيع عليه نهائياً في 24 شباط عام 1955.

ودعت الحكومة المصرية رؤساء الحكومات العربية في 22 كانون الثاني عام 1955 لعقد مؤتمر في القاهرة لدراسة ذلك الأمر الخطير الذي انفردت بالإقدام عليه حكومة العراق. وكان قصد حكومة الثورة المصرية محاصرة الحلف الآنف الذكر ومنع امتداده إلى بقية الدول العربية في حال إصرار مدرسة نوري السعيد في المضي إلى التوقيع على ميثاقه مع الأتراك، الأمر الذي اتضح سلفاً حينذاك بعدم تلبية رئيس وزراء العراق المذكور الدعوة لحضور مؤتمر القاهرة وإرساله فاضل الجمالي بدلاً عنه. وذهب فارس الخوري مع وزير خارجيته فيضي الأتاسي (من حزب الشعب) إلى القاهرة للاشتراك في ذلك المؤتمر. وكانت خطة هذا الوفد للحكومة السورية تهدف حينذاك إلى منع حصار الحكومة العراقية عربياً، مما يسهل على هذه الحكومة العمل على تصدير ذلك الحلف إلى دول عربية أخرى. وكانت حجة ذلك الوفد السوري في موقفه هذا تتلخص في "أن العراق بلد مستقل يحق له عقد المحالفات التي يشاؤها مع من يشاء". وبديهياً، إن هذه الحجة تصلح أيضاً لأية دولة عربية، لسورية مثلاً، كي تدخل الحلف المذكور إذا شاءت. ولكن موقف فارس الخوري ووزير خارجيته فيضي الأتاسي في هذا المؤتمر كان يتعارض مع البيان الوزاري الذي نالت حكومتهما الثقة على أساسه، والذي يعلن رفض الأحلاف العسكرية مع الدول الغربية بشكل خاص أو عقد معاهدات معهم أو قبول مساعداتهم المادية. وكان هناك أيضاً قرار بهذا المعنى اتخذته لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب السوري عشية سفر وفد الخوري إلى القاهرة لحضور المؤتمر المذكور.

منع موقف الحكومة السورية في المؤتمر المذكور اتخاذ قرار بشجب الأحلاف والتوصية بعدم الانضمام إليها. وتأجل البت في هذا الموضوع إلى ما بعد ذهاب وفد من المؤتمرين إلى بغداد لمحاولة إقناع نوري السعيد بإيقاف عملية الحلف. لذلك توقفت في الثلاثين من كانون الثاني الاجتماعات ريثما يعود من بغداد وفد المؤتمرين، الذي تألف من سامي الصلح رئيس وزراء لبنان وتوفيق أبو الهدى رئيس وزراء الأردن والصاغ صلاح سالم. وعاد في هذه الأثناء فارس الخوري ووزير خارجيته فيضي الأتاسي إلى دمشق ليكونا في استقبال عدنان مندريس رئيس وزراء تركيا، الذي أتى لزيارة دمشق وتشجيع حكومتها من حزب الشعب وشد أزرها في خطها الذي كانت تنتهجه. وأذكر بهذه المناسبة مشهداً لهذه الزيارة يتلخص بما يلي: عند مرور موكب هذا الضيف في شارع الصالحية المزدحم في ضحى النهار كان الناس يديرون ظهورهم له عند مروره بدلاً من تحيته والترحيب به وذلك بشكل عفوي تلقائي لم تنظمه أو تأمر به أي جهة من الجهات السياسية. وقامت حملة عنيفة في مجلس النواب افتتحها النائب المرحوم عبد الكريم زهور بالتنديد بتلك الزيارة بشدة. وأجاب وزير الخارجية فيضي الأتاسي على منتقديه بقوله إنه: "يرفض حفظ سورية في خزانة مغلقة بعد أن يرش عليها مادة الـ (د.د.ت)!..". ثم إن اللجنة التي ذهبت لمقابلة نوري السعيد في بغداد عادت إلى القاهرة دون أن تحقق شيئاً من مهمتها. ثم انفض مؤتمر الرؤساء العرب المذكور في 6 شباط 1955 بلا قرار بسبب الموقف الغامض للحكومة السورية. وقد فاز نوري السعيد بهذا الموقف بالشق الأول من المعركة وهو: إفشال المؤتمر ومنعه من اتخاذ قرار تتم به محاصرة الحكومة العراقية وعزلها ومنعها من تصدير ذلك الحلف إلى دول عربية أخرى. ولكن الضغط الجماهيري كان قد أضعف ذلك التحالف الذي أتى بحكومة فارس الخوري، فانسحب منها عضوا الحزب الوطني فاخر الكيالي وبدوي الجبل في الوقت الذي انشق فيه هذا الحزب إلى شطريه المنوّه عنهما أعلاه: شطر يتزعمه العسلي وقف ضد حلف بغداد وأخذ يتقرب من حزب البعث وكتلة العظم، والآخر بقيادة لطفي الحفار، ثم انحاز إليه ميخائيل ليان، عارض التقرب من اليسار السوري. وسقطت وزارة الخوري في السابع من شباط 1955. وتم الاتفاق في نهاية المطاف بين الكتل النيابية لخالد العظم والبعث وشطر الحزب الوطني بقيادة العسلي على تشكيل وزارة تقف ضد الأحلاف العسكرية الاستعمارية. وتم تشكيل هذه الوزارة في 13 شباط عام 1955 بالشكل التالي: صبري العسلي للرئاسة والداخلية، خالد العظم للخارجية والدفاع، عبد الباقي نظام الدين للأشغال العامة والمواصلات، رئيف الملقي للتربية الوطنية، حامد الخوجة للزراعة، فاخر الكيّالي للاقتصاد الوطني، ليون زمريا للمالية، مأمون الكزبري للعدلية، وهيب غانم وزير دولة. وأعلنت هذه الوزارة شجبها لحلف بغداد، الأمر الذي أدى في النتيجة إلي عزل هذا الحلف وتكليسه ثم سقوطه نهائياً بثورة الرابع عشر من تموز التي "نسفت" مدرسة عملاء الإنجليز في العراق.

بعد أن أفلتت مصر من قيود الاحتلال الأجنبي لأرض الوطن بتوقيع معاهدة جلاء الإنجليز عن قناة السويس في 19 تشرين أول عام 1954، وكانت قبل هذا قد أفلتت أيضاً من فخ الدخول في حلف استعماري يتزعمه الإنجليز نصب لهم في سرسنك على شكل تحالف (مصري، عراقي) تتسلل إليه بريطانيا بعد قيامه، أمر المستعمرون البريطانيون عملاءهم في العراق ليدخلوا في حلف بغداد مع الحكومة التركية. وأجّل الإنجليز دخولهم في هذا الحلف كي يبدو في البدء حلفاً مشرقياً بين عرب وأتراك، وذلك على أمل أن يتمكن العراق من جر الدول العربية الأخرى إليه، عدا مصر التي رفضته والتي تبقى عند تمام هذا الأمر معزولة محاصرة. وقد مر معنا بيان هذه الأمور في فصل سابق من هذه الدراسة. لذلك كان موقف سورية الرافض لحلف بغداد في تلك الظروف حاسماً لجهة عكس الأمور التي كان يدبرها الإنجليز، فحوصر الحلف عربياً بدلاً من عزل مصر ومحاصرتها. وكان الفضل في ذلك كما نبينه هنا للجماهير السورية التي هزمت مخططات المستعمرين، بعد أن أبعدت عن الحكم من كانوا يعملون على إنجاح هذه المخططات. إلا أنه، كما هي العادة، قام عملاء المستعمرين بتشويه هذه الصورة للكفاح المجيد للشعب السوري بوصفها كذباً بالفوضى وتهافت النظام، وكأن الترتيب والنظام لا يقومان إلا بفوضى المستعمرين وعملائهم عندما يقلبون الدنيا عاليها سافلها. وتبع هؤلاء نفر وثني حاول احتكار الفضل لنفسه بوضع ذلك الكفاح المجيد للشعب السوري في الظل وتغطيته، كي لا يسطع نوره فيكسف ادعاءات فارغة. فباتريك سيل مثلاً الذي عنون بحثاً له عن سورية بعنوان "الصراع على سورية" يعطينا في هذا البحث صوراً لهذا القطر العربي ينبئ عنها سلفاً هذا العنوان، يعطينا صوراً لبلد يتجاذبه ويقرر مصيره الآخرون بمعزل عن شعبه الفاعل الأصلي لكل تلك الأحداث ولكنه مع ذلك لا يظهر له أي أثر في هذه الصور. إننا نرى مثلاً في البحث المذكور الصورة التالية التي يبدو فيها الشعب السوري مجرداً عن الفاعلية يشاهد مسرحاً يدور عليه صراع بين جهتين غير سوريتين: "..سرعان ما أدركت مصر دور سورية في معركة حلف بغداد فأيدت حكومة العظم وحلفائه في كل مراحل استلامها السلطة، وأوكلت أمر اكتساب جانب سورية إلى خبيري مصر في الشؤون العربية صلاح سالم ومحمود رياض. فأدار سالم الجانب الإعلامي في المعركة في حين أن محمود رياض استلم دوراً ألطف في عالم الدبلوماسية، إذ أصبح سفيراً لمصر في دمشق. وبتوجيه من صلاح سالم ركزت صحافة مصر وإذاعاتها حملات بلا كلل ولا ملل على حكومة فارس الخوري… وفي رسالة من صلاح سالم إلى المؤلف (إلى باتريك سيل كاتب هذه الأسطر) ذهب مرسل الرسالة في حماسته إلى أن قال إنه هو المسؤول المباشر عن سقوط فارس الخوري..". ولكن هذين "الخبيرين" في الشؤون السورية، اللذين ذكرهما باتريك سيل في عبارته هذه لتقوية معانيها وتشديد بلاغتها وبهرجها الخادع، ما كانا قد شاهدا من قبل سورية أبداً، وقد اكتسبا خبرتهما عندما خصصتهما حكومتهما في عملهما المذكور فارتكبا، بطبيعة الحال، أخطاء فادحة أضرت بالمسيرة العربية، وبسياسة الحكومة المصرية على الأخص، بدلاً من أن تفيدها. إن صلاح سالم مثلاً في زيارته الأولى لدمشق أمر، بناءً على نصيحة السفير محمود رياض، بدفع ثلاثين ألف جنيه إلى النائب الفاشي المكروه فيصل العسلي كي يرسل زلمه إلى المطار ويقوموا "بعراضة" استقبال له بلغت في هزالها وهجنتها حداً مزرياً. وكان هذا الفعل يناقض مناقضة تامة خط الحركة الوطنية المساند لحكومة صبري العسلي القائمة حينذاك، الحكومة التي أتت لإسقاط حلف بغداد بعد إتمام حصاره إلى جانب حكومة الثورة المصرية. وهذا بالإضافة إلى أن نفوذ فيصل العسلي المذكور ما كان ليمتد إلى أبعد من حدود حيّه، وإلى أنه كان دوماً أداة استفزاز ضد الحركة الوطنية. وادّعى سيل أن محمود رياض حدثه في القاهرة في شهر كانون الثاني عام 1961 فقال له: "..كانت مهمتي في سورية أن أشرح سياستنا في التضامن العربي ومعاداتنا لحلف بغداد. وكان طبيعياً أن أجد نفسي على وداد خاص مع البعث لتشابه نظرتينا إلى القضايا الخارجية..". وفي الواقع كان "الوداد الخاص" للأستاذ محمود رياض في البدء مع عدو البعث فيصل العسلي كما مر معنا قبل هنيهة. ويتابع سيل بحثه بقوله: "في 22 شباط عام 1955 تقدّم صبري العسلي، رئيس الوزراء الجديد ببيان حكومته إلى المجلس النيابي فشجب عقد جميع الأحلاف والمواثيق العسكرية الأجنبية وتبنى مخلصاً أفكار مصر في السياسة الخارجية… وفي 26 شباط وصل صلاح سالم إلى دمشق ليرسّخ المكاسب المصرية..".

ولكن سورية، منذ ما قبل جلاء المستعمرين عن سورية وسقوط معاهدة 1936 مع فرانسة، رفضت عقد أي معاهدة تحالف مع أية دولة أجنبية، وبلغت في تزمّتها بهذا الخصوص أن سنّت في أعقاب الجلاء قانوناً يمنع الدولة من عقد القروض الخارجية أو قبول أية مساعدة من أية جهة أجنبية، كالنقطة الرابعة مثلاً. وما كانت الحركة الوطنية فيها بحاجة إلى أحد، ككل الحركات الوطنية في الأقطار العربية الأخرى، وفي أقطار الدنيا أيضاً، لتتعلم منه عداءها للأحلاف الاستعمارية أو ليدفع مبادراتها للدفاع عن استقلال إرادتها.

وبعد، إن الحركة الوطنية هي بداهة إفراز طبيعي عفوي لجماهير الشعب فلا تُزَوَّرُ بدافع خارجي كتجمعات الانتهاز وشراذم الخيانة. ومن الطبيعي أن تقوم فيها مذاهبها ومفاهيمها بنتيجة تجاربها الخاصة وباستفادتها من تجارب الآخرين. وهي لا تقاد إلا من أهلها، فهم أدرى بحالها وبطبائعها. ثم إن الحركات الوطنية لأقطار العالم العربي ترفد الحركة الوطنية العامة للأمة العربية كروافد أصيلة "لا تخلق" بعضها بعضاً، تماماً كما لا تخلق مختلف جماعات بلد واحد بعضها بعضاً عندما تشكّل بالتقائها معاً وبتفاعلاتها المختلفة جماهير هذا البلد. أما المزوِّرون فلا يُبرزون إلا الفردية على حساب التنوع المترافد المتفاعل الخلاق.