الفصل الثالث عشر

كفاح الجماهير السورية

 

التقاء الثورتين السورية والمصرية

 

اتجهت الأنظار نحو الثورة المصرية التي بدأت أسهمها ترتفع في صفوف الجماهير السورية منذ مؤتمر باندونغ، بعد هزيمة بريطانيا في فرض حلف بغداد على الدول العربية، ثم الوصول إلى إتمام صفقتي الأسلحة المصرية والسورية مع تشيكوسلوفاكيا. فوقع في دمشق في العشرين من تشرين الأول عام 1955 اتفاق إقامة القيادة المشتركة للجيشين السوري والمصري واختير اللواء عبد الحكيم عامر قائداً عاماً لهما. وقد انضم فيما بعد الأردن والسعودية إلى الاتفاق الآنف الذكر. وكانت هذه الخطوات في المسيرة الوطنية العربية طبيعية من كل الأوجه الجغرافية والسياسية والقومية وصدىً صادقاً لرغبة الجماهير الثائرة على الأوضاع التي خلفها المستعمرون والأذى الذي سببوه لنا. فالتحدي الأساسي الذي كانت وماتزال وستظل تواجهه أمتنا العربية يتركز في فلسطين التي تحيط بها هذه الأقطار العربية الأربعة. والتحرر العربي والخلاص من المستعمرين جميعاًوليس من قدمائهم فقط لابد من أن يبدأ من تحشد قوى الأمة العربية وإمكاناتها في مواجهة الصهاينة. ولكن المستعمرين وعملاءهم بيننا يرون هذه الأمور على نحو آخر، يرون مثلاً هذا الذي تم مابين سورية ومصر في البدء انتصاراً للسياسة المصرية في سورية أو ما شابه، وكأن من اللازم أن يكون في الأصل تناقض مابين المصالح المصرية والسورية، وكأن الأقطار العربية تعود إلى أمم مختلفة لها مطامع هيمنة ووصاية لبعضها على بعضها الاخر. فباتريك سيل مثلاً يورد الحديث التالي للأستاذ محمود رياض سفير مصر في دمشق في كتابه "الصراع على سورية": "كانت سورية محاطة بحكومات تحبذ جميعها حلف بغداد البريطاني فكانت حكومتها متوترة الأعصاب.. وحتى عام 1954- 1955 كانت مصر كماً غير معروف في العالم العربي، ولم يكن لحكومة الثورة إلا اتصالات جد بسيطة بالحكومات العربية.. ولكن في عام 1955 أصبحت سياستنا واضحة، إذ آمنا بأن على العالم العربي أن يحمي استقلاله الكامل قبل أن ينضم إلى أية اتفاقية عسكرية مع الدول الأجنبية. فقد كنا ضعافاً جداً ونعلم أن أي ارتباط مع حلف أجنبي سيجعلنا تابعين له. وكانت مهمتي في سورية أن أشرح سياستنا في التضامن العربي ومعاداتنا لحلف بغداد. فاتصلت بجميع الأحزاب السياسية. وكان من الطبيعي أن أجد نفسي على وداد خاص مع البعث لتشابه نظراتنا إلى القضايا الخارجية". ثم يستمر باتريك سيل في تصوير الكفاح العربي في تلك الأيام ضد المستعمرين على أنه كان محاولات لجر سورية إلى طريق السياستين المصرية والسعودية فيقول: "ومنذ ذلك التاريخ أخذ السفير المصري محمود رياض، وسيلة عبد الناصر وظله في دمشق يحتل مكاناً هاماً في الشؤون السورية، وفي الأشهر التي سبقت "السويس" وأعقبتها كان مد الأحداث يجري لصالح مصر، واستطاع محمود رياض أن يشغل مركزاً في قلب الحياة السياسية السورية لا يضارعه في ذلك أي مبعوث أجنبي، فقد كان على علاقة وثيقة بالرئيس القوتلي واتصال مستمر بالزعماء السياسيين، كما أن نفوذه في زمرة الضباط التقدميين كان عظيماً أيضاً. وبالفعل بدأت علاقات الصداقة بين الجيشين السوري والمصري تشتد لتتوثق عراها فيما بعد. ولدى تبدل الحكومات السورية كان محمود رياض يلعب دوراً حاسماً في جعل سورية تنتهج سياسة خارجية تتفق وتلك التي تنتهجها مصر. وقد أصبح في حقيقة الأمر أكثر من مجرد سفير لدولة أجنبية بالنسبة لمختلف آراء الشعب ورمزاً للعلاقات الخاصة التي تربط بين سورية المحاصرة المهددة بمصر شقيقتها الكبرى والعظيمة. وكانت علاقته بحزب البعث علاقة صميمة بشكل خاص، فالبعث هو القوة الكبرى المؤيدة لمصر في السياسة السورية، وطليعة حركة الوحدة مع مصر، ولذلك كان من الطبيعي أن تكافئه مصر بوضع ثقلها الدبلوماسي كله في صالحه وتدعيماً له. وأضيف إلى التوجيه السياسي، الذهب السعودي وذلك على شكل قروض رسمية (جرى التوصل إلى اتفاقية لتقديم قرض إلى سورية قدره عشرة ملايين في تشرين الثاني عام 1955) وسيل من الرشاوى التي استهدفت تدمير مركز العراق في سورية وتدعيم مركز مصر والعربية السعودية..". انتهى قول باتريك سيل الذي قام أساسياً، بحسب مايبدو لنا، على النجوى التي جرت بينه وبين الأستاذ محمود رياض حول سفارة هذا الأخير في سورية. ولكن ما الذي يربط بين الانتهازيين الذين تنتفخ مخيلاتهم بما يظنونه منجزات من توافه الأمور وسطحيها في الوقت الذي تستحيل عليهم رؤية وفهم ما تجيش به أعماق الجماهير من تطلعات إلى الحرية والتقدم.

إن كلاً من مصر وسورية بلد من العالم الثالث يشكو من قهر النظام العبودي الرأسمالي العالمي ويتطلع إلى الخلاص من هذه العبودية. ومن الطبيعي أن تتعاطف القوى الثورية الوطنية في البلدين. ويضاف إلى هذا أن البلدين قطران في وطن أمة واحدة تسعى إلى تحقيق أهدافها القومية التي يأتي في مقدمتها توحيد وطنها الكبير في كيان واحد موحد، وهذا على عكس ما ينشره المستعمرون وأعوانهم مع الانتهازيين الوثنيين من أن مصر لم "تكتشف" عروبتها إلا مؤخراً في الوقت الذي هي فيه أكبر روافد أمتنا العربية في نشوئها وتكونها عبر التاريخ. فنجد إذن في النتيجة أن كل ثورة في مصر أو في سورية أو في أي قطر عربي هي ثورة أمتنا جميعها ولا حاجة بنا إلى "عبقرية" الأستاذ محمود رياض أو غيره مثلاً لدفع الرأي العام السوري إلى التعاطف مع الثورة المصرية. ولكن المستعمرين ومؤرخيهم من أمثال باتريك سيل والسخفاء من قومنا يظنون أن تعاطف السوريين المذكور كان من صنع محمود رياض. فإذا كان الرأي العام السوري قد شجب تصرفات الثورة المصرية ضد الإخوان المسلمين تارة وضد الشيوعيين تارة أخرى، فكانت جرائد دمشق مثلاً من كل الاتجاهات الوطنية تسمي حكومة الثورة "حكومة البكابشة" وما شابه من أسماء بقصد السخرية والنقد، فإن ذلك كان بسبب عواطف الكره التي كنتها الجماهير السورية للديكتاتوريات العسكرية واستمراراً للحذر الذي قام في نفوس السوريين من حكومتي مصر والسعودية اللتين حالفتا ديكتاتورية حسني الزعيم ثم ديكتاتورية الشيشكلي في الصراع السياسي الذي قام بينهما وبين الهاشميين في المنطقة. وكان النصر كما هو معلوم للجماهير السورية التي أطاحت بحكم الشيشكلي على الرغم من تعاطف حكومة الثورة المصرية مع هذا الحكم ومن رشاوى السعودية له ولرجاله، إلا أنه عندما اتضح خط الثورة المصرية في كفاح الاستعمار القديم ورفضها الانجرار إلى أحلافه التي كانت بريطانيا تسعى إلى إقامتها بمساعدة الهاشميين في العراق والأردن، ثم التقى هذا الخط في الميدان العالمي مع الخط الثابت للحركة الوطنية السورية وحركات التحرر الأخرى في العالم لمقاومة الاستعمار، وعندما اشتركت حكومتا مصر وسورية في كسر طوق حصار المستعمرين للعرب لمنعهم من التعامل الاقتصادي والعسكري والسياسي مع المعسكر الشرقي واشتركتا في تأييد ودعم ثورة الجزائر العربية للتحرر من المستعمرين الفرنسيين، كل هذا وغيره من الأمور، التي دفعت بمجموعها الثورة المصرية إلى المجابهة في نهاية الأمر مع الاستعمارين القديمين الإنجليزي والفرنسي اللذين قاما بالعدوان على مصر في أعقاب تأميم قناة السويس، كان أبلغ من أي شرح قدمه الأستاذ محمود رياض لقادة الحركة الوطنية السورية ليؤيدوا الثورة المصرية ويلتقوا معها في كفاح المستعمرين. نقول إذن بعبارة ثانية أنه عندما حصلت القناعة عند الجماهير السورية بأن ما يجري في مصر حينذاك كان ثورة ضد المستعمرين عادت تلك الجماهير عن حذرها الأول من هذه الثورة وأيدتها بكل عفويتها دون الحاجة إلى أي مندوب عنها، كالأستاذ محمود رياض مثلاً، ليكون بحسب تعبير باتريك سيل الآنف الذكر "رمزاً للعلاقات الخاصة التي تربط بين سورية المحاصرة المهددة بمصر شقيقتها الكبرى والعظيمة وليلعب دوراً حاسماً في جعل سورية تنتهج سياسة خارجية تتفق وتلك التي تنتهجها مصر". فأفراد الجمهور المدنيون والعسكريون كانوا مثلاً في أعقاب تأميم القناة وأثناء العدوان على مصر وبعد ارتداد هذا العدوان وهزيمته يفدون على السفارة المصرية بكل عفويتهم كي يعبروا عن تأييدهم للثورة المصرية ووقوفهم إلى جانبها في مجابهتها للمستعمرين، وذلك تماماً كما يفدون على أي بيت عربي، سوري أو غير سوري، يمثل جهة وطنية كفاحية تعبر عما يختلج في نفوسهم من آمال وعما يكنونه من تصميم على مكافحة المعتدين المستعمرين. ماكانت الجماهير السورية بحاجة إلى من يحرضها لتندفع للتعبير بالشكل المناسب عن رأيها في مختلف المواقف الوطنية. ففي الثالث من حزيران عام 1955 مثلاً احتل طلبة الجامعة السورية مكتب وزير الاقتصاد وطردوا منه الوزير رزق الله أنطاكي الذي سمح بتصدير الحنطة السورية إلى فرانسا التي كانت حكومتها حينذاك منهمكة في المحاولات الفاشلة لقمع ثورة الجزائر. ولم ينسحب أولئك الطلبة من المكتب المذكور إلا بعد إلغاء قرار التصدير المذكور. وماكان هذا الفعل نتيجة لأي تحريض خارجي يوجه أولئك الطلبة إلى ما يجب عمله لإيقاف قرار للحكومة يضر بثورة الجزائر وبالمسيرة القومية. لقد كان تصرف الطلبة حينذاك ينسجم مع حركة الجماهير الثائرة ضد المستعمرين ومؤامراتهم ويستجيب تماماً لها كما استجابت زيارات المدنييين والعسكريين للسفارة المصرية للتعبير عن تأييدهم لقرار تأميم قناة السويس وشجب عدوان المستعمرين على مصر وإبداء استعدادهم للتطوع للقتال إلى جانب أخوتهم المجاهدين المصريين، وذلك دون أية دعوة من الأستاذ محمود رياض سفير مصر حينذاك الذي يصوره باتريك سيل في كلمته السابقة وكأنه مفوض سام للثورة المصرية في سورية يوجه الأحداث فيها ويشكل حكوماتها ويخرجها من عزلتها المزعومة. أما الواقع فإن المستعمرين وأعوانهم كانوا هم المعزولين المحاصرين في دمشق حتى أن السفير الأميركي كان يشكو بمرارة حينذاك من مقاطعة الجمهور السوري لحفلاته ومناسباته القومية في الوقت الذي كانت فيه السفارة السوفياتية تمتلئ بمدعويها السوريين في أعيادها بسبب موقف حكومتها الإيجابي من تطلعاتنا القومية والوطنية. وليس بإمكان باتريك سيل وأمثاله من كتاب المستعمرين أن يسيئوا إلى الأستاذ محمود رياض فيتهموه بتحريض الجماهير السورية على مقاطعة احتفالات السفارة الأميركية وعلى إحاطة السفارة السوفياتية بصداقتها وعطفها.

سورية جزيرة الحرية الخضراء

كان همي الأول بعد صدور الحكم في قضية الشهيد عدنان المالكي الانتهاء بسرعة من تشكيل امتداد الجبهة الوطنية في الجيش ليقود جماهير العسكريين. وهنا أكرر الإشارة إلى أن جماهير العسكريين كجماهير المدنيين لا يفرقهم إلا اختلافات من يمثلونهم من القادة والبارزين. فكنت أكثف اجتماعاتي  بتلاميذي العسكريين من مختلف الاتجاهات الفكرية داعياً إلى رص الصفوف وسد كل ثغرة ينفذ منها الديكتاتوريون أعداء الحرية صنائع المستعمرين الذين يأتي في مقدمتهم الأميركان أعداء الإنسان الألداء. وكان يعضدني في هذه المهمة بتفهم عميق وحماس كتلة العسكريين الفلسطينيين الذين كانوا بتجانسهم الفكري ووعيهم وسعيهم الدائب لتعزيز اللحمة بين مختلف الفئات وسهرهم لإفشال مختلف محاولات الدس وتفريق الصفوف يشكلون طليعة ونموذجاً ممتازاً للفئات الجماهيرية العربية الثائرة في تلك الظروف التاريخية. ففي ظروف تصاعد المناخ الثوري إذ يزداد انتباه تلك الجماهير الثائرة ويتسع اهتمامها بالأحداث الجارية تزداد أيضاً حساسياتها وتأثرها بالشائعات بحيث يقوم بهذا مجال واسع خطر لعمل الدساسين والانتهازيين ناشري الشائعات ومفرقي الصفوف. فيأخذ إذن في مثل هذه الظروف السهر على تبديد الشائعات وتقريب وجهات النظر ومحاربة الدسائس ورفع الشكوك أهمية حاسمة.

ما كان المستعمرون الأميركان يوفرون وسيلة ولا جهداً لنشر الأكاذيب والأوهام التي تخدم أغراضهم. فقد نشر مثلاً الصحفي الأميركي جوزيف ألسوب، الغني عن التعريف لشهرته العالمية في تلك الأيام، مقالاً في صحيفة نيويورك هيرالد تريبيون، عدد 25 أيار عام 1956، تنبأ فيه بأن عبد الحميد السراج سيكون الديكتاتور المقبل لسورية. وهذا الدس من أساليب المخابرات الأميركية لدغدغة وتحريك أطماع الانتهازيين لدفعهم في الاتجاه الذي يخدم أغراضها. وألسوب هذا كان قد أمضى أسبوعين في سورية يدس ويتجسس قبل كتابة مقاله هذا. ولكنه لم يبلغه على مايبدو خبر اجتماع لي بالعسكريين قرب التاريخ المذكور لبحث ما يتعلق بالجبهة الوطنية. وقد طرح أحد الضباط اسم السراج ليكون قائداً لهذه الجبهة في الجيش، فهب الحاضرون جميعاً بما فيهم السراج يعنفونه ويقولون له: "إن ما نسعى إليه هو إقامة مدرسة تسهر على صيانة ارتباط جماهير العسكريين ببقية جماهير الشعب والأمة وليس إقامة ديكتاتورية عسكرية يتقاسم أهلها المغانم". وقد نجحنا بالفعل بإقامة هذه المدرسة التي ضمت عملياً جميع العسكريين وتشكلت لها قيادة تسيطر على الأركان بكل شعبها ودوائرها فما كان أمر هام يقوم وينفذ في الجيش إلا بتدبيرها أو موافقتها ومن خلالها.

ولكن الرجعية ما كانت نائمة حينذاك فرأت أن تعمل على نسف تلك المدرسة في باكورة قيامها، وذلك بإثارة التنافس بين العسكريين على مراكز القيادة والمنافع الباطلة الأخرى. وما هذا الأمر إلا أسلوب معروف مكرر طالما أثار به المستعمرون والرجعيون أطماع وحماقات أفراد لم يجلبوا لذويهم سوى الكوارث والآلام  ولأنفسهم سوى الخزي والعار. وقد وجدت الرجعية في تلك الظروف منصب رئاسة الأركان يشكل موضوعاً مناسباً لتنافس الضباط عليه وبالتالي لوقوع الخلاف فيما بينهم بسببه. وقد أشرت مرة في هذه الدراسة إلى أن رئيس الأركان حينذاك الزعيم شوكت شقير كان ضعيف التأثير في الجيش لظروفه الخاصة التي يأتي في مقدمتها كونه غريباً عن هذا الجيش. فاستغلت الرجعية هذا الأمر ودفعته إلى الاستقالة التي لم يكن لها حينذاك أي سبب أو مبرر. وما كنت في تلك الأوقات لأفكر باحتلال هذا المنصب الذي كنت عملياً قائماً به بإدارتي تلك المدرسة الآنفة الذكر. وقد فوجئت ودهشت عندما أتاني أحد اليساريين وقال لي بلهجة العتاب: "لِمَ تعارض تعيين اللواء نظام الدين خلفاً لشوكت شقير في رئاسة الأركان العامة ما دمت أنت في كل الأحوال عملياً قائداً لهذا الجيش؟". فأجبته أن الرجعية هي التي ألقت في أذنك هذه الفرية، وما أهتم به اليوم هو مقاومة وإحباط مؤامرات المستعمرين الأميركان ومكاني الحالي ملائم جداً لهذا الغرض. وقد نبهت زملائي إلى أن هذه الشائعة وأمثالها لا تهدف إلا إلى تفريق الصفوف في الجيش بالإضافة إلى إثارة الشكوك لدى القوى الوطنية المدنية التي تؤيد تعيين اللواء نظام الدين لقيادة الجيش لأسباب منها كون شقيقه النائب عبد الباقي نظام الدين وزيراً وعضواً في الجبهة الوطنية، وهذا أمر يناسبنا نحن أيضاً لأننا نسعى لنكون امتداداً عسكرياً لهذه الجبهة. وكان الرجعيون في تلك الأيام يفدون أيضاً على المقدم أمين النفوري ويقولون له: "شد حيلك، يجب أن تكون أنت رئيساً للأركان". وكان المرحوم النفوري ينقل إلي أخبار هذا التدليس الرجعي الذي كان يستهدفه. وطوال قيادة نظام الدين للجيش كانت الجبهة الوطنية تعمل بدون أي عائق مدني أو عسكري. وعندما قدم استقالته بذلت كل جهد ممكن لإقناعه بالعدول عنها ولكنه أصر عليها لأسباب تخصه.

لقد أصر المستعمرون وأتباعهم من قومنا والجهلة الوثنيون في تشويه ثورة الجماهير العربية في الخمسينات من هذا القرن بإغفال دور هذه الجماهير ودور مدارسها الفكرية والقيادية التي وجهت مختلف ساحات تلك الثورة في مختلف أقطار وطننا. وراح هؤلاء الغرباء جميعاً عن تلك الثورة ومعظمهم أعداؤها ينسجون القصص الخيالية والأخبار الكاذبة عن هذا "البطل" أو ذاك. وقد ساهم إلى درجة كبيرة بعض أولئك "الأبطال" بتسريب حكايات مبالغ فيها عن "بطولاتهم الموهومة". وكان هذا أمراً غير ذي خطر فيما لو بقي في حدود الفرد الذي يبالغ بعض الشيء بمنجزاته دون المساس بالمسيرة العامة وتشويهها. ولكن المدرسة الوطنية الثورية السورية أصيبت بتشويه وظلم كبيرين حتى من بعض أتباعها عندما صدق هؤلاء الأتباع ما ردده حولها كل أولئك المستعمرين والخونة والانتهازيين والوثنيين والكتاب المرتزقة الباحثين عن غرائب الأخبار دون صحيحها وأشباههم من قصص وما عرضوه لها من صور كاذبة شوهاء. ولكثرة الأفراد الذين نُسب إليهم شرف هذا الإنجاز أو ذاك دون الجماهير ومدرستها الثورية ومؤسساتها المتضافرة في تصعيد المقاومة وإحباط مؤامرات ومكائد المستعمرين وإقفال السبل أمام الانتهازيين انتهى الأمر إلى تصوير المقاومة الباسلة الرائعة للجماهير السورية ضد المستعمرين وأعوانهم بصورة تناحر قبلي بين مختلف الفئات السورية كاد يودي باستقلال هذا البلد لولا أن أتت الثورة المصرية تأخذ بيده وتنقذه من نفسه "بحصافة ودهاء" سفير هذه الثورة محمود رياض. ولكن لا أحد ينكر أبداً أن الذي رأى إمكان وحدة القطرين كان تلك المدرسة الثورية السورية التي صورت بتلك الصورة الشوهاء وليس الثورة المصرية وذلك باعتراف رجال هذه الثورة جميعهم. فأقبل الثوار السوريون في خضم ذلك العالم، الذي كانت فيه الولايات المتحدة الأميركية منهمكة في إقامة استعمارها العالمي الجديد، على إنجاز ذلك الأمر العظيم الذي فاجأ المستعمرين والرجعيين جميعاً وشل حركتهم حينذاك والذي تمنته أمتنا طوال قرون عديدة، كما عجز عن استعادته بعد ضياعه كل أولئك الذين ادّعوا بأنهم طلبوه بصدق، ذلك لأنه ضاع بضياع تلك المدرسة الثورية.

ولإعطاء الصورة الحقيقية للثورة الجماهيرية السورية في تلك الأيام، الثورة التي حققت وحدة القطرين بعد أن أوقعت بالمستعمرين أشنع الهزائم نأتي بصورة لسورية قامت في الهند والباكستان في تلك الأيام، وقد نقلها إلينا بشكل عفوي الرئيس شكري القوتلي بكلمة له على شكل تقرير قدمه للشعب السوري حول زيارته لهاتين الدولتين. قال الرئيس القوتلي:

" أيها المواطنون الأعزاء، كلما حملتني الأسفار بعيداً عن بلادي، ونظرت إليها من تلك الأبعاد والخطوط، صغيرة في رؤية البصر، كبيرة في رؤى الشعور والحب والحنين، كلما نظرت إلى بلادي، وأنا بعيد عنها، نظرت إلى وطن صغير في نقطة تائهة على خريطة الكون، تظل تنتشر سعة وارتفاعاً وتدفقاً وإشعاعاً حتى تتلألأ في صفحتها صورة المجد العربي الجليل، وألف ألف صورة ولون، وظل، من ملك عربي عريض، تدفقت سراياه في أرجاء الأرض، شرقاً وغرباً، من أواسط أوروبا حتى أقاصي الهند والصين. كلما نظرت إلى بلادي، وكلما تحدثت عن بلادي نظرت إلى شيء واحد، وتحدثت عن شيء واحد هو وحدة الوجود العربي ووحدة التاريخ العربي، ووحدة الشعور العربي".

"أيها الأخوان، في رحلتنا إلى الهند والباكستان التي أريد أن أحدثكم اليوم على هامشها كنا نلقى الكثيرين ممن يسألون عما هي سورية، ومن هم سكانها، وماهي قوتها؟! وما شأننا نحن الذين نُصَعِّرُ للدول الكبرى، ونترفع في الجري في أفلاك الأقوياء، وأحلاف المحاربين؟! ولقد كانوا يدهشون عندما كنا نخبرهم أننا أربعة ملايين وسرعان ما تزول دهشتهم عندما يعرفون كيف يمكن أن يكون أربعة ملايين سوري مائة مليون عربي، وكيف كنا نتقمص بواقعنا النضالي عظمة أمة عظيمة، ونستوحي في أيام الشدائد سيرة أبطالها الأشداء، وشهدائها الأبرار".

"حول اسم سورية العربية، هذه الدولة الصغيرة التي إذا انتسبت إلى الأرقام لا تبلغ بالسكان والمساحات حجم ناحية باكستانية، أو مدينة هندية، حول هذا الاسم الفتي المشرق بالغار والريحان، تجمهر الألوف من أبناء تلك البلاد الكبيرة، الممتدة الأرجاء يستطلعون أخبارنا ويستزيدوننا إيضاحاً وحديثاً، كيف أدلنا دولة الغاصبين، وكيف أنهينا حياة الاستعمار الرازح بكابوسه الثقيل على صدور الملايين في آسيا وأفريقة، وعندما كانت الصحف والإذاعات أثناء قيامنا في تلك البلاد تردد أسطورة الفراغ، ومن عسى أن يملأ هذا الفراغ، كان إيضاح تاريخ سورية وموقف سورية كدولة حرة مستقلة منذ عام 1946، تتمتع بسيادتها الكاملة في جميع مرافقها وشؤونها، وسياستها الداخلية والخارجية، خير ردّ على الناعقين بأسطورة الفراغ، لأن الشعب السوري منذ أحد عشر عاماً قد استطاع أن يقدم البرهان تلو البرهان، أنه وحده يملأ فراغ القوى الغاصبة الراحلة، وأن التجربة السورية ليست حديثة عهد في تاريخ النضال ضدَّ مكائد المستعمرين وأضاليلهم. ولكم حاول المستعمرون أن يتسللوا من ثغرات الضعف إلى مراكز المقاومة في ضمير هذا الشعب الأبي المجاهد ليملأوا في حياته الحرة فراغاً مزعوماً، فارتدوا خاسئين خاسرين. ولكم بنوا آمالهم ومطامعهم على الانقلابات التي توالت في البلاد، وكانوا من ورائها متربصين، فردَّ الشعب سهامهم إلى نحورهم، وكانت المؤامرة الأخيرة حلقة من سلسلة مؤامراتهم لقلب نظام الحكم بالقوة، وتعطيل مبدأ سيادة الشعب ليسوده العملاء والمأجورون والموتورون وكل من حدثته نفسه ببلوغ الحكم عن طريق الظلام، ليبلغ به المستعمرون أطماعهم في ضرب أقوى جبهات العروبة المناضلة وهي جبهة هذا الوطن، جبهة هذا الشعب، جبهة هذا الجيش وجبهة هذا النظام الديموقراطي الذي انغرس في أعماق الشعب حتى في أحلك أيام الاحتلال".

"لم يكن يطمع المستعمرون، تمهيداً لتحقيق مآربهم وأطماعهم في بلادنا التي رحلوا عنها كارهين مكرهين إلى أكثر من أن يفتحوا الثغرات والخروق في صفوف نظامنا الديموقراطي ليستغلوه، وفي صفوف جيشنا، ليجعلوه شيعاً وفرقاً، وفي صفوف شعبنا لينشروا بينه أسباب القلق والاضطراب. وقد تابعتنا أبواقهم بأضاليلها في رحلتنا إلى الهند والباكستان، كما لاحقتنا من قبل في رحلتنا إلى موسكو، وبينما كنا في أجواء ذلك اللقاء الودّي الكبير مع الملايين من سكان تلك البلاد، يهفون إلى سماع أقوالنا، وعرض آرائنا، وإعلاء كلمة الحق في الدفاع عن قضيتنا، كانت الأبواق في صحفهم وإذاعاتهم تصر على أن الخبراء السوفيات قد اتخذوا من كهوف الصحراء في بلادنا مقراً لقواعد سرية، وأننا لا نستطيع أن ننسجم في سياستنا العامة مع سياسة الهند، رغم صدور البيان المشترك بيننا وبينها، لأننا بزعمهم دولة غير ديموقراطية، تحكمها أيد خفية، وتعطل فيها إرادة الشعب، وطبيعة النظام الديموقراطي".

"ولقد كانت فرصة ملائمة، ونحن على منابر الحديث والخطابة في مجالس دولة صديقة وفي صحافتها وإذاعاتها أن نردّ المكائد إلى نحور أصحابها، وندحض افتراءات المستعمرين والصهاينة فتتناقل أقوالنا عشرات الصحف والإذاعات، ونجد في خطب الرؤساء والوزراء والحكام في بلاد الهند، وفي مقدمتها خطاب الزعيم الرئيس جواهر لال نهرو خير عون لنا في الجهر بواقعنا وعرض قضيتنا على منابر الملأ الأوسع. ولقد أيد الرئيس نهرو ما جاهرنا به، وسخر معنا من خرافة الفراغ ومطلقيها ومن أضاليل المستعمرين في تشويه سمعة الشعوب المناضلة، وأكد مثلما أكدنا إرادة الملايين في آسية وأفريقية وطموحهم إلى حياة حرة عزيزة، لا تجري وراء منافع الدول الطامعة وتأبى أن تسخر نفسها لسياسة الأحلاف والمعسكرات، وقد حيّى الرجل الكبير جهاد سورية وتاريخها النضالي أصدق تحية وأجملها وقال أنها "جزيرة الحرية الخضراء"، فنسجل هذه الكلمات المخلصة الكريمة لزعيم الهند وقائد نهضتها بكثير من الامتنان والشكر".

انتهت أقوال المرحوم الرئيس شكري القوتلي التي لانجد فيها أي أثر لدعاوى المستعمرين وأذنابهم من الكتاب العرب بأن الانقسامات كانت تعصف في الصفوف الوطنية السورية في تلك الأيام، الانقسامات التي دعتنا بحسب مزاعم هؤلاء الأعداء إلى إنجاز تلك المهمة الوطنية الكبرى التي هي تحقيق أول وحدة عربية معاصرة. ولكن إذا كان مثل ذلك التناحر القبلي المزعوم يؤدي إلى مثل ذلك الإنجاز الوطني الضخم فَلِمَ لا تدفع جاهلية العرب المعاصرة حكامنا لتحقيق الإنجاز الكبير بمقدار اتساع وعمق خلافاتهم وهو توحيد وطنهم العربي؟!..

العدوان الثلاثي

خططت الرجعية العالمية العدوان على مصر في أعقاب تأميم قناة السويس بتحريك إسرائيل أولاً لتقوم بهجوم في اتجاه القناة عبر سيناء يبرر تدخل جيوش قدماء المستعمرين الإنجليز والفرنسيين بحجة المحاجزة بين المتقاتلين المصريين والصهاينة وإبعادهم عن القناة الممر الهام للملاحة الدولية. وكانت أميركا لا تكتفي بمراقبة الأمور عن كثب وإنما كانت تشجع أولئك الحمقى متحجري العقول حكام بريطانيا وفرنسا المغرقين في رجعيتهم ليتورطوا بمباشرة العدوان على مصر في الظروف العالمية السائدة حينذاك ويواجهوا وقوف العالم، الثائر حينذاك على الاستعمار، في وجههم ويواجهوا تهديد المعسكر الاشتراكي وإنذار الاتحاد السوفياتي. وعند وصول الأزمة إلى ذلك الحد الذي تورط فيه الإنجليز والفرنسيون بالعدوان وقف المستعمرون الأميركان على الحياد وعادوا ينصحون أولئك المعتدين بالتراجع أمام الإنذار السوفياتي وثورة العالم ضدهم بعد أن كانوا قد شجعوهم على التورط في العدوان ووعدوهم بالدعم. وكانت النتيجة كما هو معروف انهيار الاستعمار القديم انهياراً تاماً في شرقي العالم العربي. وهذا ما أرادته وخططت له الولايات المتحدة الأميركية لتتمكن من إتمام بناء إمبراطوريتها العالمية المتعددة الرؤوس وإقامة الاستعمار الجديد بقيادتها. فصدر على الفور بعد تراجع المعتدين على مصر مبدأ أيزنهاور رئيس الولايات المتحدة الداعي إلى "ملء الفراغ" الذي خلفه أولئك المستعمرون القدماء في الشرق العربي بنتيجة فشل عدوانهم المذكور والذي أتى على ذكره مطولاً الرئيس القوتلي بكلمته الواردة أعلاه.

كان الهجوم الصهيوني الذي افتتح العدوان الثلاثي على مصر في مساء التاسع والعشرين من تشرين الأول عام 1956. وكنت في صبيحة الثلاثين منه أرأس المحكمة العسكرية في قضية المقدم أحمد قصيباتي. وكان إلى جانبي المقدمان بشير صادق ومصطفى حمدون كمستشارين، فرأيت أن أفتتح المحاكمة بقرار من المحكمة يُتلى علنياً بدعم الرئيس عبد الناصر والثورة المصرية وتأييد تأميم القناة وشجب العدوان الاستعماري على مصر. فعارضني المستشاران المذكوران وكانت حجتهما أن إثارة قضية القناة في الوقت الذي يجب أن توجه كل الجهود العربية لدعم ثورة الجزائر المشتعلة حينذاك ضد المستعمرين الفرنسيين هو تبديد لتلك الجهود العربية. فقلت لهما عندئذ بأنني بسبب موقفهما هذا سأصدر القرار المذكور باسم رئاسة المحكمة وحدها. وفي النتيجة اقتنعا بالاشتراك معي وصدر القرار بالإجماع باسم المحكمة. فإذا علمنا أن هذين الضابطين كانا من الأصدقاء المقربين جداً من قيادة البعث حينذاك تبين لنا أن ذلك التقارب البعثي الناصري الوارد فيما نسب أعلاه من كلام إلى الأستاذ محمود رياض ما كان قد تم عندما وقع ذلك العدوان الثلاثي على مصر.

وكنت طلبت تعييني في الوحدات المقاتلة. وقد تلقيت الموافقة تلفونياً على هذا الطلب أثناء انعقاد المحكمة للنظر في القضية المذكورة آنفاً. فذهبت في نهاية الجلسة إلى بيت اللواء نظام الدين حيث كان رئيسا الشعبتين الأولى والثانية يبحثان مع رئيس الأركان موضوع أنبوب النفط العائد لشركة الـ(اي، بي، سي) البريطانية والمار عبر الأراضي السورية إلى طرابلس. فاستقر الرأي على نسف هذا الأنبوب في الحال والعمل على نسف الأنبوب الآخر المار في الأراضي الأردنية باتجاه حيفا، وتم هذان الأمران فيما بعد. ثم غادرت مباشرة هذا الاجتماع للالتحاق بالمجموعة السورية التي كانت في ذلك الوقت قد عبرت الحدود الأردنية في اتجاه الضفة الغربية لتولي قيادة لواء المدرعات الأول فيها. وتتألف المجموعة من جمهرة أسلحة معززة بالدبابات والمدفعية وهندسة الميدان وغيره. وقد أدركت رتل لوائي في المفرق يقوده المقدم طعمة العودة الله في مساء الثلاثين من تشرين الأول فأمرت بالمبيت في معسكرات "خو" الأردنية. وفي صباح الواحد والثلاثين منه استأنفت أرتالنا مسيرتها باتجاه الضفة. وتقدمت مع قيادات الأسلحة الأخرى نحو عمان للاجتماع بالقيادة الأردنية وتلقي مهماتنا منها. فاستقبلنا اللواء علي أبو نوار مع أركانه وعقد معنا مباشرة جلسة افتتحها بإخبارنا بأن القائد العام للجيوش العربية اللواء عبد الحكيم عامر أصدر أمراً إلى الجيشين السوري والأردني بعدم التدخل بسبب نزول الإنجليز والفرنسيين في بور سعيد وانسحاب الجيش المصري من سيناء لمواجهة الوضع الجديد الناشئ عن هذا النزول. ولكن اللواء علياً أبا نوار قال أن علينا أن نكمل نحن ترتيباتنا بأن تستمر المجموعة السورية بمسيرتها نحو الضفة الغربية لتأخذ مواقع لها في مواجهة بيت المقدس. وأضاف بأن علينا أن لا نضيع هذه الفرصة لتحرير المدينة المقدسة نهائياً بالاستيلاء على القدس اليهودية الغربية. هنا يجب أن أنبه إلى أن المجموعة السورية كانت تشكل الاحتياطي الوحيد للقوات السورية التي كانت في تلك الأيام متحشدة كلها في مواجهة العدو الصهيوني في الجبهة السورية. وكان من الطبيعي أن لا ترسل المجموعة السورية المذكورة بعيداً عن الجبهة السورية، أن لا ترسل إلى القدس مثلاً على بعد مئات الكيلومترات من هذه الجبهة، إلا استثناءً وبعد أن يوفـَّر احتياطي آخر للجيش السوري. لذلك سألت اللواء علياً أبا نوار عما لديه من قوات في الأغوار وفي إربد. فأجابني بأن الجيش الأردني بكليته في الضفة الغربية بمواجهة الصهاينة وأنه لا يوجد في الأغوار وإربد إلا سرية مشاة واحدة متمركزة في هذا البلد الأخير. عندئذ أصدرت أمراً إلى أحد ضباطي ليذهب مسرعاً باتجاه أرتال المجموعة التي كانت تتقدم حينذاك نحو عمان ومنها إلى الضفة الغربية ليوقفها حيث هي بانتظار أوامر جديدة. ثم التفت إلى اللواء أبي نوار، الذي كان في غاية الاندهاش من الأمر الذي أصدرته للتو، وقلت له أن الضفة الغربية تصبح مصيدة إذا بقيت المحاور: (جسر المجامع، إربد، دمشق) و (جسر المجامع، إربد، عمان) و (جسر المجامع، الأغوار)، على ماهي عليه حالياً مفتوحة للعدو الصهيوني. واقترحت نشر المجموعة السورية مبدئياً على محور يمتد من جسر داميا في الأغوار إلى إربد فالمفرق، بانتظار تطور الأحداث. ولكن الجانب الأردني أصر على طلبه بذهاب المجموعة السورية إلى القدس، وأصررت من جهتي على موقفي حفاظاً على الجبهتين الأردنية والسورية من أن يلتف عليهما العدو من ثغرة (إربد، المجامع) الخالية تماماً من كل دفاع. ثم وصل الملك حسين ومر بقاعتنا مسرعاً دون أن يرحب بنا إلى قاعة أخرى في تلك القيادة الأردنية، وتبعه ضباطه. ومما لاريب فيه أن تصرفه بهذا الشكل تجاهنا كان بسبب معرفته بموقفنا الذي أبلغ به هاتفياً فأتى مسرعاً يستجلي تفاصيل الأمر. أما نحن السوريون فقد اعتبرنا أن الأمر منتهٍ عند هذا الحد وغادرنا بدورنا عائدين إلى المجموعة السورية، وقمنا حالاً بتنفيذ تمركز مجموعتنا على المحور الآنف الذكر الذي اقترحته. وقد شكتني القيادة الأردنية إلى القيادة السورية التي لم تخالف ما ذهبت إليه.

ثم تبين لنا سبب إصرار القيادة الأردنية على إبعاد الاحتياطي العام للجيش السوري إلى الضفة الغربية على بعد مئات الكيلومترات من العاصمة دمشق بحجة واهية كاذبة هي الاستيلاء على القدس اليهودية، في الوقت الذي كان فيه القائد العام للجيوش العربية اللواء عامر يؤكد أمره بعدم قيام جيشي سورية والأردن بالتعرض للعدو ريثما تنجلي المعركة الرئيسية الدائرة حينذاك في بور سعيد. ففي ذلك التاريخ بالضبط كان حكام العراق منهمكين مع البريطانيين في تدبير مؤامرة تطيح بالحكم الوطني السوري وتسحق الحركة الوطنية السورية في ذات الوقت الذي تقوم فيه الجيوش الإنجليزية والفرنسية بغزو مصر بدءاً من بور سعيد لإسقاط حكومة الثورة فيها بحجة استرداد القناة التي أممتها هذه الحكومة. لقد كانت تلك الهجمة المتشعبة المحاور آخر المحاولات البريطانية لاسترداد مواقعها الاستعمارية في مشرق العالم العربي ويمكن تلخيصها بما يلي:

-أولاً: قلب الحومة السورية بحركة تبدأ من جبل العرب وتمتد إلى بقية المدن السورية. وبالفعل فقد كدس حكام العراق الأسلحة الازمة لذلك في مختلف الأماكن المناسبة في سورية مثل وعرة الصفاء شرقي جبل العرب مثلاً وفي المناطق المتاخمة للبنان الذي كان يحكمه كميل شمعون وأنصاره. وقد حاولت في تلك الأوقات عناصر قريبة من أوساط حزب الشعب إثارة فتنة طائفية في حلب وذلك بتشجيع ضمني من وزير الداخلية أحمد قنبر، أحد زعماء حزب الشعب المغرق في حقده على اليسار وحركة التقدم على الرغم من أصوله الاجتماعية المتواضعة. وعندما أتى ليشهد حول هذه الواقعة أمام المحكمة التي نظرت في قضية تلك المؤامرة الكبرى والتي كنت أرأسها عنفته بشدة على إهماله وموقفه المريب كمسؤول أثناء محاولة إثارة الفتنة الطائفية المذكورة وأبديت أسفي لعدم إحالته مع الآخرين متهماً بجناية التآمر. وكان المتآمرون يعتمدون على انشغال الجيش السوري في ميادين القتال ضد الصهاينة والمعتدين الآخرين مع ابتعاد احتياطي هذا الجيش إلى منطقة القدس كما خطط له. وقد خططوا لينطلق الجهد الرئيسي لقلب الحكم الوطني في دمشق من جبل العرب وأن يشترك فيه بعض عشائر البدو بقيادة الشيخ هايل السرور من أعراب المساعيد الذين يعيشون في هذه المنطقة. وقد أكد هذا الأمر تصريح حسن الأطرش لباتريك سيل في عام 1960 حيث قال: "في هذا الوقت بدأ الهجوم الإنجليزي الفرنسي على مصر وكنت أتميز غيظاً من توريطي في مثل هذه المؤامرة التي ظن فيها بعضهم أن باستطاعتي قهر الجيش السوري كله بتلك الأسلحة الضئيلة التي أرسلت لي".

-ثانياً: طرد حكومة النابلسي الوطنية في الأردن وإعادة النفوذ البريطاني الذي كان قد زال لصالح الأميركيين بطرد كلوب من قيادة الجيش هناك. فالملك حسين غضب بشدة عندما فشلت قيادة الجيش الأردني في إبعاد مجموعتنا إلى الضفة الغربية بناءً على رغبته وأوامره، وغضب بشكل خاص عندما تمركزت هذه المجموعة السورية على السفوح الجنوبية لجبل العرب، من إربد إلى الرمثة والمفرق، حيث ديار عرب المساعيد عشيرة الشيخ هايل سرور أحد المتآمرين الرئيسيين. وفي الواقع ماكان هذا التمركز للمجموعة السورية مقصوداً ضد ما كان يُدبَّر هناك من أمور حينذاك للإطاحة بالحكم الوطني السوري وتحطيم القوى الثورية في سورية، وإنما كان مجرد تدبير عسكري لوضع هذا الاحتياطي للجيش السوري في المكان الصحيح في تلك الظروف. وقلنا أن هذا المكان صدف واختير من قبل المتآمرين ليكون قاعدة انطلاق لحركتهم فأسقِط في يدهم عندما رأوا المجموعة تأخذ مواقعها حولهم وظنوا أن أمرهم قد كشف وأننا ماضون للوثوب عليهم ففر قادتهم وتفرق شملهم وأتاني بعضهم يكشف لي أخبار تآمرهم ومخابئ الأسلحة العراقية التي كانت تكدس للبدء بالحركة فحولتهم بدون تأخير إلى دمشق لاتخاذ الإجراءات اللازمة. وقد استمر الملك حسين في الابتعاد عن التحالف مع ثورتي سورية ومصر على الرغم من إخفاق المؤامرة البريطانية العراقية في سورية وهزيمة العدوان البريطاني الفرنسي، ففي شهر نيسان من عام 1957، أي بعد بضعة أشهر فقط من طرد كلوب وقيام حكم وطني في عمان، قام هذا الملك بانقلاب الزرقاء وطرد حكومة النابلسي التي تمثل الحكم الوطني المذكور وشرد الضباط الوطنيين الثوريين ونسق أموره مع الحكم العراقي وانتهى إلى إقامة وحدة مع هذا الحكم مباشرة في أعقاب قيام الوحدة السورية المصرية وعندما آن الأوان ضرب هذه الوحدة وهدمها وأخيراً وليس آخراً قام بذبح الفلسطينيين في أيلول الأسود والحبل على الجرار... ومع ذلك فهو ما يزال بشرع هذه الجامعة العربية حاكماً عربياً وإن كان على امتداد هذا الحبل!..$

-ثالثاً: الإطاحة بحكومة الثورة المصرية.

وكانت هزيمة ساحقة للمستعمرين البريطانيين ولنمط استعمارهم القديم بفشل هذه العملية المتعددة الأبعاد التي تمتد لتهدف الأقطار الثلاثة: مصر والأردن وسورية، ولم تقم بعدها للإنجليز قائمة في منطقتنا أوفي العالم، إلا في الفوكلاند، أراضي الفقمات، على حساب الأرجنتين.



$  كتب هذا الكتاب كما توفي مؤلفه قبل أن يتوج الملك حسين مسيرته السياسية بتوقيع اتفاقية الصلح مع الكيان الصهيوني في وادي عربة في 26/10/1994 مقتفياً بذلك أثر السادات؛ (ي.ب).