الفصل الرابع عشر

زوبعة في فنجان

 

قيادة الكفاح مدرسة لا فردية

 

بلغت الثورة العربية مفترق الطرق عند انهيار الاستعمار القديم في المشرق العربي بهزيمة عدوانه على مصر وانهيار آخر مؤامرة له على سورية. واتجهت في تلك الأيام أنظار العرب نحو الحركتين الوطنيتين الثوريتين في كل من سورية ومصر، كما تنبه العالم بشدة إلى ما يجري في المشرق العربي المذكور فمنه، وهو الجماهير المسحوقة بالعبودية الرأسمالية، من نظر إلى ما يجري هنا بعطف وتأييد، ومنه، وهم المستعمرون الأسياد الذين يقهرون الناس وينهبون ثرواتهم، من اشتد به القلق واستولى على نفسه الخوف على مصيره. فكان ممثلو الثوار العرب في الجزائر وعمان وعدن وكل مكان في الوطن العربي يترددون بثقة، كما يتردد صاحب البيت على بيته، على القاهرة ودمشق فيستقبلهم الناس فيهما استقبال الأهل للولد العائد من مشاغله فيستقصون أحواله ويلبون حاجاته ويخففون همومه. وكانت هذه المشاهد على بداهتها واستجابتها لطبيعة الأمور من الجديد غير المألوف قبل عقد ونيف من السنين عندما كان المستعمرون يشدون أطنابهم على أرضنا. فكان الثائر مثلاً في قطر من وطننا يسيطر عليه الفرنسيون عندما يلتجئ إلى قطر يسيطر عليه الإنجليز تنقسم نفسه فيحار بين إرضاء ضميره وبين توقي عدو آخر لايقل في أذاه عن ذلك الذي ينجو بنفسه منه إلى هذا الذي يلتجئ إليه. لقد كان لنا ذلك الشعور الفياض والنشوة العارمة بالاستيقاظ على صبح نجد أنفسنا فيما هو لنا حقاً وليس لأجنبي يملي علينا إرادته. كان الناس أهلاً بين أهلٍ مهما اختلفت أقطارهم وأشجانهم في وطننا الكبير. ولكن الأيام لا تثبت على حال ولدوام النعم يجب فهم أسبابها وتطوراتها لدفعها إلى الارتقاء وليس إلى الزوال، إلى الارتقاء إلى طور إنساني ثابت نسبياً وليس إلى مرحلة عابرة نقع في نهايتها في قهر جديد.

ما كان الاستعمار الأميركي مُعَرَّ فاً بشكل واضح يبين للناس في العالم القديم علاماته وأساليبه وأشكال أخطاره واستعباده للناس، فكانت صور الاستعمار القديم تغطي أوصافه عند الضحايا المستهدفين فيضيع هؤلاء بين تلك الصور وبين حقيقته غير المجلوة ببحوث كان من الواجب القيام بها من قبل القيادات السياسية التي قَصَّرتْ عن إنجاز هذا الأمر. ويأتي في مقدمة وسائله تسلله عبر المجتمعات الإنسانية وبناؤه علاقات وقواعد اقتصادية وسياسية وعسكرية في هذه المجتمعات وحولها تشكل في المجموع نظاماً عالمياً تسهر على حفظه مؤسسات مناسبة وحكومات عميلة وأساطيل حربية تجوب البحار وغيرها. وهو بنظامه العالمي هذا لا يحتاج إلى احتلال أراضي ضحاياه وإدارتها من قبله بشكل مباشر كما كان يفعل قدماء المستعمرين في مستعمراتهم، وإنما يقوم القابلون في كل بلد من بلاد العالم بالانخراط في نظامه المذكور بحكم بلادهم لحسابه. وكان هذا الاستعمار الأميركي الجديد قد جُرِّبَ في أميركا اللاتينية دهراً طويلاً قبل أن ينتقل إلى عالمنا القديم، وذلك تحت يافطة استقلال سياسي مزيف.

كان المستعمرون الجدد الأميركيون يتجهون في تسللهم نحو القوى الوطنية والحركات الثورية حيث يجندون الانتهازيين الطامعين ويدسون العملاء الخونة ويخدعون القادة بأوهام المشاركة بنظامهم والسعي العقيم في عبوديته لإحراز التقدم واللحاق بالسابقين مادياً قاهري الإنسان، ويحاولون بالتالي استيعاب تلك القوى والحركات وتوجيهها في الاتجاهات التي تخدم أغراضهم وسياساتهم العدوانية. فالسفير الأميركي في القاهرة مثلاً، السفير جيفرسون كافري، كعادة ممثلي الولايات المتحدة في كل بلد في العالم المتخلف، كان يرتاد الأوساط التقدمية والثورية ويجند فيها من يستطيع تجنيده ويخدع من يستطيع خداعه. وكانت عنايته تتركز في أوساط ضباط الثورة على الذين سبق اتصالهم بالنازية أثناء الحرب العالمية الثانية فجند فيهم السادات وغيره من الذين أسسوا له تياراً جعل همه الأول توجيه الثورة في اتجاه ساحات الصراع الداخلي وخاصة منه الصراع بين عقيدتي الرأسمالية والاشتراكية بدلاً من التركيز على حشد الطاقات المعنوية والمادية لرد الاستعمار الجديد الذي قلنا أن أخطاره ما كانت على كل حال قد انجلت بعد في تلك الأيام: اتجه هذا التيار في مسعاه إلى التنسيق مع المخابرات الأميركية وعملائها لإثارة الشكوك بين الحركات الوطنية القومية وبين الحركات الوطنية الاشتراكية لإلهاء هذه الحركات بعضها ببعضها الآخر بدلاً من تركيز جهودها على فضح المستعمرين الجدد الأميركان وتسللهم في الوطن العربي. وكان يساعدهم في هذه اللعبة أنهم كانوا يعملون على المساعدة في تكنيس الاستعمار القديم في المنطقة وفي العالم لصالح بناء استعمارهم الجديد. فكان فعلهم هذا يخدع أولئك الذين كانوا في الحركات الوطنية يبحثون عبثاً لأوطانهم عن مكان مناسب في النظام العالمي الجديد يتمكنون فيه من دفع هذه الأوطان لتتقدم مادياً وتلحق بالمستعمرين الأوروبيين والأميركان، يتمكنون فيه من تحقيق تلك الأوهام التي لا تتحقق ماداموا لا يعملون على الخروج والنجاة من نظام أولئك المستعمرين. فالعبودية بكل أشكالها، لاسيما منها شكلها الرأسمالي، هي نظام يتواجد فيه بالضرورة السيد والعبد في وحدة وتضاد فلا ينتفي أحد هذين النقيضين إلا وينتفي معه النقيض الآخر، أي في النتيجة إلا بنفي النظام من أساسه واستبداله بالنظام الأعلى. وهذا قانون لا مفر منه ولا محيص. وكان أن رأينا في فصل سابق من هذه الدراسة أن محاولة المتخلف لإدراك المتقدم في قفص العبودية الرأسمالية قد أوقعته في الديون للمتقدمين المرابين الذين غدوا بهذه العلاقة المالكين الحقيقيين لكل مابناه المتخلف في بلده من تقدم مادي فتصلهم عائدات هذا التقدم المزعوم بالإضافة إلى نسبة كبيرة من عوائد مجمل اقتصاد ذلك البلد بفوائد تلك الديون، تماماً كما جرى في التنميتين البولونية والبرازيلية وفي التنميات الأخرى المشابهة في العالم الثالث التي حصلت بالقروض المعقودة في الأسواق الرأسمالية الاحتكارية.

إن الظالم في كل زمان ومكان، في كل مجتمع وعند كل جماعة بشرية، هو إنسان مكروه منحط. ولكن الجلاد في يد هذا الظالم هو في درك أشد انحطاطاً من دركه. وعُدَّة الظلم في يد الجلاد هي كل ما يُرهب المستضعَف المظلوم ويقيد حريته من سوط وسلاح وسجن وقلم قذر وغيره. وكان ذلك التيار الذي تصدّر فيه أنور السادات يشكل أخطر مرض ابتليت به الحركة الوطنية العربية. فهذا التيار أخذ ببناء وثنيته منذ ذلك التاريخ لينتهي إلى ما نراه اليوم من فجور ولؤم في خدمة أسياد العبودية الرأسمالية الاحتكارية وفي النزول إلى درك مشاركة الجلادين الصهاينة في أهدافهم للعمل على النكاية بأمتنا وعلى تفتيت الحركة الوطنية العربية. فالساداتية، التي استفحلت وغدت الوسيلة الأولى في منطقتنا في يد الكيسنجرية الأميركية الصهيونية العالمية في السبعينات من هذا القرن، كانت تضطلع في الخمسينات بمناهضة ومحاربة الاشتراكية في وطننا العربي تحت ستار الدفاع الكاذب عن القيم القومية وخلف الحجج الوقحة لعبادة الفرد الوثنية$. وكأن أسيادهم قتلة ومبيدي الهنود الحمر عندما عمموا أفعالهم هذه على منطقتنا فأتوا بالصهاينة الخزر المتهودين ليقتلوا أهلنا ويبيدوهم من فلسطين قوامون على قيمنا القومية بغير الشكل الذي قاموا به على قيم أولئك البؤساء الهنود الحمر. إن حسني مبارك مثلاً نتاج السادتية بالأمس يقول اليوم، في مطلع نيسان عام 1990، بمناسبة تعاوي[i] الكونغرس الأميركي والكنيست الصهيوني حول جثث أطفالنا ونسائنا وشيوخنا وشبابنا في انتفاضتهم في فلسطين، عندما قرر الأول أن القدس جميعها عاصمة للصهاينة بينما قرر الخدم في الثاني أن القدس والجولان لهم ومن حق قطعان الخزر المتهودين الآتين من الاتحاد السوفياتي أن يقطنوهما، نقول أن هذا "المبارك" قال في هذه المناسبة الكئيبة أن قرار الكونغرس المذكور يخل بحياد أميركا!.. ولكن متى كانت هذه الدولة محايدة؟ أفي دفعها المليارات سنوياً بما يعادل أكثر من ضعف موازنة دولة كسورية لبناء وترميم هذه القاعدة العدوانية إسرائيل، أم في تغطية عدوانها الذي لاينقطع علينا بإحباطها الدائم لكل قرار يمس قرصنتها في المحافل الدولية، أم بالأسلحة التي تغدقها عليها لتكون قوتها نداً لقوى العرب مجتمعة، أم بإعلانها في كل مناسبة أنها حليفتها الستراتيجية أم..؟ فهذا "المبارك" يقبض سنوياً في هذه المرحلة من عذاب أمتنا الذي ينزله بنا هذا العدو الأميركي ملياراً أو ملياري دولار ليقول مثل هذا الكلام ويفعل بمقتضاه من أعمال خيانية. أما في الخمسينات من هذا القرن فقد كانت الساداتية (تحت غطاء محاربة الاستعمار القديم المتمثل بالإنجليز وبحجة عدم الانحياز بين المعسكرين في الوقت الذي نحن فيه منخرطين عملياً في النظام العالمي للمعسكر الذي تتزعمه أميركا) تحارب بلا هوادة مبدأ "الحياد الإيجابي" الذي تبنته الحركة الوطنية السورية حيث يوجد فيها أيضاً امتداد للساداتيين أيضاً. ولكن هؤلاء الأخيرين ما كانوا ليجرؤوا على الإعلان عن خطهم في خضم المواجهة الحامية مع ذلك العدو الأميركي في تلك الأيام.

في هذه الظروف التي نذكرها هنا والتي فصلناها فيما سبق من هذه الدراسة، كانت حركتنا الوطنية السورية، وفي مقدمتها امتدادها العسكري، تتجه بحزم نحو تحقيق الوحدة مع مصر، وذلك بقيادة تلك المدرسة الثورية القائمة حينذاك والعاملة بأسلوب جماعي بالاتصال الوثيق مع الجماهير وليس بالأساليب الفردية التي حاول المستعمرون والكتبة أتباعهم تزويرها كي يُخفوا في ظلالها تلك الجماعية الجماهيرية. وهنا علينا أن نوجه الانتباه مرة أخرى إلى المدرستين الثوريتين المصرية والسورية فلا تطغى عليهما أخبار الفرديات وأساطيرها السطحية التي يلفها الكذب والادعاءات الفارغة، علينا أن نجهد ما أمكن لإزالة ما تراكم من أكوام التخرصات على المدرستين المذكورتين ليظهر بجلاء دورهما في أحداث تلك المرحلة التاريخية التي مر بها المشرق العربي في الخمسينات من هذا القرن. فالمدرستان وجدتا وكان لهما إنجازاتهما التاريخية في المنطقة التي يأتي في مقدمتها جهاد المدرسة الثورية المصرية في سبيل تقويض الاستعمار البريطاني في المنطقة العربية وجهاد المدرسة الثورية السورية في سبيل تقويض الاستعمار بكل أشكاله وفي سبيل تحقيق الوحدة السورية المصرية، وذلك بالإضافة إلى المنجزات الاجتماعية الداخلية في القطرين المذكورين وعلى نطاق الوطن العربي. ومما لا ريب فيه أنه كان في كلٍ من هاتين المدرستين قيادات وطنية أدت مهماتها النضالية بكل تفان وإخلاص، وهذا أمر بديهي يتكرر في كل أحداث التاريخ ولا يمكن إنكاره وإن حاول العدو وأعوانه التصغير من قيمته وشأنه، كما لا يمكن تضخيمه ليغطي على كل شيء في المدرسة التي يعود إليها. فالمدرسة منظمة الجماعات وقائدتها وهي الأساس في تقدم المسيرة الوطنية فإذا زالت ضاعت جماعتها بالفوضى واستحال على الفرد الواحد كل إنجاز في هذه الجماعة مهما عظمت قدرته ومواهبه، وإذا استمرت استمرت معها إنجازات الأفراد كل واحد منهم بحسب موقعه فيها.

هزائم الأميركيين وعملائهم في سورية

تصاعدت في مطلع عام 1957 المقاومة الوطنية السورية للمستعمرين، وخاصة منهم الأميركيين بناة الاستعمار الجديد، وأخذ تطبيق مبدأ "الحياد الإيجابي" يعطي ثماره فتكاثفت المبادلات التجارية مع المعسكر الاشتراكي كما تعززت الجبهة الوطنية أكثر فأكثروظهرت بوادر تشكيل القيادة الموحدة لها. وقد جدت الأمور التالية التي زادت في غضب المستعمرين ورعب أعوانهم وخدمهم:

1.قام رئيس الوزراء صبري العسلي بطرد وزراء حزب الشعب من وزارته في آخر كانون الأول عام 1956 واستبدل بهم بوزراء من حزب البعث وبخالد العظم وذلك في إثر إحالة بعض زعماء حزب الشعب المذكور على القضاء بقضية المؤامرة الكبرى الإنجليزية العراقية على سورية التي أشرنا إليها فيما سبق. وتشكلت الوزارة على الشكل التالي: صبري العسلي لرئاسة الوزارة (الحزب الوطني)، صلاح البيطار للخارجية (حزب البعث)، خليل كلاس للاقتصاد (حزب البعث)، خالد العظم للدفاع (الجبهة الديموقراطية)، حامد الخوجة للزراعة (الجبهة الديموقراطية)، صالح عقيل وزير دولة (الجبهة الديموقراطية)، فاخر الكيالي للأشغال (الحزب الوطني)، أسعد هارون للصحة (الحزب الوطني)، هاني السباعي للتربية (مستقل).

2. صدرت الأحكام في قضية المؤامرة الكبرى الشهيرة في السابع والعشرين من شباط عام 1957 وكانت تتراوح بين الحكم بإعدام عدد من كبار المتآمرين مثل عدنان الأتاسي (وزير سابق ونائب)، وهايل سرور (شيخ عرب المساعيد ونائب)، وفضل الله جربوع (نائب)، وسامي كبارة (وزير سابق ونائب)، وغيرهم حكماً وجاهياً، ومثل حسن الأطرش (وزير سابق ونائب)، وأديب الشيشكلي وصلاح الشيشكلي، وميخائيل ليان (وزير سابق ونائب) حكماً غيابياً، والحكم بالأشغال الشاقة على آخرين مثل منير العجلاني (وزير سابق ونائب)، وغيره. وكان هذا الحكم في ظل الأحكام العرفية قطعياً غير خاضع للمراجعة أو النقض من أي هيئة قضائية أخرى وإنما يحق للحاكم العرفي أو نائبه أن ينقضه أو يدخل التعديلات التي يراها عليه أو يصدقه. وكان الحاكم العرفي حينذاك رئيس الجمهورية شكري القوتلي ونائبه وزير الدفاع خالد العظم.

وأتاني المرحوم جلال عقيل مدير العدلية العسكرية يزورني في بيتي في أوائل شهر آذار عام 1957 ليقول لي إن الرئيس القوتلي والوزير خالد العظم، اللذين كانا حينذاك في زيارة لمصر، منزعجان جداً من الحكم المذكور ويصعب عليهما العودة إلى دمشق حالياً لمواجهتكم (وكان يعني بهذا مواجهة العسكريين) خوفاً من وقوع أزمة عند إصراركم على تصديق الحكم كما هو بدون أي تعديل من قبل الحاكم العرفي أو نائبه. فأبديت دهشتي واستغرابي الشديد وأجبته بحزم: ماذا يظنون بنا؟ نحن قضاة ولسنا قتلة.. إنه ليس من مهام المحكمة التي قمت برآستها إلا رؤية القضية والحكم بها فقط، وقد قمنا بهذا الواجب. أما التصديق أو عدم التصديق على أحكامنا فهو من مسؤولية الحاكم العرفي أو نائبه. واستطردت قائلاً إننا يا أستاذ جلال عقيل قضاة نهتم أولاً بالوقائع والتطبيق القانوني ثم الأخذ بعين الاعتبار الظروف الاجتماعية وسلامة الوطن لجهة التشديد أو التخفيف في التطبيق القانوني. أما الحاكم العرفي فهو سياسي يهتم أولاً بالظروف الاجتماعية وسلامة الوطن ثم يأخذ بالاعتبار الوقائع والتطبيق القانوني عند إحالة الأحكام إليه ليصدقها أو يعدلها لجهة التخفيف أو التشديد. وليس لنا أبداً أن نعطل هذه الآلية التي توزع السلطات والمهام على مختلف الوظائف الدستورية لأننا لسنا فاشيين مغتصبي سلطات. إننا لنأسف أشد الأسف أن يُظن بنا عكس ما نحن عليه، أن يُظن أننا نسعى إلى انتزاع التصديق على أحكامنا. إن مهمتنا تقتصر على ساحة القضاء وتنتهي عند صدور الأحكام، فليقم الآخرون بأداء مهمتهم في ساحتهم. وفي النتيجة خُففت الأحكام من قبل الحاكم العرفي إلى الحبس العادي لمدد لاتتجاوز الخمس سنوات، ثم صدر العفو عن هذه الجرائم وأطلق سراح المحكومين بها جميعهم في غرة قيام الوحدة السورية المصرية بمسعىً حثيث بذله الدكتور عبد الوهاب حومد عضو حزب الشعب السابق ووزير عدل القطر الشمالي في دولة الوحدة.

3.عندما كانت أوروبا الرأسمالية قبل قيام وتمكن نظام الشركات المتعددة الجنسية العالمي وقبل إتمام بناء ما دمرته الحرب العالمية الثانية من بلادها تسعى إلى تجديد معاملها التي أكلتها القنابل وترمم اقتصادها المنهار تحت إشراف الولايات المتحدة الأميركية وبمساعداتها المقدمة تحت اسم "مارشال" كانت هذه الدولة الأخيرة المنهمكة حينذاك ببناء الاستعمار الجديد تعارض أشد المعارضة كل محاولة تهدف إلى إرساء صناعة ثقيلة في بلاد العالم الثالث، وخاصة منها بلادنا العربية: كانت تذهب في هذه السياسة إلى درجة السعي إلى إسقاط الحكم الذي يحاول حينذاك في ذلك العالم مخالفتها: كان العالم الثالث في تلك المرحلة بالنسبة إلى الرأسمالية الاحتكارية الأميركية عالم الاستهلاك وعالم المواد الأولية التي يجب بنظرها أن تـُحفَظ لصناعاتها في أميركا أولاًً ثم لأوروبا الناقهة من الحرب التي عانتها وكادت أن تذهب بحضارتها. أما اليوم، بعد قيام عصر الشركات المتعددة الجنسية فإن عالم الجنوب يبقى عالم الجوع والاستهلاك والمواد الأولية والمواد نصف المصنعة وعالم التفرعات المحيطية والثانوية لصناعات وبحوث واقتصاد عالم الشمال. لذلك كنا نرى المستعمرين في الخمسينات من هذا القرن يقفون بزعامة أميركا ضد مشاريع إقامة السدود العالية في العالم الثالث وبناء مصافي النفط أو معامل إنتاج الفولاذ أو ما شابه. وعارضوا بشتى الأشكال ومختلف الوسائل مثلاً مشروعي بناء سد الفرات ومصفاة النفط في حمص مدة طويلة فكانوا تارة يهددون وأخرى يتقدمون بعروض وهمية للحكومة السورية لعرقلة وتأخير عقد الاتفاقات اللازمة لتنفيذهما من قبل دول أوروبا الشرقية. وقد انفلت غضب وزير خارجية أميركا دلس وجنونه في ربيع عام 1957 عندما تم الاتفاق مع شركة تكنو إكسبورت التشيكية لبناء مصفاة النفط الآنفة الذكر في حمص، وعندما تقدمت الأبحاث والدراسات الأولية لبناء سد الفرات وتطوير شبكة الخطوط الحديدية السورية وتنفيذ مشارع اقتصادية أخرى هامة بمساعدة الاتحاد السوفياتي، في خضم الحماس العارم للجماهير السورية وبحمايتها. لقد زال نهائياً ذلك "السد المانع" الذي كان يفصل العرب عن الكتلة الشرقية بفتح ثغرة واسعة فيه عبر القطر السوري. ففي الرابع عشر من حزيران عام 1957 حذر دلس الكونغرس الأميركي بقوله: "أستطيع أن أوكد لكم أن الشيوعية الدولية سوف تخوض كل المخاطر للفوز بالشرق الأوسط". ويقول باتريك سيل في كتابه "الصراع على سورية": "هناك سبب آخر لاهتمام الغرب وقلقه، وهو مصير أصدقائه في سورية بعد أن انهارت المؤامرة العراقية في تشرين الثاني عام 1956، إذ بدا ذلك بمثابة تدمير للتوازن السياسي وفتح الطريق أمام الشيوعيين للاستيلاء على السلطة، كما عززت هذه المخاوف التقارير التي تشير إلى القوة المتزايدة والتمرد لدى قوى المقاومة الشعبية _وهي منظمة عسكرية مزودة بأسلحة صغيرة من الكتلة الشرقية_ والإشاعات عن وجود متطوعين سوفيات ينتظرون لحظة القفز للدفاع عن العرب المحاصرين، كما وتصريح الرئيس القوتلي بنفسه لدى عودته من الاتحاد السوفياتي في تشرين الثاني 1956 أن آلاف المسلمين السوفيات قد أعلنوا عن استعدادهم للمجيء إلى الشرق الأوسط لكي يخلصوا الأرض المقدسة من المعتدين والمستعمرين". انتهى قول باتريك سيل. وقد كنا أتينا في الحلقة السابقة على ذكر أقوالٍ للرئيس القوتلي يفند بها دعاوى المستعمرين واتهاماتهم للحركة الوطنية السورية في تلك الأيام. ومعروف جيداً أن الشيوعية كانت بنظر الأميركان وبقية المستعمرين هي كل اتجاه يعارض مخططاتهم العدوانية ويسير في طريق الحرية والتقدم الإنساني. فالعبوديون لا يخشون في الواقع إلا تحرر من يقهرونه من قهرهم. إنهم مثلاُ يسكتون اليوم عن الاشتراكية مؤقتاً ويأخذون بمحاربة حريات الإنسان تحت شعار التطرف والأصولية.

4. إن من يطالع مذكرات وأبحاث وكتابات عملاء المستعمرين وخاصة منهم موظفي ال (سي، آي، إيه) الأميركية يتملكه العجب من جهل هؤلاء الناس وضحالة تفكيرهم وانحطاطه (إلى جانب انحطاطهم الأخلاقي بطبيعة الحال). ولكننا نجد مع ذلك أن هؤلاء العملاء تمكنوا من إلحاق أكبر الأذى بحركة المقهورين وسوء فهمها لظروف العصر. إن ولبر كرين إيفلاند مسؤول المخابرات المركزية في الشرق الأوسط مثلاً وكاتب أخبار مؤامرات دولته أميركا تحت عنوان "حبال من رمل" ينبئنا بأخباره تلك عن اتصاله بمخائيل ليان وصديق له هو العقيد عمر قباني الذي كان يرأس زمرة ضئيلة من العسكريين لا يتجاوز عددها بضع الأفراد، وقد طرد هؤلاء من الجيش في النهاية في أعقاب مؤامرة كرمت روزفلت ومعاونه ستون التي سيأتي الحديث عنها فيما يلي من هذه الدراسة. ولا يختلف أفراد تلك الزمرة عن أولئك الأميركان الذين جندوهم بالجهل والتفاهة ليقوموا بمحاولات هدم استقلال بلدهم ويحطموا كفاحه من أجل الحرية فيفشلوا كعادتهم عندما كانوا دوماً فاشلين في خدمتهم العسكرية. وإذا كان ميخائيل ليان قد وصفهم لعميل الـ (سي، آي، إيه) كرين بأنهم كانوا من ذوي الرتب العالية في الجيش "ليصيد" دولاراته فإن رتبهم هذه، كما يحصل في كل الجيوش والبيروقراطيات، قد تكونت بتراكم الروتين وليس بالكفاءة. ولم يصدف أبداً على الرغم من قدمهم أن أثاروا الانتباه بأي منجز في كل ظروف خدمتهم إلا بسقوطهم في مَظنـَّة التآمر على سلامة وطنهم، المظنة التي تأكدت فيما بعد بكتابات عملاء العدو من أمثال كرين المذكور. وكرين هذا هو حفيد سَمِيِّهِ الذي أرسله الرئيس الأميركي ويلسون في أعقاب الحرب العالمية الأولى إلى المنطقة العربية الآسيوية على رأس لجنة للعمل على الدعاية للاستعمار الأميركي في الولايات العربية التي انفصلت عن السلطنة العثمانية لكي تطلب هذه الولايات الدخول في عبودية الانتداب الأميركي، ولكن المستعمرين القدماء، وخاصة منهم الإنجليز، ما كانوا حينذاك قد وصلوا إلى تلك الدرجة من الهوان التي بلغوها في أعقاب الحرب العالمية الثانية، فعملوا على إفشال مساعي تلك اللجنة واقتسموا غنائم تلك الحرب فيما بينهم بمنأى عن الأميركان الذين عادوا بعد هذه "الصفعة" إلى عزلتهم. ونقرأ في أخبار "حبال من رمل" المذكورة عن مساعي هذا الكرين الحفيد في ذات المنطقة التي جهد فيها جده لإيقاعها في حبائل استعمار بلده أميركا، فنراه يفتخر حيث لا موجب للفخر بعمله مثلاً على تهريب المال عبر الحدود السورية لرشوة ميخائيل ليان وعصابته الآنفة الذكر ليخون هؤلاء بلدهم فيصور العملية وكأنها خرط القتاد وكأن سورية العربية الكريمة المضيافة مفازة غيلان. ولكن ضامر الشر جبان بنياته السيئة التي تعكس في وهمه مثل تلك الغابة. ونجد في خلاصة الأمر أن عملاء المستعمرين ملأوا في العقود الأخيرة من هذا القرن عشرات ألوف الصفحات بأخبار دسائسهم ومؤامراتهم التي حاكوها ضد الشعوب المستضعفة وأمنها، الأعمال التي كلفت الإنسانية من الضحايا ما لا يقل بعدده عدد ضحايا الحروب العالمية المعروفة. ونجد هؤلاء يتبجحون بأعمالهم القذرة هذه التي لا تجلب لهم في الجوهر إلا العار لو كانوا حقاً من بني الإنسان.

5. ارتكب المرحوم المقدم أمين النفوري خطأ فادحاً في مطلع شهر آذار عام 1957 عندما انفرد مع اللواء نظام الدين بإجراء تشكيلات تعدلت بها الأركان العامة للجيش بحيث تم تعييني رئيساً للشعبة الأولى مكان المقدم النفوري الذي عين آمراً لسلاح المدرعات، وعين المقدم عبد الحميد السراج ملحقاً عسكرياً في بروكسل وحل مكانه المقدم أكرم الديري في رئاسة الشعبة الثانية. وقد كانت هذه التشكيلات من العبث المحض الذي ما كان بالإمكان أبداً أن يؤدي إلى نتيجة أمام تلك المدرسة الوطنية التقدمية التي قادت الجماهير العسكرية والتحمت ببقية الجبهة الوطنية للبلاد كامتداد عسكري لها. والشائع خطأ أن المرحوم الرئيس شكري القوتلي كان وراء تلك التشكيلات بينما في الواقع أن بعض العناصر الرجعية في الأركان العامة التي ما كانت بعيدة عن تأثير المخابرات الأميركية عبر مختلف القنوات التي من جملتها الساداتية في الثورة الوطنية المصرية هي التي حرضت على إجرائها مستفيدة من عدم "استلطاف" متقابل كان يقوم حينذاك بين النفوري والسراج. وكانت هذه الرجعية تهدف بهذا الأمر إلى إحداث انشقاق في الجيش وبلبلة في الجبهة الوطنية. فموقف القوتلي بعد الزيارة التي قام بها إلى موسكو في أيام العدوان على مصر كان واضحاً في مختلف تصرفاته وبياناته التي أشرنا إلى بعضها في هذه الدراسة. وكانت قد تمت في تلك الأيام بشكل حاسم أوضاع الاستقرار والتوازن الوطني السياسي بقيام حكومة الجبهة الوطنية برئاسة صبري العسلي واشتراك حزب البعث العربي الاشتراكي وخالد العظم والمستقلين الوطنيين الآخرين. والقوتلي أبعد الناس في تلك الأيام بعد قيام تلك الأوضاع عن التورط بمثل تلك المحاولة العقيمة التي ما كانت لتؤدي إلا إلى الانعكاس على إدارته لشؤون البلد فيما لو نجحت في زعزعة الاستقرار السياسي والاجتماعي. ثم إن الأحكام في قضية المؤامرة الكبرى كانت قد صدرت وأخذت مجراها القانوني الذي انتهى إلى تخفيفها كما ذكرنا أعلاه دون أي ضغط أو تدخل من قبل العسكريين في هذا الاتجاه أو ذاك. أما العلاقات مع المعسكر الشرقي التي أدت إلى التزود بالأسلحة منه وإلى الاستعانة بخبراته ومساعداته لتطوير اقتصاد البلد فقد كانت قد قطعت حينذاك شوطاً بعيداً في الاتجاه الإيجابي الذي كان يلاقي مساندة جماهيرية عارمة تجرف أمامها كل عقبة. وما كان بإمكان الرجعية المرتبطة بالمستعمرين بمثل تلك التشكيلات الآنفة الذكر في قيادة الجيش أن تحدث أي تغيير في هذا الواقع وإن أثارت بعض الغبار الذي عملنا على تبديده بسرعة. والنتيجة التي حصل عليها الرجعيون كانت أن نقلنا تشكيلتنا الوطنية الدفاعية إلى الشكل الأعلى على طريق كفاحنا من أجل بلوغ أهدافنا التي يأتي في مقدمتها تحقيق الوحدة السورية المصرية. ولا يُنقِص من القيمة التاريخية لتلك التشكيلة الوطنية السورية التي حققت تلك الوحدة أن انهارت هذه الوحدة بفعل المستعمرين وخدمهم وبحماقة القيادة التي لم تعرف صيانتها.

كان أول إجراء اتخذته عند صدور تلك التشكيلات هو أني أصدرت تعليماتي إلى المقدم عبد الحميد السراج بأن يثابر على عمله كرئيس للشعبة الثانية ريثما يتم إلغاء نقله منها. ثم إنني وجهت اللوم الشديد إلى المقدم أمين النفوري لتصرفه الفردي وذكرته بأن هناك قيادة للجبهة الوطنية العسكرية كان يجب الرجوع إليها قبل إقدامه على إصدار تلك التشكيلات. وذهبت بعد ذلك مباشرة لمقابلة رئيس الأركان العامة اللواء توفيق نظام الدين، بصفتي الجديدة كرئيس للشعبة الأولى المسؤولة عن الأفراد وتنقلاتهم في الجيش، ونبهته إلى أنه من الواجب وللمصلحة الوطنية تعديل التشكيلات الآنفة الذكر وجعلها على الشكل التالي: تعيين العقيد عفيف البزري رئيساً للشعبة الأولى، والمقدم عبد الحميد سراج رئيساً للشعبة الثانية، والمقدم أمين النفوري رئيساً للشعبة الثالثة. وتعيين الرئيس السابق للشعبة الثالثة العقيد رياض الكيلاني ملحقاً عسكرياُ في القاهرة، والمقدم أكرم الديري آمر شرطة الجيش قائداً للكلية العسكرية، والمقدم هشام العظم آمراً لشرطة الجيش. وقد تفهم اللواء نظام الدين الوضع ولم يبد أي معارضة لإصدار التشكيلات التي اقترحتها فوقعها وعممتها مباشرة دون أي تأخير.

لقد كان بالإمكان أن ينتهي الأمر بسرعة بالشكل الآنف الذكر وتعود الأمور إلى سيرها الرتيب المعتاد لو أن التنسيق بين قيادتي الجبهة الوطنية المدنية والعسكرية كان قائماً بالشكل الذي يمنع الفوضى والتصرف الفردي. فقد أتاني إلى مكتبي المرحوم خليل كلاس، وزير الاقتصاد والقائم بوزارة الخارجية لغياب الوزير الأصيل صلاح الدين البيطار بمهمة في أميركا، وأبلغني غضب قادة الجبهة الوطنية واحتجاجهم الشديد على إصدار تلك التشكيلات التي أجراها المقدم أمين النفوري بموافقة القائد العام اللواء نظام الدين، وأخبرني بأن وزير الدفاع خالد العظم قد لزم بيته بسببها وأنه سيستقيل وينسحب من الوزارة فيما لو نفذت. فأخبرته بدوري بأن الأمر لا يعدو كونه زوبعة في فنجان ولا يستحق كل هذه الأهمية فقد تم إيقاف التشكيلات المذكورة واستبدلت بأخرى أعادت الأحوال إلى شكل أفضل من السابق فأبعد عن الأركان العامة كل من يشتبه بإخلاصه للخط الوطني التقدمي. ونبهته إلى أننا في الواقع نعمل بين جماهير العسكريين كمدرسة بعيدة عن الفردية فلا يمكن أن يمر أمر مشبوه كذلك الذي وقع بخطأ عابر، وقد صحح آنياً وبالتالي لا محل لقلق المسؤولين في الحكومة عما يمكن أن يجري في القطاع العسكري.

وأتاني السراج بعد انتهاء اجتماعي بالوزير الكلاس ونقل إلي الأمور الثلاث التالية:

-  استنفار للقطعات العسكرية في قطنا وفي الجبهة وكل المواقع الأخرى لإحباط ما ظـُنَّ بأن هناك مؤامرة بُدِئَ بتنفيذها بالتشكيلات التي كنت عملت على إلغائها واستبدالها بالأخرى المذكورة أعلاه والتي لم يصل بعد خبر إلغائها إلى القطعات.

-    دعوة لاجتماع عاجل لقادة الجيش في بيت وزير الدفاع خالد العظم.

-  اجتماع قام في ذلك الوقت في بيت المقدم أحمد حنيدي، الذي كان حينذاك قد فقد السيطرة على لواء المدرعات المسندة قيادته إليه، وكان في هذا الاجتماع المقدم أمين النفوري والعقيد رياض الكيلاني وعدد من الضباط، خمسة أو ستة ضباط، من الزمرة التي كانت فيما مضى تسند حكم الديكتاتور السابق أديب الشيشكلي، ثم حصلت على العفو وأعيدت إلى صفوف الجيش بعد سقوط الديكتاتور المذكور. وكان لهذه الزمرة اتصالات سرية بقيادة الثورة المصرية بواسطة أحد أفرادها، وكنا على علم بهذا الاتصال ولكننا كنا نغضي عنه (لاعتقادنا بعدم ضرره مادام مع ثورة عربية تناهض المستعمرين وأن كنا نفضل أن يكون أخوتنا المصريون أكثر صراحة معنا).

إن تلك الصورة الكاذبة، التي زورتها المخيلات في الأوساط العدوة وخدمها، اتخذها مزوروها المستعمرون والوثنيون حارقو البخور في محاريب الفردية المتألهة وخدم الطغيان العبودي وغيرهم، مادة لكتاباتهم التي أوهموا بها أن الأحوال في ذلك الوقت في سورية توحي بأن هذا القطر المجاهد كان يسير نحو الهاوية بسبب الخلافات القائمة فيه. وكانت الادعاءات الفردية الفارغة وماتزال تصب في هذا السياق الكاذب عندما تنسب لنفسها مع التضخيم والمبالغة شرف هذا الإنجاز أو ذاك. ولكن الواقع كان عكس هذه الصورة تماماً فتلهب صحة وعافية قطرنا السوري الثائر مشاعر جماهير المنطقة الحماسية ضد المستعمرين وأذنابهم وتثير إعجاب كل الأحرار في العالم حتى أطلقو على هذا القطر اسم "جزيرة الحرية الخضراء" الذي ردده نهرو لشكري القوتلي، وقد مر معنا هذا في الفصل السابق. كانت صحة وعافية سورية تدفع المنطقة نحو الحدث العظيم الذي هو أول وحدة عربية انتظرتها أمتنا منذ عهد صلاح الدين والمنطلق الأساسي لكل هدف حيوي تصبو إليه هذه الأمة. فالجماهير السورية بكل فئاتها كانت في تلك الظروف كلها مستنفرة تترصد زمر المتآمرين التافهة وتحاصرهم وتشل حركتهم: كان العسكريون المدعوون للاجتماع في بيت وزير الدفاع مع من كان في بيت أحمد حنيدي من جماعة الشيشكلي لايتجاوزون العشرين فرداً في الوقت الذي يبلغ فيه عدد المستنفرين في وحدات الجيش لقطع الطريق على كل متآمر عشرات الألوف. لقد كنا نسير في سهل فسيح رحب لا تقطـِّعه "الهاويات" نحو الانتصارات العظيمة التي حققناها حينذاك ضد عتاة المستعمرين وعلى رأسهم الأميركان. لذلك قررت في تلك اللحظة التي حمل إلي فيها السراج تلك الصورة عن الوضع العسكري أن أبدأ بالذهاب إلى بيت المقدم أحمد حنيدي في عرنوس حيث كانت تلك الزمرة مجتمعة تتناقش حول الوضع المذكور. وكان برفقتي عبد الحميد السراج. وبوصولي إلى ذلك البيت رأيت العقيد الكيلاني يحرض من كان حوله على مقاومة الاستنفار، أي مقاومة الجيش بكليته مع الشعب السوري. فأسكته وطلبت منه أن يذهب فوراً إلى بيته ويقوم بإعداد حقائبه للسفر إلى مصر تنفيذاً لأمر القيادة بتعيينه ملحقاً عسكرياً هناك وهددته بسوء العاقبة إن لم يفعل ذلك. ثم أخذت النفوري جانباً وأنبته للمرة الثانية على انصياعه لهذه الزمرة وطلبت منه أن يذهب إلى اجتماع قادة الجيش في دار وزير الدفاع خالد العظم وأن ينتظرني هناك. وقد انفرط عقد ذلك الاجتماع عند تركي له متوجهاً إلى قطنا وبرفقتي المقدم السراج، حيث استقبلني العسكريون المستنفرون هناك بترحاب كبير. وأبلغت قيادة الثائرين في قيادة المعسكرات بما تم من أمور في الأركان العامة، وأن تلك التشكيلات التي أثارت الغبار قد ألغيت واتخذت إجراءات أخرى عززت المقاومة الوطنية التي كانت تتصاعد وتشتت شمل المتآمرين. ثم طلبت من المقدمين مصطفى حمدون وعبد الغني قنوت مرافقتي إلى اجتماع قادة الجيش في دار خالد العظم لتحويل تلك المظاهرة الرجعية إلى مظاهرة وطنية. وذهبنا جميعاً: العقيد عفيف البزري والمقدمون سراج وحمدون وقنوت، إلى الدار المذكورة.

عندما دخلنا قاعة الاجتماع، أنا ورفاقي المقدمون الآنفو الذكر، وجدنا العقيد عمر قباني وزمرته الواردة أخبارهم أعلاه يتصدرون الحضور. وكان ذلك بطبيعة الحال بدعوة من اليمين الوطني السائر في تيار الجبهة الوطنية، من أوساط خالد العظم بالذات. فهذا اليمين كان مايزال بعيداً عن أن يسلم للوطنيين التقدميين فيدخل معهم في جبهة واحدة دون أن يحاول صنع امتداد له بين العسكريين. ولكن اختيارهم للقباني وزمرته من العسكريين الذين وردت أخبار علاقاتهم بعملاء الـ (الس، آي، إيه) بكتابات هؤلاء العملاء، ومنهم كرين كاتب "حبال من رمل" الآنف الذكر، كان يدل على عمائهم وجهلهم وسوء تقديرهم للأحوال في الجيش. وقد ظهر لي جلياً في تلك اللحظة أن ذلك اليمين المدني الذي كان قادته حاضرين في القاعة، من صبري العسلي وخالد العظم حتى مأمون الكزبري، دعا القباني وزمرته ليوازنونا بهم ويوجهوا بالتالي المناقشة في أمور الجيش الجارية حينذاك الوجهة التي يرغبونها. أما أنا فكنت أرى أن هناك قيادة للجيش تتمثل بالأركان العامة القائمة ولا مجال لأي مناقشة سوى إبلاغ المسؤولين المدنيين أن كل شيء يجري على ما يرام وأن الجيش بجماهيره العسكرية يقف كتلة واحدة للدفاع عن حرية البلد ولإحباط كل مؤامرة يمكن أن يدبرها المستعمرون وعملاؤهم. لذلك تقدمت قبل تحيتي للحضور نحو القباني وزمرته وعنفتهم بشدة لعدم انضباطهم وحضورهم دون توجيه الدعوة لهم من قبل الأركان العامة وأمرتهم بمغادرة المكان حالاً والتزام بيوتهم كموقوفين ريثما يبت بأمرهم. فتملكهم الرعب وغادروا المكان فوراً. وتوجهت بعد ذلك نحو صديقيّ البعث، مصطفى حمدون وعبد الغني قنوت، ونحو النفوري والسراج وقلت لهم بحضور قادة الجبهة الوطنية المنذهلين من المنظر، بحضور صبري العسلي وخالد العظم ومأمون الكزبري وأكرم الحوراني وخليل كلاس وخالد بكداش وغيرهم ممن امتلأت بهم القاعة، وحضور رئيس الأركان العامة اللواء توفيق نظام الدين ومعاونه اللواء عزيز عبد الكريم: إن عليكم أيها الرفاق أن تبينوا لمسؤولينا الحاضرين هنا أنكم كتلة واحدة في وجه المستعمرين وأعوانهم ومؤامراتهم وأن تقسموا على ذلك ليتأكد الحضور من ذلك وليشيع هذا الأمر وينتشر في بلدنا فييأس المخربون وتسقط محاولاتهم في تفريق صفنا. ثم إن رفاق السلاح الأربعة هؤلاء تقدموا وشبكوا أيديهم بعضها ببعض ورددوا بعدي نص القسم الذي لقنتهم إياه أمام ذلك الحفل وتعانقوا. وبعد ذلك تقدمت من رئيس الوزراء صبري العسلي وقلت له: يا دولة الرئيس هذا هو الجيش قد شاهدتم حقيقته ساطعة فلا تصدقوا بعد اليوم ما ينقل إليكم من صور تخالف ما شاهدتموه هنا. وانفض الاجتماع عند هذا الحد.

لقد كان نصراً ساحقاً حققته جماهير العسكريين بوقوفها بحزم ضد المتآمرين العملاء الذين أرادوا استغلال بعض "المناحرات" الفردية التي ما كان لها علاقة قط بالاتجاه الوطني الذي تتوجه فيه أمتنا ليقوموا بدسيستهم تلك علها تصل إلى تشتيت ذلك الصف الوطني الجماهيري فارتدوا خاسرين. وكان مثلهم الذي كنت كثيراً ما أضربه لهم لتبكيتهم والسخرية منهم في تلك الأيام المجيدة التي طالما خرجوا فيها خاسرين أمام صمود صفنا الوطني كـ "مَـثل النعامة ذهبت لتأتي بقرنين فرجعت بلا أذنين". ثم إنني قلت أعلاه إن المستعمرين كانوا في تلك الأيام يعتمدون على تلك القلة الانتهازية العميلة التي ما كان عددها مثلاً في الاجتماعين الآنفي الذكر: في اجتماع دار خالد العظم واجتماع بيت الحنيدي، يتجاوز بضع الأفراد، في مقابل عشرات ألوف العسكريين الذين كانوا في تلك الساعات المجيدة يقفون متراصين كرجل واحد شاكي السلاح للضرب على كل يد تمتد لتنال من حرية الناس وتمس الحياة الديموقراطية التي كانوا ينعمون بها.$ وكان يقف إلى جانبهم أيضاً المقاومون الشعبيون بمئات الألوف في مختلف أنحاء قطرنا السوري ومن ورائهم ملايين الجماهير يدعمونهم ويشدون أزرهم. وما كان هذا سوى مسيرة وطنية رائعة كانت تسيرها أمتنا في أيام الانتصارات الكبرى على المستعمرين. فقبل هذا اليوم المجيد بحوالي أسبوعين فقط كانت قد صدرت الأحكام الرادعة في قضية المؤامرة الكبرى المشار إليها أعلاه في سياق هذه الدراسة، وقبل ذلك انتشى شعبنا بالنصر الكبير على المستعمرين المعتدين على مصر التي أممت القناة، وبعد أقل من سنة تحقق حلم عربي كبير هو الوحدة السورية المصرية. ولكن المستعمرين وأعوانهم الوثنيين كهنةالمعابد الفردية رموا في الظل زخم الجماهير وسيطرة القوى الوطنية على الساحة بشكل مطلق في الوقت الذي سلطوا فيه الأضواء على هذه المناحرة أوتلك المناقرة بين هذين الفردين أو تلك الجماعتين الصغيرتين، وهذه أمور طبيعية جداً في كل الجماعات الإنسانية التي تخوض الجهاد المرير حيث تبلغ الحساسية ذروتها، وبالغوا في الوصف حتى جعلوا من تلك الخلافات الجانبية شروخاً خطيرة في صفوف الجماهير التي كانت تنعم حينذاك بأعياد انتصاراتها المجيدة على المستعمرين وأعوانهم. لقد قالوا مثلاً، وهم يكذبون على الله والناس وأنفسهم أننا ذهبنا نحن الضباط السوريون إلى عبد الناصر وطلبنا منه تحقيق ذلك الهدف القومي الكبير لإنقاذ أنفسنا من خلافاتنا فيما بين بعضنا بعضاً!.. وإنني أترفع عن الرد وتفنيد شتائمهم وغمزاتهم الموجهة إلى شخصي فسيرتي في حياتي ترد عليهم وقد شرفني الله بكره المستعمرين الذين لا يمكنهم على كل حال إخفاء ما أنزلته بهم وبخدمهم الصهاينة وأشباه العرب بعونه تعالى وعون جماهير شعبنا السوري من هزائم وخيبات.

واتصلت بوزير الدفاع بعد تصفية ذيول تلك الأزمة واقترحت قيام قيادة عليا للجبهة الوطنية المدنية العسكرية مهمتها النظر في كل أمر طارئ والتنسيق فيما بين مختلف الأطراف الوطنية واتخاذ القرار المناسب في كل حالة. وقامت هذه القيادة في النتيجة وكانت تجتمع دورياً مساء يوم كل خميس من الأسبوع وعند الحاجة أيضاً في دار وزير الدفاع خالد العظم أو في دار رئيس الوزراء صبري العسلي. وضمت القيادة المذكورة كلاً من: صبري العسلي (عن الحزب الوطني)، خالد العظم (عن الجبهة الديموقراطية)، أكرم الحوراني وصلاح البيطار (عن حزب البعث)، مأمون الكزبري (عن المستقلين)، خالد بكداش (عن الشيوعيين)، عفيف البزري (عن العسكريين). وكانت القرارات تصدر بالاتفاق وتقوم بتنفيذها الجهة المختصة.



$  يشير عفيف البزري هنا إلى ديكتاتورية جمال عبد الناصر التي أدت إلى ترعرع التيار الساداتي واستفحاله ضمن الحركة الوطنية الناصرية؛ (ي.ب).

[i]  من العواء، نسبة للذئاب عندما تفترس ضحاياها؛ (ي.ب).

$  المقصود هنا العسكريون المتآمرون الذين سبق الحديث عنهم والذين حضروا الاجتماعين المذكورين في بيت الحنيدي وفي دار خالد العظم وكانوا يهدفون من مؤامراتهم إلى تقويض الحياة الديمقراطية التي نعمت بها سوريا حينذاك. وتمت مقارنة أعدادهم القليلة في الجيش السوري بعشرات ألوف العسكريين الذين كانوا يساندون الديمقراطية ويقفون ضد الانقلابات العسكرية؛ (ي.ب).