الفصل الخامس عشر

وحدة المستعمرين وخدمهم

 

انقلاب الزرقاء

 

أشرنا فيما سبق من هذه  الدراسة إلى أن الولايات المتحدة  الأميركية، بعد أن  دفعت  قدماء  المستعمرين الإنجليز والفرنسيين إلى تشديد عدوانيتهم على أمتنا ثم توريط هؤلاء في شن الحرب على الشعب الجزائري الذي حمل السلاح وثار على اغتصابهم أرض الوطن وتوريط هؤلاء وأولئك في شن الحرب على الشعب المصري  الذي  أمم  قناة  السويس، وبعد أن هزموا جميعاً في حربيهم المذكورتين، أرسل رئيسها أيزنهاور كتابه الشهير الى الكونغرس الأميركي في مطلع ربيع عام 1957 يدعي فيه ان "فراغاً" قام في المنطقة العربية المشرقية  بخروج أولئك المستعمرين القدماء منها مهزومين، الخروج الذي ساعدت على تهيئة  ظروفه طويلاً هذه الدولة لتتمكن في النتيجة من الادعاء بحدوث ذلك الفراغ المزعوم وبالتالي لتتمكن من ملء هذا الفراغ بإحلال استعمارها الجديد مكان استعمار أولئك القدماء. وقد أعلن أيزنهاور بكتابه الآنف الذكر مبدأه بحق تدخل دولته في شؤون المنطقة للمحافظة على مصالح دولته فيها، الاقتصادية والسياسية والعسكرية، ولحماية دولها من الخطر الشيوعي العالمي والمحلي، تحت عنوان: "ملء الفراغ". وردت الحكومة الوطنية السورية مباشرة على هذا المبدأ في العاشر من كانون الثاني عام 1957 برفض دعوى وجود أي فراغ في المنطَقة، بعد خروج المستعمرين الأغراب منها، وبرد الادعاء الاميركي بان من حق تلك  الدولة  التدخل لحماية دول المنطقة من الشيوعية. وأكد البيان السوري أن الخطر الوحيد الذي تتعرض له المنطقة هو خطر الاستعمار وخادمته الصهيونية. وما كانت في الواقع الرأسمالية الاحتكارية الأميركية بحاجة الى البيان السوري المذكور لتتأكد من أن الخطر الوحيد الذي يهدد تسللها الاستعماري في المنطقة هو الحركة الوطنية العربية وليس الشيوعية كما ادعت كذباً. أما تلك الضجة المفتعلة التي أثارتها حينذاك فكانت في الواقع مجرد عواء الوحش الذي يسبق انقضاضه على فريسته. ففي الثاني عشر من آذار عام 1957 أرسل أيزنهاور مستشاره الخاص لشؤون الشرق الأوسط جيمس ريتشاردز، كي يقوم بجولةعلى دوله، وهو يحمل حقيبة تنتفخ بمائتي مليون دولار لتوزع هنا وهناك  في هذه المنطقة بقصد بناء "الأساس المادي للحضور الأميركي فيها"، الحضور الذي سيخلف "الحضور الإنجليزي" الغارب، الذي "سيؤمرك" الاستعمار فيها. فحلف بغداد مثلاً انقلب أميركياً بانضمام الولايات المتحدة إليه كعضو كامل العضوية في الثالث والعشرين من آذار عام 1957 أي أثناء جولة هذا الجيمس ريتشاردز في المنطقة. وقد سبق وبينا في هذه الدراسة أن حلف  بغداد أقيم من قبل الإنجليز لسد الطريق على تسلل الأميركان في منطقة الشرق الأوسط فها هو ذا يصبح بدولارات أميركا أداة بيد هذا الاستعمار الوافد. وقد خنعت إنجلترة بذاتها مع اتباعها وخدمها في العالم لهذا الاستعمار الجديد الذي تزعّم  الرجعية  العالمية. أما فرنسا فكانت، بانتظار الجنرال ديغول، تتخبط في أمورها بما تعانيه من ثقل كفاح الجزائر وكفاح الجماهير الأخرى في مختلف أنحاء إمبراطوريتها الاستعمارية.

وكانت نتيجة جولة جيمس ريتشاردز المذكور في المنطقة أن عجل الملك حسين بانقلابه الذي قام به في الزرقاء في مطلع شهر نيسان عام 1957، فقبض على الضباط الوطنيين وسجن من سجن منهم ونفى من نفى وهرب من هرب من  قبضته والتجأ إلينا. وطرد حكومة النابلسي الوطنية في ذات الوقت وأعلن انسحابه من الحلف العربي الرباعي الذي ضم كلاً من مصر وسورية والأردن والسعودية قبل أشهر فقط من هذا  التاريخ. وقد بينا في حلقة سابقة أن هذا الملك كان في الواقع قد ارتد فوصل ماانقطع بينه وبين الإنجليز بطرد كلوب من قيادة جيشه باشتراكه في تدبير المؤامرة الكبرى مع الإنجليز ومدرسة نوري السعيد  للإطاحة بالحكم الوطني في سورية أثناء العدوان الثلاثي على مصر ثم فشلت هذه المؤامرة فشلاً مخزياً، وقد مرّ معنا تفصيل هذا الأمر في مناسبة سابقة. أما بعد أن خنعت بريطانيا وخدمها في العالم لزعامة أميركا العالمية للاستعمار وبعد الجولة المذكورة لجيمس ريتشاردز في منطقتنا فإنه، أي الملك حسين، قد ا ستظل بالخيمة الأميركية ولكن بغير الوجه الذي تظاهر به بالوطنية عند طرد كلوب من قيادة الجيش. ففي هذه المرة أعلن عن قبوله دولارات ريتشاردز المذكور كي  تحلّ هذه الدولارات محلّ المعونة العربية من سورية ومصر التي ألغاها هو من طرفه والتي كانت تعوضه عن المعونة البريطانية التي انقطعت عنه إثر طرد كلوب. وأيدت السعودية الملك حسين في انقلاب الزرقاء في الوقت  الذي ذهب فيه  الملك سعود بزيارة رسمية إلى الولايات المتحدة الأميركية حيث أعلن وهو في طريق عودته الى بلده عند انتهاء هذه  الزيارة  عن استحسانه وقبوله لمبدأ  أيزنهاور. وفي هذه الأثناء جاء الشيخ يوسف ياسين وزير خارجية السعودية والقائم بوزارة الدفاع أيضا بزيارة خاصة إلى سورية. وأخذ يتصل بالمعارضة ويوزع المال يمنة ويسرة ويحرض على الحكم الوطني على أمل أن يحصل في دمشق مايشبه الذي كان قد جرى في الزرقاء. وفي ذات الوقت تحرك لواء سعودي كان يعسكر في منطقة العقبة  في أقصى جنوب الأردن ليعسكر بجانب الفرقة السورية في منطقة المفرق في أقصى شمال الأردن على الحدود السورية من   الجبهة الأردنية. وكانت جميع القوات، السورية والسعودية، قد دخلت الأردن لدعم جبهته تجاه اسرائيل عند بدء العدوان الثلاثي  على مصر وبقيت هناك ولما تنسحب بعد وتعود الى بلادها حينذاك. وأتينا على خبر هذا الأمر فيما سبق من هذه الدراسة. ثم إن يوسف ياسين جاءنا واجتمع بضباط هيئة الأركان العامة لبحث المشكلة الناجمة عن انتقال القوات السعودية من أقصى جنوب الأردن إلى أقصى شماله لتعسكر بجوار الفرقة السورية دون أي سبب معقول سوى محاولة استفزازنا وتقييد حركتنا عند حدوث طارئ مدبر. وتمكنا من دفعه إلى تسجيل عدد من طلباته التحريضية الخيانية على محضر تلك اللقاءات بيننا وبينه، المحضر الذي كان يكتبه بخط يده تطوعاً والذي سحبته منه أنا ووضعته في جيبي في نهاية المحادثات لاطلاع الرئيس شكري القوتلي والرئيس عبد الناصر على الموقف الحقيقي للحكومة السعودية في تلك الأيام. وقد قلت له عندما كنت أضع ذلك المحضر في جيبي بعد أن استوثقت منه بأنه كمسلم يؤمن باليوم الآخر: أن الله سيذيب الذهب الذي طالما بذلته حكومته الرجعية لخدمة أغراض أعداء الإسلام المستعمرين والصهاينة في حلقه  وحلق ملكه  يوم القيامة. ثم طلبت منه مغادرة سورية في الحال أو أنه سيكون عرضة للتوقيف بسبب نشاطه التآمري غير الخافي علينا فهو من أصل سوري ولايحميه مركزه في السعودية. وكان من أبرز ماسجل بخط يده على المحضر المذكور الأمور التالية:

- إلغاء استعمال الأسلحة السوفياتية واستبدالها بأسلحة أميركية تتعهد السعودية بالتوسط لدى أميركا للحصول عليها. ولايعني هذا سوى القضاء على المقاومة المسلحة، العسكرية والشعبية، للقطر السوري لأمد طويل.

- تأييد انقلاب الزرقاء ومساندة الملك حسين ضد الحركةالوطنية الأردنية.

 - الانضمام إلى حلف بغداد الذي كانت السعودية تشجبه عندما كان إنجليزيا هاشمياً ثم أصبح بنظرها حلفاً إسلامياً جديراً بالتأييد بعد انضمام أميركا إليه.

 وغادر  يوسف ياسين سورية مباشرة بعد إنذاري له. وعندما وصل إلى السعودية ومثل أمام الملك سعود قام هذا  بضربه بيديه ورجليه ليشفي غليله منه بعد أن سبب له تلك الفضيحة بوقوعه في فخنا وكشف أوراق دولته بتحرير ذلك المحضر بخط يده. ثم إنه لم يعش طويلاً بعد هذا الحادث الذي أدى إلى طرده من وظائفه فمات في الاسكندرية بعد ستة اشهر.

إن الحلف الرباعي، حلف سورية ومصر والسعودية والأردن، نشأ في الواقع أثناء المقاومة الوطنية في المنطقة  لللاستعمار القديم، وخلال الصراع بين هذا الاستعمار وبين الآخر الأميركي الجديد. وهو، أي الحلف الرباعي المذكور، يجسد تسلل الاستعمار الجديد في الحركة الوطنية العربية للاستعانة بها لتقويض الاستعمار القديم ثم إجهاضها. ونرى بالفعل أن هذا الحلف ظل متماسكاً في كل المراحل التي كان الإنجليز يتآمرون فيها على الحكم الوطني في سورية، انطلاقا من العراق المحكوم بمدرسة نوري السعيد، ويماطلون في الجلاء عن مصر ويسعون إلى إقامة الأحلاف التي تسند  استعمارهم  في  المنطقة كحلف بغداد مثلاً، أي باختصار ظل متماسكاً مادام الحضور الإنجليزي الاستعماري قائماً في المنطقة. وعندما انهار  هذا الاستعمار القديم في أعقاب العدوان الثلاثي وأعلن رئيس الولايات المتحدة الأميركية أن فراغاً حدث بهذا الانهيار في  منطقة الثروات الأسطورية وجدنا أن هذا الحلف يتزعزع اولاً ثم ينهار بانقلاب الزرقاء المذكور: أثناء المساعي المحمومة  للحكومة البريطانية لترميم نفوذها الاستعماري في المنطقة وتوطيده أرسلت الجنرال السير جيرالد تمبلر رئيس هيئة الأركان الإنجليزية إلى الأردن في كانون الأول عام 1955 ليعمل على تهيئة هذا القطر العربي للانضمام إلى حلف بغداد. ولكن  المظاهرات العارمة التي واجهها مع مقاومة الضباط الوطنيين في الجيش الأردني ردته خائباً. وكانت النتيجة أن قام الملك  تحت ضغط الحركة الوطنية وتشجيع الأميركان بطرد كلوب وتعريب الجيش في آذار عام 1956. وقد  تعهدت  حينذاك كل من سورية ومصر والسعودية بتعويض المعونة المالية التي كان  يتقاضاها الأردن من الإنجليز لينفقها على احتياجات جيشه.    وعند انهيار الاستعمار البريطاني في المنطقة أصبحت الحركة  الوطنية العربية، وخاصة في سورية، في مواجهة مباشرة مع الأميركان، الأمر الذي فرز أنصار الأميركان عنها فرأينا انقلاب الزرقاء يحدث بتأييد كبير من السعودية وبتأييد ضمني من قبل الساداتيين. ثم إن زعماء حزب الشعب في سورية الذين طالما أيدوا هاشميي العراق ومن ورائهم أسيادهم القدامى الإنجليز انصرفوا عن هذا الخط للتحالف مع الساداتيين في الثورة المصرية فكانوا يحرضون ويتعاونون مع هذا التيار ضد الوطنيين التقدميين في سورية ومصر.

غدونا إذن هنا في المنطقة في ربيع عام 1957 كحركة وطنية  تحررية وجهاً لوجه أمام الاستعمار الجديد المتمثل بالولايات المتحدة وقاعدتها إسرائيل وخدمها العرب وغير العرب من المسلمين ومن فلول الأجراء القدامى للإنجليز. وكان بالإمكان أن نقبر الاستعمار الجديد في رمال شواطئنا كما قبر صلاح الدين قطعان صهاينة البابوية في رمال عكا لو أن القيادة الوطنية انتبهت جيداً إلى حقيقة هذا الاستعمار الجديد وصممت على التصدي له  قبل  أن  يتجذر  في أرضنا، فالظروف كلها  كانت مؤاتية لتحقيق نصر مؤزر للحركة الوطنية العربية. إنه ماكان للاستعمار سوى تلك الرجعيات والانتهازيات التي سحقتها جماهيرنا في كل الجولات التي خاضتها ضدها في تلك الأيام. ولكن تلك القيادات الوطنية ظنت أن المعركة مع الاستعمار قد  انتهت بانهيار القديم منه، وكأن الاستعمار بحسب هذا الظن يقتصر فقط على جيوش الاحتلال والمفوضين السامين وحكام  المستعمرات القدامى وليس نظامه العالمي الذي يقهر الضعفاء بألف وسيلة ووسيلة تجعل مثلاً بعض أهل البلد المستضعف يحتل بلده لحساب سادة هذا النظام. أما الوجه الإيجابي الواعي في الحركة الوطنية السورية فقد التزم بشكل عام بخط مدرسته وقواعدها في مكافحة الأميركيين وقطع دابر مؤامراتهم وسار بخطى ثابتة نحو الوحدة مع مصر كهدف أساسي لابد منه حتى مع ما آلت إليه هذه المسيرة من فشل. فالذي سبب هذا الفشل هم أولئك الذين هدموا تلك المدرسة  بحماقتهم وظنهم الكاذب بأنهم سجلوا النصر الحاسم على الاستعمار، وهم في الواقع مافعلوا أكثر من محاربة القديم وتكنيس أنقاضه لحساب الجديد وليس لحساب التحرر الوطني الحاسم.$

 القيادة الوطنية تتعثر بقوتها

 

بعد ان توحد المستعمرون في ربيع عام 1957 في النظام الاستعماري الجديد بزعامة الولايات المتحدة الاميركية ووقفوا كتلة واحدة في وجه الحركة الوطنية العربية التي جاءت حينذاك المقاومة السورية في مقدمتها، وبعد ان توحد كل خدمهم ومحبي نظامهم في المنطقة بعد ان اختلفوا طويلا بين انجليز واميركان، اصبح من الضروري والواجب علينا ان نتقدم بحزم للاستيلاء على ما بقي لليمين والرجعية المناصرة لها من مواقع. لذلك اقترحت في اجتماع قيادة الجبهة الوطنية الذي  سبق افتتاح مجلس النواب السوري لدورته العادية في شهر حزيران عام 1957 ان يتقدم الاستاذ اكرم الحوراني بترشيح نفسه لرئاسة هذا المجلس. فاعترض الحوراني على هذا الاقتراح وقال انه يعني القطيعة النهائية مع حزب الشعب الذي احتكر هذا الموقع الهام منذ الاطاحة بحكم الشيشكلي حيث كان  يضع  فيه  الاستاذ ناظم القدسي بالتزكية ودون معارضة الحركة الوطنية  التقدمية. فأجبته بقولي: "هل ماتزال لنا صلة بهذا الحزب الذي  تآمر زعماء كبار منه على استقلالنا وحكم عليهم شعبنا بتلك الأحكام التي يقضونها حاليا؟ ثم اننا لانغتصب شيئاً منهم مادامت الاكثرية الى جانبنا في المجلس. اننا نسعى الى حقنا بالاسلوب البرلماني الديموقراطي وانا اصر على اقتراحي واطلب طرحه على التصويت". عندئذ سحب الاستاذ الحوراني اعتراضه ونال  اقتراحي موافقة قيادة الجبهة بالإجماع. وتم انتخابه لرئاسة مجلس النواب امام ذهول المستعمرين الاميركان ثم صراخهم من  الالم وصدى هذا الصراخ بعويل خدمهم واذنابهم.

بعد سقوط ناظم القدسي واعتلاء الحوراني كرسي الرئاسة افتعل رشدي الكيخيا، نائب حلب وزعيم حزب الشعب، أزمة  في مجلس النواب قدم بنتيجتها استقالته من النيابة وخرج من قاعة الاجتماع بصخب وهو يعلن انه لن يعود عن استقالته  مادامت الاكثرية التي تمثل الجبهة الوطنية تتحكم بمجريات الامور. وقد كشف هذا التصرف الغريب المنافي لأبسط قواعد  الشورى البرلمانية عن ذلك الطموح الديكتاتوري الجارف الذي كان يستولي على زعامة هذا الحزب ويدفعها الى تلك المحاولات البائسة اليائسة للاستيلاء على الحكم واحتكار السلطة باي ثمن. فالعديدون من زعماء هذا الحزب كانوا دوما وراء الانقلابات العسكرية الناجحة والفاشلة التي جرت في سورية لاخفات صوت الجماهير، ولكن هؤلاء كانوا بعد كل  انقلاب  يتباكون على الديموقراطية عندما كانت الديكتاتورية العسكرية تنقلب ضدهم بعد فوزها بالسلطة. نقول اذن ان الكيخيا قدم  استقالته وخرج من قاعة الاجتماع، فقام عندئذ نواب حزبه واعلنوا بشكل مسرحي انهم  سيستقيلون جميعهم من نياباتهم في حال قبول استقالة زعيمهم تلك. وكان واضحا ان هذه المسرحية دبرت لخلق جو من البلبلة والفوضى ولكنها  بينت بوضوح ضعف حزب الشعب بالاضافة الى اظهارها جهل قادته وحماقتهم، فهم بتصرفهم هذا  اعطوا الفرصة للجبهة الوطنية التقدمية للسيطرة بشكل مطلق على الساحة السياسية لولا تدخل سفير مصر محمود رياض والتصرف الفردي الأرعن للأستاذ أكرم الحوراني.

ان قيادة الجبهة الوطنية قررت بالاجماع  ليلة عرض استقالة الكيخيا على المجلس ليصوت عليها قبول تحدي حزب الشعب بقبول هذه الاستقالة لدفع نواب هذا الحزب الى التضامن مع زعيمهم فيقدموا بدورهم استقالاتهم. وكان بالامكان   اجراء انتخابات نيابية لتعويض النواب المستقيلين يفوز بها مرشحو جبهتنا بكل تأكيد لهبوط سمعة أولئك الشعبيين بعد الاحكام التي كانت قد صدرت ضد زملاء لهم جرموا بالخيانة الوطنية. ولكن استقالة الكيخيا رفضت من قبل اكثرية النواب بمساعي الاستاذ اكرم الحوراني رئيس المجلس ومحمود رياض سفير مصر الذي بلغ به الامر  الى تخطي كل الاعراف عندما  حضر  الى غرفة الحوراني ليشرف بنفسه عن قرب على عملية الاقتراع التي تم بموجبها "ترضية الكيخيا" و "صفع قيادة الجبهة الوطنية". ولقد انتابني حزن شديد لهذه النتيجة المأساوية البالغة التأثير على مسيرتنا الوطنية، فسببت بعض البلبلة في صفوف العسكريين تمكنت من التغلب عليها بسرعة، ولكن قيادة الجبهة الوطنية أصيبت بطعنة نجلاء وعادت الى الانقسام بانفصال المدنيين عن العسكريين. فقد تبين ان هذه القيادة التي كان لها السلطة العليا في كل النواحي التشريعية والتنفيذية، وذلك بحكم  تركيبها، هزيلة الى الحد الذي يتمكن معه سفير مثل محمود رياض من ايقاف كل قرار لايعجبه  بواسطة  فرد  فيها لايأخذ  امورها بالجدية الكافية. ففي اليوم التالي للجلسة التي رفض فيها مجلس النواب استقالة الكيخيا استدعاني وزير الدفاع عضو الجبهة الوطنية الى مكتبه وعرض علي حضور اجتماع قيادة الجبهة كالعادة في منزله لمناقشة مااستجد بعد تلك النتيجة المأساوية، وكان هو وخمسة من زملائه نواب الجبهة الوطنية قد نفذوا قرار القيادة بقبول استقالة  الكيخيا المذكورة. ولكنني كنت مدركاً ان الامر بكليته مدبر: يرفض بعضهم الاستقالة وهم الاكثرية الساحقة بينما تقبلها اقلية لايتجاوز عددها الخمسة او الستة نواب "لارضاء العسكر"، الامر الذي زاد من المي وخيبة املي. فاعتذرت عن قبول دعوة وزير الدفاع لحضور  الاجتماع المذكور بعد ان بينت له وجهة نظري. ودامت هذه القطيعة بين المدنيين والعسكريين بعض الوقت، حوالي الشهر. واتاني في نهاية الامر النائب البعثي من الجناح العربي الاشتراكي في مدينة حلب المرحوم عبد الفتاح الزلط، وكانت تربطني  به صداقة، ورجاني الاجتماع بالاستاذ اكرم في غرفته في فندق سميراميس حيث كان ينزل. فلبيت طلبه وتم ذلك اللقاء الذي لم يؤدي إلا الى عودتي لاجتماعات قيادة الجبهة الوطنية الاسبوعية والطارئة دون التطرق الى التدخل الضار الفردي للاستاذ محمود رياض في شؤون جبهتنا الوطنية لسببين: الاول هو عدم معرفتي حينذاك مدى هذا التدخل والدوافع التي وراءه والثاني هو انه ماكان من شأني في ذلك الزمان ان اقدر خطورة  التيار الساداتي في الحركة الوطنية المصرية. ولكنني  كنت أعرف جيدا ان الاستاذ محمود رياض كان يقضي معظم سهراته مع الاستاذ اكرم الحوراني وما كان هذا الامر يستلفت النظر لعميق اعجابنا في تلك الايام برجال الثورة المصرية وشدة ارتباطنا الروحي  بهم. ولابد لي ان اعود الى تكرار التذكير  بالخدمات الجليلة التي اداها الاستاذ اكرم الحوراني الى الامة العربية، الخدمات التي لاينكرها عليه الا كل جاحد وجاهل. فهو في الحق والواقع من رواد تحرير الفلاحين في سورية والوطن العربي وصاحب الصوت الذي طالما دوى في نصرة قضايانا  الوطنية ونصرة حقوق الضعفاء من قومنا.

وكان الملك حسين قد طلب في آخر شهر ايار ان نعيد الفرقة التي كانت قد ارسلت الى الاردن لتعزيز الجبهة هناك تجاه اسرائيل، وقد مر معنا خبر هذا الامر فيما سبق من دراستنا هذه، فلبينا طلبه دون تأخير. وليس صحيحا ماذكره باتريك سيل في "الصراع على سورية" من انه انتابنا الغضب عندما تلقينا الطلب المذكور الذي كنا نتوقعه.

 فالاحمق وحده يغضب من وقوع امر يعرف سلفا انه لابد واقع. والحقيقة ان الملك حسين كان يريد ان نقوم نحن  بسحب الفرقة المذكورة واعادتها الى سورية لان في هذا تخفيف في اعبائنا  المادية، اما نحن فما كنا لنعطي الملك هذه الفرصة ليتهمنا بالتقصير في حماية جبهته.

 هزيمة كاوية للولايات المتحدة

 

كان سعار الاميركان يتصاعد اكثر فاكثر امام صمود جبهتنا الوطنية وتنامي دعم الجماهير لها وقيامها مثلا للتصدي بثبات للمستعمرين في وطننا العربي وفي العالم. فاتوا لذلك "بورشتهم" المخصصة للاطاحة بالحكومات الوطنية المعارضة  لسياستهم العدوانية الاستعمارية، الورشة التي كان يقودها كرمت روزفلت الشهير الذي عمل على اسقاط حكومة مصدق الايرانية وعلى ترميم حكم الشاه بعد ذلك هناك. ولقد  كانوا يريدون الانتهاء من الحكم الوطني السوري وتهديم مدرسته القائدة وتذرية رمادها في الرياح ان امكن. وهذه  الورشة وامثالها في كل منطقة من العالم، مع المرتزقة من خونة اوطانهم  والانتهازيين والرجعيين المستائين من التقدم على اختلاف أشكالهم، تشكل مخلب كل جهاز تقيم به الولايات المتحدة الاميركية مختلف علاقاتها مع العالم ويشكل خط التماس مع الاخرين. ويأتي الخط الثاني الذي يتألف من احلاف الشركاء والاتباع  والحكومات الرجعية العميلة والاساطيل والقواعد العدوانية التي تلتف حول  العالم. ثم  يأتي الخط الثالث ويتشكل من القوى الاحتياطية على اختلاف اشكالها العسكرية وغير العسكرية القابعة في الاراضي الاصلية  للمستعمرين في اميركا واوروبا.   ووقع اختيار ورشة التخريب والهدم المذكورة على الديكتاتور السابق اديب الشيشكلي ومساعده ابراهيم الحسيني، الذي كان يشغل وظيفة الملحق العسكري حينذاك في السفارة السورية في روما، للقيام بانقلاب في دمشق من طراز عملية "الجنرال زاهدي" الايراني، الذي كان ايضا ملحقا عسكريا في احدى سفارات ايران فاتى به الاميركان سرا الى طهران حيث اختبأ في سفارة دولتهم ليخرج منها في الوقت المحدد ويلتقي بالاشقياء اعوانه ويقوموا بالانقلاب الذي أودى بحكومة مصدق.  فالسفارات الاميركية هي الاوكار التي يخرج منها في العادة القتلة والمخربون وغيرهم من المفسدين، كما خرج من تلك التي في تونس قتلة المرحوم الشهيد خليل الوزير مثلا، ثم يقومون بعد ذلك بمسح مثل هذه القذارات في وجه الموساد وأشباهها.   نقول اذن انهم اختاروا الشيشكلي والحسيني ليحاولا تجنيد بعض المرتزقة لاعادة عرض تمثيلية زاهدي على المسرح الدمشقي.

واتصل الشيشكلي بمحام صديق له كان يعمل بوظيفة كبيرة في وزارة الداخلية ايام عهده وسأله الاتصال ببعض الضباط ممن كانوا من انصاره فيما مضى ليعملوا معه على الاطاحة بالحكم الوطني. واتصل الاميركان من جهتهم بعمر القباني وزمرته من العسكريين لذات الغرض. وكانت الاخبار ترد الينا اولا بأول ممن كانوا على صلة بهم من  المدنيين والعسكريين  في هذه القضية. فعلمنا في وقت مبكر من أن هناك شخصيتين قياديتين ستصلان سراً الى دمشق وان احدهما هو الملحق  العسكري في روما ابراهيم الحسيني ليقوما بقيادة عمليات تنفيذ المؤامرة التي تحاك. فقدرت ان الشخصية الاخرى لابد من ان تكون الشيشكلي. اما الحسيني فيمكن في الواقع وصوله الى دمشق بسهولة لأنه كان حينذاك مايزال في خدمة الدولة وغير ملاحق على الاطلاق بينما كان الآخر ملاحقا بحكم غيابي صدر ضده في قضية المؤامرة الكبرى المار ذكرها في سياق هذه الدراسة فلا يمكنه لذلك التسلل بسهولة الى دمشق. وقد ابلغني مؤخرا متقاعد عسكري لبناني، كان له مركز هام في جناح حركة سياسية يوالي السياسة الاميركية في تلك الايام، بانه استقبل الشيشكلي والحسيني في مطار بيروت عندما وصلا على  متن طائرة اميركية وساعدهما على اجتياز الحدود السورية. كما اكد لي مستشار سفارتنا في روما الدكتور اسعد حومد غياب الملحق العسكري ابراهيم الحسيني في ذلك التاريخ. وفي الحادي عشر من آب ابلغنا أولئك الذين يتصل بهم كل من الملحق العسكري الاميركي روبرت مالوي ونائب القنصل الاميركي فرانسيس جيتون والسفير الثاني في السفارة الاميركية هوارد ستون، وهذا الاخير كان مساعدا لكرمت روزفلت في عملية الاطاحة بالرئيس مصدق الايراني وهو على مايبدو كان يترأس  تلك العملية في دمشق التي أطلق عليها اسم "مؤامرة ستون" فيما بعد، ان لقاءهم مع الشخصيتين الآنفتي الذكر سيكون في تلك الليلة، ليلة الحادي عشر الى الثاني عشر من آب، وان الحركة الانقلابية قد تكون في فجر اليوم التالي. عندئذ اصدرت امرا باستنفار القطعات حول دمشق، كما اصدرت تعليماتي للسراج بمحاصرة بيوت جميع الاميركيين  القاطنين في  منطقة العاصمة بعناصره، ولزمت مكتبي طوال ذلك اليوم وتلك الليلة اتلقى تقارير السراج وتقارير  قادة  القطعات عن  تطورات  الحالة.   ففي هذه القطعات ماكان يقع اي شيء غير عادي، اما فيما يخص حركة العدو في بيوت السفارة الأميركية وبيوت موظفيها فان ستون وعصابته كانوا يستمهلون العناصر الذين ظنوا بانهم يعملون معهم ويؤجلون موعد اللقاء بالشخصيتين المذكورتين،  الشيشكلي والحسيني، ثم قطعوا الاتصال فجأة في حوالي منتصف الليل مع عناصرنا المذكورة. فقدرت عندئذ ان أولئك الاميركان قد احسوا بان عمليتهم تلك كانت مكشوفة لنا منذ بدايتها، لذلك اخذوا من طرفهم هم يستمهلون عناصرنا الذين  خدعوا بهم في البدء وظنوا انهم يعملون معهم ويؤجلون موعد جمعهم بالشيشكلي والحسيني ساعة بعد ساعة كي يكسبوا الوقت  ويعيدوا هاتين الشخصيتين الى لبنان ومن ثم الى روما على متن الطائرة الاميركية التي كانت حملتهما من هناك الى لبنان عند البدء بتنفيذ هذه المحاولة العدوانية الفاشلة. وقد مني في النتيجة بهزيمة كاوية ساحقة هذا العدو للانسان الذي يبني علاقاته بالامم الاخرى على التآمر والعدوان والاذى بوقاحة ماعرف التاريخ ابدا مثيلا لها عندما يدعي ظلما وباصرار مقرف بان سلوكه هذا هو سلوك الاحرار بينما دفاع ضحاياه عن انفسهم هو بزعمه من باب التطرف والهمجية وامتهان الحرية.

وفي صباح اليوم التالي،  12 آب عام 1957، عاد  وزير الدفاع  مع الوفد المرافق له وفيه رئيس الاركان العامة اللواء توفيق نظام الدين والمقدم امين النفوري من موسكو حيث جرت مباحثات بين وفدنا هذا وبين الجانب السوفياتي تتعلق بالمساعدات الاقتصادية والعسكرية المقدمة الينا. وقد قمت بعرض كل ما جرى في الليلة السابقة وما قبلها بقصد الاطاحة بالحكم الوطني على رئيس مجلس النواب اكرم الحوراني ورئيس مجلس الوزراء صبري العسلي ووزير الدفاع خالد العظم ووزير الخارجية صلاح الدين البيطار بصفتهم أعضاء قيادة الجبهة الوطنية. وطلبت طرد الأميركيين الثلاثة المذكورين أعلاه من سورية بصفتهم دبلوماسيين غير مرغوب فيهم. وقد  صدر  بلاغ  رسمي عن وزارة الخارجية السورية في نفس اليوم بواقع هذا الامر واستدعي السفير الاميركي الى وزارة الخارجية وابلغ احتجاج سورية وطلبها ابعاد أولئك المتآمرين في سفارته واعادتهم الى بلدهم. ثم قدمت مشروع مرسوم بتسريح زمرة عمر قباني من الجيش وعددهم لايتجاوز الثمانية افراد وليس عشرات الضباط او مئاتهم كما زعم المستعمرون وخدمهم عندما كتبوا حول هذا الامر. وقمنا حينذاك باحالة افراد هذه الزمرة المتآمرة على القضاء لعدم توفر الادلة الكافية ضدهم، وقد ثبت فيما بعد  ظننا  فيهم  عندما وردت اخبار اتصالاتهم  بالعدو وتآمرهم في مذكرات رجال ال (سي،  آي،  أي) من امثال كرين المشار اليه اعلاه في بحثه "حبال من الرمل". ولكن اللواء نظام الدين لم يقتنع حينذاك بوجوب الخلاص منهم ومن دسائسهم في اوساط القطعات العاملة فقدم استقالته كي لا يرفع مرسوم التسريح المشار اليه. وقد رجوته بالحاح ان يعود عن استقالته فيبقى في قيادة الجيش لاننا نعتبره مثلا للضابط الوطني النزيه ذي الصفات العالية بكرم اخلاقه، ولكنه اصر على انسحابه من الخدمة العسكرية. وتم تعييني خلفا له في رئاسة الاركان العامة والقيادة العامة للقوات  المسلحة  التي ضمت الجيش والشرطة والامن الداخلي والخارجي وقوات المقاومة الشعبية.

وكتبت عني النيويورك تايمز في السابع من آب عام 1957 فوصفتني بانني شيوعي منظم وضابط مؤيد للسوفيات علنا وان منصبي الجديد يعني استيلاء شيوعيا على القيادة السورية العليا. واعقبت هذه الصحيفة في الثاني والعشرين من الشهر المذكور هذه الاقوال بمقال  افتتاحي  جاء  فيه: "انها  لدبلوماسية مشروعة للولايات المتحدة ان تشجع جميع الدول المعادية للشيوعية في الشرق الاوسط لكي تستخدم كل ما في وسعها من الضغط والتأثير لكبح جماح سوريا". وماكانت هذه الاقوال لجريدة النيويورك تايمز سوى غيض من فيض في صحافة المستعمرين وإعلامهم وتهويلاتهم في تلك الايام. وفي الرابع والعشرين من ذات الشهر المذكور ارسل وزير الخارجية الأميركية دلس احد كبار معاونيه لوي هندرسون الى تركيا. وهذا  الشخص كان ايضا احد اعضاء الفريق الاميركي الذي قاد عملية الاطاحة بمصدق  وقام  في هذه العملية بدور القائد السياسي  الذي رتب مختلف العلاقات بين مختلف المتآمرين وانتهى في آخر العملية الى نقل السيادة على النفط الايراني من المستعمرين  الانجليز الى الاحتكاريين الاميركان، وذلك بعد تقويض الحكم الوطني الذي امم هذا النفط. وفي انقرة عقد هذا الاميركي اول اجتماع مع مندريس رئيس وزراء تركيا بحضور كل من ملكي العراق والاردن. ثم ذهب الى لبنان واجتمع برئيس الجمهورية كميل شمعون. وعاد بعد ذلك الى انقرة حيث اجتمع بمندريس بحضور الوصي على عرش العراق ورئيس الاركان العراقية  وفيق عارف. وبعد عودته الى واشنطن وتقديم تقريره الى دلس وزير الخارجية صدر في الخامس من ايلول بيان هذه الوزارة  مفاده: ان الوضع خطير في سورية وان الحكومة الاميركية تولي  اهتمامها العميق بمصير سورية وتبدي خشيتها من ان تصبح هذه الدولة ضحية الشيوعية ومصدر خطر على جيرانها العرب. ثم قدمت الحكومة الاميركية في اليوم ذاته تحذيرا للحكومة السورية بعدم تجاوز حدودها والقيام بعدوان على جيرانها. وفي ذات الوقت صدر اعلان الحكومة الاميركية بارسال امدادات  اسلحة الى كل من العراق والاردن ولبنان. ومن الواضح ان كل هذه الهيستريا والسعار الاميركي ضد سورية ما كانا الا ذيولا لفشل المؤامرة الاميركية الآنفة الذكر وليس لحدوث اي تغير في الحكم الوطني في قطرنا المجاهد. فالمدرسة الوطنية التي كانت تقود الكفاح ضد المستعمرين بقيت كما هي بذاتها وعلى ذات الخط النضالي منذ انهيار الحكم الديكتاتوري وانهيار مؤامرات المستعمرين الواحدة تلو الاخرى. واذا كان هناك تغيير ففي معسكر المستعمرين بحلول الاميركان محل الانجليز. اما اني اتيت حينذاك الى قيادة القوات المسلحة فقد كنت عمليا قبلها أقود مدرسة المقاومة والكفاح  العسكري ضد الاستعمار وعملائه منذ ان قامت هذه المدرسة، والاميركان يعرفون هذا جيدا.

ان باتريك سيل الذي تردد على اوساط سفير مصر محمود رياض واوساط السراج في تلك الايام قبل كتابته "الصراع على سورية" بزمن طويل، مستفيدا من كونه نشأ وترعرع في دمشق ومدارسها في بيت والده القس المبشر البروتستنتي، ليخدم المخابرات البريطانية والمستعمرين الغربيين على العموم، يقلب في كتابه الآنف الذكر ترتيب وتسلسل الاحداث، على طريقة حسنين هيكل، في كل مرة يعجز فيها عن تشويه هذه الاحداث وعن وضعها في الظل لوضوحها وشهرتها وذلك ليخدم غرضه في وضع القراء في الجو الذي يريده هو وليس في واقع ماجرى في الحقيقة. ففي القسم 21 من كتابه المذكور "الصراع  على  سورية" عرض الامور في المشهد المعنون بـ "وساطة الملك سعود" وكانه كان هناك صراع بين عبد الناصر وسعود حيث تنتقل سورية بهذا الصراع من  "جيب" عبد الناصر لتقع في "عب" الملك سعود، ثم يعود عبد الناصر ليستردها الى جيبه!..    اما الواقع الذي غاب او غيبه باتريك سيل عن صفحات كتابه فكان في غاية البساطة وهو ان سورية كانت حاضرة تؤدي  دورها حينذاك وكانت جماهيرها مصممة على المقاومة حتى الاستشهاد. وقد اعلنت في كلمة القيتها في المقاومين الشعبيين  الذين كانوا يقومون باعداد الارض للمقاومة في غوطة دمشق اننا لن ندعهم يمرون وسنقاتل من شارع الى شارع ومن بيت الى بيت ومن غرفة الى غرفة ولن نستسلم ابدا. وكانت المقاومة الشعبية منتشرة في كل انحاء القطر واعماقه ولديها ما يكفي  من الاسلحة والوسائل لقتال الشوارع، وكان تدريبها ممتازا. فكان في كل مدينة عشرات كتائب المقاومة وكذلك في القرى  والمزارع وفي الجبال والوهاد... وفي يوم من تلك الايام اتاني صحفي نمساوي  برسالة شفهية من رئيس وزراء تركيا مندريس يتهمني فيها بانني ديكتاتور استعين بالجيش لافرض ارادتي على الشعب  السوري وحكومته المدنية. فقلت لهذا الصحفي: لن ارد على هذا الاتهام مالم تقم انت بنفسك بجولة في بلدنا لتتطلع عن  قرب على احوالنا، واوصيك بشكل خاص ان تشاهد جماهير شعبنا المسلحة، ونحن مستعدون لوضع سيارة تحت تصرفك مع دليل يتلقى رغباتك وينفذها بحذافيرها، عدا ما يمس منها امور امننا. فشكرني بحرارة ولبى طلبي في الحال. وعندما عاد الي بعد جولته شكرني مرة اخرى واطلعني على صور للمقاومين الشعبيين في مختلف انحاء القطر. فسألته فيما اذا كان سيمر بانقرة في طريق عودته الى بلده فقال انني مستعد  للمرور بها اذا كان الامر ضروريا. فقلت له: "اريد ان تبلغ مندريس جواب رسالته الشفهية الي فتقول له: سلح جماهير الشعب التركي كما نفعل نحن ولنر بعد كم يوم يمكنك البقاء في الحكم..". فتحمس ذلك الصحفي الطيب للفكرة ووعد بتنفيذها، وقد جعل رسالتي هذه الى مندريس عنوانا عريضا لحكاية رحلته الى سورية  في عدد من صحيفته تكرم بارسالها الي.

لقد كان تقديرنا منذ ان بدأ السعار الاميركي بالارتفاع في اثر فشل تلك المؤامرة على بلدنا  ان  حكومة الولايات المتحدة الاميركية لن تأذن لاسرائيل بالدخول في "اللعبة" كي لا تفضح العلاقة الحقيقية التي تربطها بها فيرى الناس بوضوح ان الصهاينة ما هم سوى خدم للمستعمرين الجدد وان كيانهم ماهو الا قاعدة لنظامهم العبودي العالمي في منطقتنا. ذلك لأن فضح هذا الامر يحرج عملاء اميركا من حكام العرب الذين يتظاهرون بالعداء لاسرائيل في الوقت الذي يخنعون فيه بلا خجل  لاسيادهم المستعمرين الجدد، الامر الذي كان يؤدي الى زعزعة كراسي وعروش أولئك العملاء  في  ذلك  الوقت  الذي  كانت فيه جماهيرنا تلتهب حماسا من المحيط الهائج الى الخليج  الثائر وتصيح  لبيك ايتها  الحرية. اما جيراننا العرب، وعلى الاخص حكومة العراق التي كان لنا اتصال وثيق بجماهيرها المدنية والعسكرية، وخاصة بزعيم الرابع عشر من تموز عبد الكريم قاسم، فما كان باستطاعتهم اذن ابدا، امام جماهير اقطارهم المدنية والعسكرية ان يقفوا الى جانب اميركا المهزومة بمؤامرة مخزية حبكتها حينذاك ضد قطر شقيق. فلم يبق اذن سوى مندريس وحكومته ففيها من الصفاقة (التي اوصلتهم على كل حال فيما بعد الى السجون واعواد المشانق) ما يكفي ليجاهروا بالتحالف مع هؤلاء المستعمرين الجدد بحجة الدفاع ومقاومة الشيوعية. ولكن هذا الخيار كان من الممكن ان يثير حربا عالمية نووية. وبالفعل فقد تحشد الجيش البلغاري على الحدود الغربية لتركيا، كما تحشدت القوات السوفياتية على الحدود الشمالية الشرقية لتركيا في القفقاس،  بينما حذرت الحكومة  السوفياتية تركيا من مغبة التدخل في الشؤون السورية عندما تحشد جيش هذه الاخيرة على حدودنا. وفي الرابع من تشرين  الأول اطلق الاتحاد السوفياتي اول قمر صناعي ارسله الانسان الى الفضاء الخارجي، الامر الذي جمد الدم في عروق أولئك العدوانيين وخدمهم في العالم. لقد وقع المستعمرون الاميركان في نيران الشرور التي اضرموها عندما لم يوكلوا الى خدمهم الصهاينة او العرب مهمة التصدي لنا بينما يعملون هم من وراء ستار كما اعتادوا فيما بعد على فعله. وفي تلك الاثناء حاول الصهاينة جس نبضنا فقاموا باحتلال موقع في الارض المجردة. فاستدعيت قائد قوات الطوارئ الدولية وقدمت اليه انذار  ينقله  للصهاينة مآله: انني سآمر بفتح النار على طول الجبهة في حالة عدم انسحابهم من الموقع المذكور خلال خمس ساعات.  وقد انسحبوا قبل نهاية مدة الانذار. وكان هذا برهانا على صحة تقديرنا المذكور اعلاه.

ولتعزيز موقفنا، ولرفع مستوى اليقظة الجماهيرية في العالم  العربي رأيت ان من المفيد ان يتحرك الجيش المصري الى سيناء ليقوم بمراقبة حدود الكيان الصهيوني. فسافرت الى القاهرة  برفقة بعض مساعدي. وهناك اجتمعنا بمجرد وصولنا الى قصر الطاهرة حيث كنا ننزل بالمشير عامر القائد العام في القيادة المشتركة المصرية السورية. وعندما شرحت تصوراتنا للوضع العام القائم وطلبت بالنهاية ان يعود الجيش المصري الى سيناء، التي اخليت بالتسوية التي فرضها الاميركان في اعقاب العدوان الثلاثي على مصر، اجاب المشير بان الامر صعب ويتطلب استعدادات طويلة. فابديت دهشتي واستغرابي لهذا  الجواب وشعرت ان الاخوة المصريين غير مستعدين للتخلي عن تلك التسوية باعادة قواتهم الى سيناء وقطاع غزة كي لا  يصعدوا الازمة الى درجة المواجهة مع اميركا. وكان رأيي، الذي تأكد في نفسي طوال مسيرتنا نحن العرب منذ تلك الايام حتى الان، انه لابد من مواجهة هذه الدولة العاتية واقتلاعها من منطقتنا هي واسرائيل بثورة عربية شاملة قبل ان  يتجذر  استعمارها الجديد في العالم القديم بدءا بمنطقتنا العربية. اما انها كانت وماتزال تهدد للوصول الى غاياتها اللئيمة باثارة الحرب  النووية فهي قبل كل العالم التي تخشى هذه الحرب. ثم ان المطلوب كان، ومايزال، الوصول الى مواجهة فعالة معها  بالجماهير العربية المدنية والعسكرية، كما فعل الكوريون والصينيون ثم بشكل رائع الفيتناميون حيث يستحيل استعمال الاسلحة النووية. ثم ان الاجتماع الأولي مع  المشير عامر اجل ليستأنف مساء مع الرئيس عبد الناصر. واعدت في هذا الاجتماع الاخير تقديري للموقف واعاد عامر حديثه عن صعوبة المسألة بالنسبة الى استعدادات مصر المادية، واضاف: ان اول هذه الصعوبات هو عدم وجود قواعد تموين  في  سيناء  وغزة  للجيش  المصري  بسبب  تخريب هذه القواعد من  قبل  الصهاينة  عندما احتلوا اراضي هاتين المنطقتين في حرب عام 1956. فانذهلت من بساطة هذا المشير الذي يقود جيشا سورية ومصر  وقلت له: ان قواعد التموين لا تسبق الجيوش عند التقدم في اراضي عدوة وانما تلحقها، اما سيناء وغزة فهي اراضي مصرية وقد انسحب منها العدو بعد اخفاقه في العدوان الثلاثي وعادت سيادة مصر عليها فلامانع  ابدا  يمنع  عودة الجيش المصري  اليها. وتساءلت قائلا: هب اننا في مناورة لاختبار مدى قدرتنا على اعادة انتشارنا عسكريا في تلك المناطق ولاعادة  بناء قواعدنا من كل الانواع فيها فما الذي يمنعنا من فعل هذا ونحن على ارض معترف لنا بالسيادة عليها؟.. عندئذ تدخل الرئيس  عبد الناصر، وكان يبدو عليه الضيق من بساطة مشيره، وقال له: "من بكرة بدري بترسل الجيش الى سيناء وغزة..". ولكن  هذا الامر الذي اصدره عبد الناصر الى المشير لم يبعث الارتياح في نفسي وطرحت اقتراحا طالما راود فكري وتمنيت قيام الفرصة لتحقيقه ومآله التالي: "في وضعنا الجغرافي وبالوسائل المتاحة في هذا العصر يمكننا تبادل المساعدة العسكرية بين  قطرين عربيين او اكثر دون الحاجة الى تنقل جيوش كثيفة من قطر الى اخر لمد يد العون وانما بالامكان نقل الكادرات والفنيين باسرع الوسائل، بالطيران مثلا من مصر الى سورية وبالعكس، على ان  نهيئ الاسلحة ومختلف الاعتدة والمعدات  والعساكر والكادرات والفنيين الصغار والثانويين وكل ما هو ضروري في الجبهة المراد مساعدتها ونجدتها: ان بالامكان مثلا نقل ثلاثمائة او اربعمائة ضابط وفني مدفعي على متن ثلاثة طائرات من مصر الى سورية خلال ساعات لتشكيل فرقة  مدفعية لديها اكثر من مائة مدفع ثقيل عندما نكدس في سورية كل اسلحة هذه الفرقة واعتدتها ومعداتها ونهيئ محليا عساكرها غير المختصين وصغار الفنيين بدلا من نقل الفرقة بكل اثقال ما لا يقل عن خمسة الاف جندي، الامر الذي يحتاج الى اسطول سفن وايام عديدة لانجازه بحضور العدو الذي لن يقف مكتوف اليدين امام هذه العملية الطويلة المعقدة. ولاتمام هذه المناورة تقوم كل جهة من الجهات التي تتبادل المساعدة بالامور التالية:

 - تهيئة الكادرات والفنيين من المراتب الدنيا وغيرها التي تتوفر بكثرة في العادة،

 - تكديس وتخزين الاسلحة والاعتدة والمعدات والوسائل وكل الاثقال اللازمة في المناطق التي تتشكل فيها الوحدة القتالية،

 - تكديس الالبسة ومواد الاعاشة التموينية وغيره، ثم انه من الواجب اجراء العديد من التمارين في ايام السلم ليتعرف المنتقلون من قطر الى قطر للنجدة على مراكزهم وعلى الوحدات التي سيقودونها ويعملون فيها اثناء رد عدوان العدو.   وحيث ان سورية كانت هي المهددة في تلك الاوقات فانه كان على مصر ان تبادر بهذه الطريقة لاكمال نواقص اركان  ووحدات الجيش السوري وان تساعد على تشكيل وحدات جديدة  كانت  اسلحتها  وبقية لوازمها متوفرة في مستودعاتنا". انتهى اقتراحي.

وقد وافق الرئيس عبد الناصر فورا على هذا الاقتراح ووجد فيه مخرجا ممتازا  لاوضاع  حكومته عربيا وعالميا، وطلب الي اعطاء تقدير لاحتياجاتنا. وقد قمت مع مساعدي بوضع لائحة بالكادرات والفنيين اللازمين لاتمام نواقصنا، فبلغ تعداد هؤلاء الافراد سبعمائة وخمسين ضابطا وفنيا. وتم الاتفاق على انتقال هذا العدد بالطائرات خلال بضع ايام، وبذلك نفاجئ الاعداء مفاجأة تامة برفع قدرتنا العسكرية بنحو عشرين بالمائة. ثم عدت الى دمشق بانتظار تنفيذ هذا الاتفاق. وفي الثاني  عشر من تشرين الأول اخبرني الملحق العسكري المصري عبد المحسن ابو النور ان طرادا مصريا يوشك على الرسو في ميناء اللازقية وهو يحمل الضباط والفنيين المصريين الذين كان من المتفق ان يصلوا تباعا بالطائرات الى دمشق. فتوجهت مسرعا الى اللازقية لاكون في استقبالهم. وفي الثالث عشر من الشهر المذكور دخل الطراد الميناء فصعدت  اليه برفقة  محافظ اللاذقية الاستاذ عثمان الحوراني، وكان لقاء مؤثراً جداً مع الاخوة القادمين للنجدة. هذه هي قصة وصول القوات المصرية الى ميناء اللاذقية التي حرفوها لتلقى في الظل جهود عشرات ملايين الجماهير العربية لصالح وثنيات فردية حمقاء عاجزة على كل الاحوال.

وكانت وساطة الملك سعود بدوافع تقف وراءها الولايات المتحدة الاميركية التي احس ساستها بانهم ارتكبوا غلطاً فادحاً  بتصدرهم وترؤسهم الحملة على القطر العربي السوري بدلاً من بقائهم كما يفعلون حالياً وراء الستار وتظاهرهم بحياد  "الجنابظة" الذين يلكمون رؤوس "البائعين العرب" بقبضة يدهم ليتنازلوا للصهاينة ويبيعوهم  بثمن بخس آخر مابقي عندهم من مروءة وشرف. ففي الخامس والعشرين من شهر ايلول عام 1957 قام الملك سعود بزيارة لدمشق ولحق به في اليوم التالي رئيس وزراء العراق علي جودت الايوبي. وقد اعلن كل من ملك السعودية ورئيس وزراء العراق على مأدبة الغداء التي اقيمت على شرفهما في قاعة البرلمان انهما مع سورية العربية وحكومتها الوطنية ضد كل اعتداء عليها من اي جهة كانت  وقالا ان سورية لاتهدد اي بلد عربي ولا تركيا. وكان قبل هذا قد صرح بهذه المعاني كل من ولي العهد فيصل سعود الذي كان دائم الاقامة في القاهرة ووكيل وزارة الخارجية السعودية احمد الشقيري الذي كان في القاهرة في ذلك التاريخ. وكان كل  هذا لتسهيل محاولة سعودية لاسقاط شكوانا الى مجلس الامن ضد أميركا وتهديداتها وضد الحشود التركية على حدودنا. وقد  فشلت ايضا هذه المحاولة الاميركية السعودية واستمر مجلس الامن حينذاك في النظر في تلك الشكوى السورية حيث عرضت الاساليب الاميركية بهذه المناسبة للعالم، الاساليب المستجدة في ذلك الزمان الذي كانت تتظاهر فيه تلك الدولة بمناصرة  الحرية والعادية تماما في ايامنا هذه التي ظهرت فيها للعالم بكل وضوح عدوانية وخطر  الشكل  الجديد  للاستعمار الجديد.

كانت هذه هي باختصار قصة نزول الجيش المصري في ميناء اللاذقية وقصة وساطة الملك  سعود، القصتان اللتان حُورتا وشُوهتا لإخفاء دور الجماهير العربية وإبراز سورية بمظهر "الرجل المريض" الذي  تتنازعه الاطراف المختلفة، "تتصارع عليه"، لاحتوائه، في الوقت الذي يقوم فيه هذا "المريض" بايقاع الهزائم الكاوية بالمستعمرين واذنابهم فيسير نتيجة  لذلك بقدم ثابتة لتحقيق الحلم الكبير الذي هو وحدة القطرين الشقيقين مصر وسورية، تماما كما حدث وانجزه صلاح الدين الايوبي عندما حرر فلسطين من صهاينة البابوية، كخطوة اولى لاشعال الثورة العربية الكبرى التي تحقق اعادة بناء الكيان السياسي الموحد لامتنا بعد تحرير ارض وطننا الكبير من المستعمرين وقواعدهم التي يأتي في مقدمتها الكيان الصهيوني.



$  المقصود هنا عبد الناصر وقادة الحركة الناصرية؛ (ي.ب).