الفصل السادس عشر

الوحدة

 

الوحدة ثورة تحرر وتقدم

 

ان العبودية بمختلف اشكالها، من عبودية الرق الى عبودية الرأسمالية ومابعدها، تجمد كل مجتمع او جماعة انسانية تنزل فيها فتعطل وظيفتها التي تقوم بها في جملة المجتمعات الانسانية لصالح القلة التي تفرضها على البشر. فالعبوديون  الرأسماليون مثلا مزقوا الامم والمجتمعات الانسانية وجمدوا ادوارها في التقدم الانساني الروحي والمادي في حدود خدمة مصالحهم الضيقة فسببوا في طريقهم الى هذه الغايات الانانية الحروب العدوانية والنزاعات الجاهلية مما اهلك البشر بالملايين ودمر الثروات التي لاتحصى. وكانت دار الاسلام هدف الرأسمالية الأول في الهدم والتمزيق لاستعباد اممها وتشتيت شمل مجتمعاتها وتعطيل ادوارها في بناء التقدم الانساني وحصرها في توفير  القيم والثروات لخزائنهم. وقد اصابت امتنا العربية،  بانية دار الاسلام، اعظم المصائب من العدوان الرأسمالي الاستعماري وفي مقدمة هذه المصائب تمزيق اوطاننا وتشتيت شمل  جماعاتها ومجتمعاتها. ثم ان العبودية بكل اشكالها تمزق المجتمعات وتجعل من انسانها سيدا ومسودا ومن اسيادها فئات  متكالبة على المنافع متصارعة حتى الموت لاحتكار المكاسب. فكل وحدة في هذا العالم  العبودي هي دوما وعلى مدى التاريخ وحدة متضادات تتفانى في صراعاتها  القائمة فيما بينها. فالقضاء على العبودية هو اذن  شرط لازم لبلوغ كل وحدة، كما ان تحقيق الوحدة لا يكون الا عبر صراع يهزم فيه العبوديون وخدمهم ويهدم فيه نظامهم.

انقسم العالم العربي الى مجموعة كيانات قميئة تقاسمها المستعمرون في عهودهم القديمة بعد تهديم دار الاسلام بنتيجة   صراعات دامت عددا من القرون بين الرأسمالية المتفاقمة في نشوئها وبين عالم الاسلام المتقهقر. ثم اتى الاستعمار الجديد بزعامة الولايات المتحدة الاميركية يكرس التمزق والاوضاع المتخلفة في ديار الاسلام لمنفعته. والخطير في الامر هو ان هذه  الاوضاع المزرية القائمة على تمزق اوطاننا لاتبدو لقدم عهودها السوداء واستمرارها منذ زمن طويل حتى يومنا هذا والى زمن غير منظور طبيعية فحسب وانما نجد مسؤولينا يعملون على تشديد تفاقمها كما تأتي ظروف القهر الذي نحن فيه الى دفعها نحو الاسوأ. اننا نجد مثلا من يقول ان توحيد الوطن العربي جزئياً او كلياً يجب ان يأخذ بالحسبان الظروف الموضوعية القائمة. ولكن هذه الظروف الموضوعية القائمة كيف قامت ومن اقامها؟ الم تكن نتيجة لتقهقرنا امام الرأسماليين الذين بنوا نظامهم العبودي على اساس من عظام شهدائنا وشهداء غيرنا من الامم التي  قاومتهم؟ وهل نحن بهذه "الظروف  الموضوعية" الا تبعا لنظام الاسياد الرأسماليين الاحتكاريين حاليا فنحن بالتالي لابد من ان نكون في خندق الثوار الخارجين على هذا النظام للخلاص منه؟ انه من غير الممكن الجواب على هذه التساؤلات واشباهها الا بالاعتراف بان خلاصنا من التمزق وعودتنا لممارسة دورنا في بناء وتقدم الجملة الانسانية لا يتم الا بتحررنا من نظام العبودية الرأسمالية. لا يتم الا  بالثورة على هذا النظام وايقاع الهزيمة الحاسمة به. ثم ان الضرر مهما قدم لا يكتسب شرعية الوجود ولا بد من ازالته على رغم القلة المنتفعة المتشبثة به.

ان الاستعمار بكل اشكاله القديمة والجديدة عمل على تمزيق وتفتيت العرب وعلى ادامة تخلف مجتمعاتهم وافقارها  وعلى الهائهم بمشاكل لاتنتهي ابدا مادامت انظمتهم منخرطة في نظامهم العبودي العالمي كتابع لاحول له ولا قوة. وقد القى في آخر الامر جرثومة الصهيونية الجديدة في قلب وطنهم فلسطين وراح يرعاها ويهيئ لها كل اسباب نموها السرطاني في هذا القطر وفيما حوله حتى غدت الى مانعلمه اليوم عنها. فهي تشكل للمستعمرين تلك القاعدة البؤرة التي تستقطب نظاما عدوانيا  يحيط بنا ويمتد من البحر الابيض المتوسط الى المحيط الهندي. ويقوم هذا النظام على قواعد المستعمرين الاخرى واساطيلهم وامتداداتهم العميلة في مجتمعاتنا وكل علاقاتنا المتخلفة فيما بين بعضنا بعضا وفيما بيننا وبين العالم الذي يخضع لهم. هذا هو اطار "الظروف الموضوعية" التي ذكرناها اعلاه والتي قلنا ان بعضنا يدعونا الى اخذها بعين الاعتبار ومراعاتها عندما نعمل  على الخلاص والتخلص ممن هيأها لنا.. ولكن المطلوب هو الخلاص والتحرر من العبودية التي هيأت وصنعت هذه "الظروف الموضوعية" التي نحن في اسرها، اي التحرر من هذه الظروف بالذات بالثورة عليها وقلبها.

ان اعادة توحيد ما مزقه الاستعمار ومزقته العبوديات والوثنيات بمختلف اشكالها هو عمل ثوري لابد من ان يصطدم  في طريقه بعقبات من يضادون الثورات من العبوديين والوثنيين. والثورة تلغي النظام المتخلف لتقيم نظاما متقدما: وحدة الوطن ثورة تلغي نظم الجاهلية المعاصرة السائدة حاليا في اقطار هذا الوطن العربي وفيما بينها وتقيم نظاما متقدما واحدا له. ولكن الذين يرعون التخلف لرعاية مصالحهم الانانية يمكن ان يعملوا في ظروف معينة على اقامة التعاون فيما بينهم ليمتلكوا وضعا وقوة مادية في مواجهة منافسين اقوياء آخرين لهم كالأوربيين الغربيين الذين يعملون حاليا على توحيد اممهم في كيان ينافس كلا من الولايات المتحدة واليابان والاتحاد السوفياتي. ولكن مثل هذه المساعي لاتشكل  سوى ثورة مضادة على المستوى  العالمي، فيُـشدَّد من عبودية النظام الرأسمالي الاحتكاري العالمي برفع مستوى التناحر الى سوية تنافس عمالقة لا تتوقف  كتلهم عن التضخم الامر الذي ينعكس على جماهير البشر فيزيد من بلواها وشقائها ويزيد من تمزقها: في الوقت الذي تتكوم   فيه الاغذية في عنابر هؤلاءالاحتكاريين جميعا و تتكدس الوف مليارات القيم في مؤسساتهم الاحتكارية نجد الانسان في العالم الثالث يموت جوعا ويغرق في الديون والمصائب الاخرى التي ما عرف لها التاريخ البشري شبيها. فهذا العالم الذي لايكف قادته عن التبجح بديموقراطيتهم التي اقامت نظاما يهلك فيه يوميا عشرون الف طفل دون الخامسة من العمر والذي تنتشر في ارقى بلاده، الولايات المتحدة الاميركية، تجارة اعضاء الاطفال ويعيش في هذا البلد "الراقي الديموقراطي" اكثر من ثلاثين  مليون انسان دون مستوى الفقر، نقول في هذا العالم ازداد انحدار الانسان في جحيم الشقاء بتوحد امبراطوريات  قدماء  المستعمرين في إمبراطورية متعددة الرؤوس تتزعمها أميركا. وهناك أيضاً وحدات يصطنعها الرأسماليون المستعمرون وخدم نظامهم العالمي. ان الجامعة العربية مثلا كان قد اصطنعها البريطانيون في اواخر الحرب العالمية الثانية بغرض تجميع العرب حول الكيانات التابعة لاستعمارهم في نظام يقف في وجه الزحف الاميركي على المنطقة العربية حينذاك، على البترول العربي. وما كان من المصادفات لقاء روزفلت وعبد العزيز سعود في المياه المصرية لاقامة تلك العلاقة النفطية العربية الاميركية في تاريخ قريب من قيام الجامعة العربية: اعلن عن قيام  الجامعة العربية في 22 آذار عام 1945 كما تم  اجتماع روزفلت - عبد  العزيز سعود في شباط عام 1945 على الطراد الاميركي كوينسي في البحيرة المرة في منتصف قناة السويس بعودة الاول من يالطا. فمثل هذه الوحدة بين كيانات عربية تنخرط في النظام الرأسمالي الاحتكاري العالمي فلا  تتحرك الا باوامر من اسياده المستعمرين لم تزد امتنا الا تمزقا وعجزا ادى بها الى كارثة فلسطين واقامة الكيان الصهيوني. انها في النتيجة تجمع يحمي فردية كل كيان فيه ويوسع تحركه في خدمة من اقامه من المستعمرين.

نقول اذن ونكرر: ان الوحدة  الحقيقية  تقوم بعملية بناء تنفي العوائق الانانية في العناصر المراد توحيدها  وتعيد للكل الناتج دوره الذاتي في دفع عجلة التقدم الانساّي الروحي والمادي، وهي على عكس ذلك التجمع الرجعي الذي يزيد من تشتيت جماهير بني الانسان بين مصالح انانية  متضاربة لاتتوقف عن التفاقم على حساب عذاب الجماهير. ولاتتم اقامة البناء الموحد الا بثورة تنظف الساحة من المستعمرين وتقضي على نظامهم فيها. ومن البديهي ان تنطلق عملية الوحدة العربية الثورية من المنطقة العربية التي تركز عليها الهجوم الاستعماري، من فلسطين وما حولها من اقطار عربية، وذلك بانجذاب كل الجماهير العربية في كل  اقطار الوطن العربي نحو الساحة ماديا وروحيا. بمختلف اشكال الانجذاب المؤدي في النتيجة الى ابعاد كل مانع  من طريق تلاحم مختلف اجزاء امتنا. وهذا ما كان يجري في  خمسينيات هذا  القرن عندما كانت الحركات الوطنية في الهلال الخصيب ووادي النيل تستقطب كل حركة وطنية في كل جزء من اجزاء وطننا الكبير. لقد كانت وحدة اقطار المسلمين قائمة طوال قيام دار الاسلام وان تعددت في هذه الدار الممالك والحكومات. فالنظام كان واحدا في هذه الدار ويقوم على الشريعة الاسلامية. وما كان المسلم يجد اي عقبة في التنقل عبر تلك الدار او السكن في اي بقعة  يشاؤها منها. كما لم يكن هناك حواجز في تنقل البضائع  فيها من اقصى شرقها الى اقصى غربها ومن شمالها الى جنوبها. فلم يبحث الناس في عصورها عن وحدة مفقودة فيها وان  بحثوا احيانا عن تضافر حكامها وملوكها تجاه هجمات  الاعداء على دارهم عندما كانت تلك الهجمات تحقق تقدما في هذه الدار. ولكن العرب بعد سقوط دار الاسلام على ايدي الرأسماليين الاوروبيين واقتسام اوطانهم من قبل هؤلاء المستعمرين  العبوديين، ثم مؤخرا من قبل خدم هؤلاء العبوديين، افتقدوا تلك الوحدة مع افتقادهم لحريتهم ورأوا تلازم هذين الامرين: الوحدة والحرية، كما لمسوا التصاق هذين الامرين مع امر ثالث هو التقدم المادي  والروحي الذي عطله فيهم اعداء الانسان عندما استعبدوهم  فتعطشوا في النتيجة لذلك الثالوث الذي طالما تردد على  شفاه الثوار والقادة بشتى اشكال التعبير: الوحدة والحرية والتقدم، الوحدة والحرية والحياة الافضل، الوحدة والحرية والاشتراكية الخ.. وهنا يجب ان لاننساق في سفسطائية  تقديم هذا الركن اوذاك في الثالوث المذكور على الركنين الباقيين، فالكفاح الثوري يهدف بداهة الى تحقيقها كلها معا، او بعبارة اوضح ان تحقيقها كلها يكون على درب واحد هو درب الخلاص من نظام المستعمرين الرأسماليين. وحيث ان المستعمرين احاطونا بقواعدهم واساطيلهم العدوانية ومختلف مؤسساتهم الرجعية المنتشرة في مجتمعاتنا وعقدوا خيوط شبكتهم هذه في قاعدتهم الاساسية اسرائيل فان الدرب للوصول الى تحقيق ذلك الثالوث يبدأ بالعمل الوحدوي حول هذه القاعدة الاساسية مع القطع مع قواعد المستعمرين وامتداداتهم المتنوعة والصمود لهجماتهم حتى النصر الكامل. ونجد في النتيجة ان عملية الوحدة لاتنفصل ابدا عن عملية التحرر من المستعمرين كما لا  يتحقق التقدم المادي والروحي الا على درب الكفاح الوحدوي التحرري. ولقد كان تحقيق الوحدة مع مصر من  قبل المدرسة الوطنية السورية جزءا لا يتجزأ من المعركة الكبرى التي كانت  تخوضها في تلك الايام هذه المدرسة للتحرر من الاستعمار الجديد الذي تتزعمه الولايات المتحدة الاميركية وللخلاص من التخلف المادي: تمت وحدة القطرين السوري والمصري في الاشهر التي انهار فيها الاستعمار القديم في المنطقة ومباشرة بعد هزيمة المستعمرين الاميركان بكشف مؤامرة ستون الشهيرة وفشل حشودهم التركية على حدودنا وارتداد دعواهم بملء "الفراغ" الذي خلفه المستعمرون القدماء عندما ارتدوا امام الجماهير العربية الكاسحة التي سدت كل  "فراغ"  ينفذ منه أولئك الاميركان لضرب هذه الثورة وتشتيتها. ثم ان الامر الآن، بعد ثلث قرن من ذلك اليوم المجيد الذي تمت فيه تلك الوحدة، مايزال على حاله من جهة ما يطرحه على امتنا من تحديات. فتبقى وحدة وطننا الكبير ملتصقة التصاقا لاانفصام فيه بتحررنا من النظام الاميركي العالمي اللئيم الذي اقام بيننا وحولنا كل هذه العقبات والمشاكل التي تمزقنا.

الوحدة تتعثر بتردد المسؤولين

 

بعد اجلاء قدماء المستعمرين الفرنسيين والانجليز عن اول قطرين عربيين، سورية ولبنان، ملأت الوثنية القوتلية  ساحة  الكفاح السورية وشغلت الناس بمشاكلها بدلا من ان تستمر بقيادة الثورة السورية لتجعلها على رأس الثورة العربية لملاحقة  المستعمرين جميعا في كل ارجاء الوطن العربي في تلك الظروف التاريخية المؤاتية لتحرر الانسان. وقد مرت معنا الاشارة الى هذا الامر واشباهه اكثر من مرة في هذه الدراسة. ثم ان الحركة الوطنية السورية انشغلت بمؤامرات المستعمرين  وديكتاتورياتهم التي اقاموها في ربوعنا في الوقت الذي تمكنوا فيه من ارساء قاعدتهم العدوانية اسرائيل في فلسطين قلب وطننا. ولكن سلسلة المعارك مع المستعمرين انتهت بهزيمة الاستعمار القديم عندما تمكنت الحركة الوطنية السورية من السيطرة تماما على مقاليد الامور في بلدها في اعقاب الاطاحة بديكتاتورية اديب الشيشكلي، فكبدت الانجليز وخدمهم في  العراق هزائم كاوية باحباط مؤامراتهم ورد احلافهم وتشتيت شمل عملائهم والحكم عليهم  بجرائم الخيانة الوطنية في قضية المؤامرة الكبرى التي حبكوها في ذات الوقت الذي كانوا يدبرون فيه امر عدوانهم على مصر ونزولهم مع المستعمرين الآخرين الفرنسيين في بور سعيد. ولم يقم بعد هذا  لقدماء المستعمرين جميعا قائمة فانضمت فلول خدمهم الى الزمر الاخرى التي كانت تناصر وتعمل لخدمة الاستعمار الجديد الذي تزعم  فيه الاستعمار الاميركي جميع المستعمرين. وقد رأينا تفصيل  هذا  الامر في الحلقة السابقة من هذه الدراسة. واتت الحركة الوطنية السورية لتقود الجماهير في قطرنا السوري في ظروف تقف فيها وجها لوجه امام النظام الاستعماري العالمي الذي بدأت اميركا حينذاك بتبوؤ قيادته وامام كل العملاء والانتهازيين  الذين توحدوا تحت راية هذا الجديد بعد ان كانوا متناقضين  متعارضين ايام تناحر وتعارض اسيادهم القدماء والجدد من  المستعمرين. وكان من الطبيعي ان تلتقي الثورتان السورية والمصرية فتقوما بقيادة الجماهير العربية ضد المستعمرين، وكان  في هذا الامر خطوة كبيرة في اتجاه توحيد وطننا العربي على طريق الكفاح ضد النظام  الاستعماري  العالمي. وكان لابد من أن تعقبه خطوة عملية اخرى هي دمج قيادتي الثورة العربية في سورية ومصر في قيادة واحدة، اي توحيد القطرين. وهذا امر واضح شديد البداهة وان حاولت مختلف الجهات طمسه: من الوثنية الفردية الى العميان الذين ينادون باخذ ظروف المنتفعين،   تحت يافطة "الظروف الموضوعية" التي اسس لها الاستعمار طوال قرون، في الحساب ومراعاتها، وبالعمل على تجزيء تحرير اقطار الوطن العربي بتبني نظرية الفصل بين اركان الثالوث المذكور اعلاه التي لم تثمر الا الفشل والندامة، والى الانتهازيين اصحاب المصالح الفردية الضيقة والى اشباههم ممن  يلائمهم تمزق اوطاننا..

نقول اذن ونكرر ان وحدة الجماهير حينذاك في غليانها الثوري ضد المستعمرين بكل اشكالهم كانت بطبيعة الحال  تضغط باقصى الشدة في اتجاه انجاز الخطوة التالية على طريق ذلك الكفاح. في اتجاه انجاز وحدة القطرين السوري  والمصري. واعلنت الثورة المصرية بلسان قائدها عبد الناصر في عيدها الثاني وحدة الثوار العرب حيث قال: "ايها الاخوة المواطنون لقد بدأت مصر مع العرب عهدا جديدا، عهد قوامه الاخوة الصادقة الصريحة، التي تواجه المشاكل وتفكر فيها وتعمل على حلها. ان هدف حكومة الثورة ان يكون العرب امة متحدة يتعاون جميع ابنائها على الخير للجميع. ان الثورة تؤمن ان عبء الدفاع عن البلاد  العربية يقع اول ما يقع على العرب وحدهم وهم جديرون به".

  وفي السابع والعشرين من حزيران عام 1955 اعلن رئيس الوزراء السوري في المجلس النيابي مايلي: "سنسرع في  توثيق علاقاتنا مع مصر من خلال محادثات فورية نأمل أن تؤدي الى سياسة مشتركة بين سورية ومصر ندعو الدول العربية المتحررة الى اتباعها كيما يصبح بالامكان تحقيق وحدة عربية شاملة". وتشكلت في الخامس من تموز عام 1956 لجنة وزارية برئاسة صبري العسلي وعضوية وزير الخارجية صلاح البيطار ووزير الداخلية احمد قنبر للتفاوض مع مصر في هدف اقامة علاقة وحدوية معها. ورحب المجلس النيابي السوري بهذه اللجنة عند تشكيلها بالقرار التالي: "ان مجلس النواب التزاما منه بالفقرة الثالثة من المادة الاولى من الدستور التي نصت على ان الشعب السوري جزء من الامة العربية يؤيد قرار  الحكومة الذي اعلنه رئيس الوزراء في هذا الاجتماع ويرجو للحكومة النجاح في اتباع  هذا الطريق المقدس الذي يقربنا في  المستقبل القريب من الهدف الذي انتظره الشعب العربي في كافة اقطاره". ولكن كل محاولات دفع التقارب بين القطرين الشقيقين السوري والمصري لم تتجاوز قيام القيادة المشتركة بين جيشي هذين القطرين العربيين، الامر الذي يمكن قيامه بين دولتين من قوميتين مختلفتين تعاديان معا دولة ثالثة: كانت مثلا توجد دوما قيادة مشتركة بين انجلترة وفرنسا موجهة ضد المانيا، ويوجد حاليا قيادة مشتركة بين دول الغرب ضد قيادة مشتركة لدول الشرق. لقد كانت الاطاحة بتلك "الظروف الموضوعية"، لاعادة وحدة القطرين المذكورين كنقطة انطلاق على طريق الكفاح الثوري لتحقيق وحدة الوطن العربي بكامله، تعني الاطاحة بكيان القطر العربي السوري ووجوده بالنسبة للمستعمرين وخدمهم، وكأن وجود القطر العربي لا يتحقق الا بـ "خلعه" من وطنه الكبير ليشكل كيانا هزيلا له مؤسسات دولة وان كانت ضعيفة خانعة... يقول مثلا باتريك سيل في "الصراع على سورية": "في اواخر صيف عام 1957 اصبحت سورية على شفا الانحلال كمجتمع سياسي منظم، ولم يقتصر الامر على وجود اتفاق حول القواعد التي تحدد السلوك السياسي ولكن - وهذا الاسوأ - فقد  الكثيرون من السوريين الثقة بمستقبل بلادهم ككيان مستقل. لقد حدثت اخطاء في جهاز الامن، ذلك الجهاز الذي يقوم في معظم المجتمعات بضمان عدم وصول الانشقاقات الداخلية الى مرحلة  تدمير الدولة نفسها بحيث لا تبقى ثمة اخطاء يجري النزاع حولها...". انتهى  قول باترك سيل. فنرى ان هذا الكاتب الاستعماري لتاريخ سورية في تلك الحقبة يتجاهل تماما الانتصارات الكبيرة التي كان يحققها هذا القطر الواقف  بزعمه على شفا الانحلال على المستعمرين وفي طليعتهم دولته بريطانيا وسيدتها العبودية الاخرى اميركا. وفي الواقع كانت تلك "الظروف الموضوعية" التي هيأ اسسها المستعمرون هي التي كانت تنحل تحت ضربات قوانا الوطنية في الوقت الذي كان يسير فيه قطرنا السوري بخطى ثابتة نحو تحقيق الحلم الثوري الكبير للعرب باقامة الوحدة مع مصر.

وجرت محاولات لتوحيد الجيشين السوري والمصري بدلا من تساندهما في اطار قيادة مشتركة، كما وحد خالد بن  الوليد جيوش ابي بكر الاربعة الى بلاد الشام بتعبئتها قبل المعركة الحاسمة في اليرموك في جيش واحد، وكما وحد صلاح الدين قوات الشام وقوات مصر لخوض معركة ضد صليبيي البابوية، ولكن كل تلك المحاولات كانت تبوء بالفشل فيبقى كل واحد من الجيشين المذكورين منفصلا عن الآخر بكيان  قطره الذي يحكمه دستور مستقل فلا تتجاوز عملية  توحيدهما حدود تلك القيادة المشتركة. وقد جرت ايضا محاولات اخرى  بين لجان حكومية من الطرفين السوري والمصري لتجاوز التحالف القائم حينذاك بين هذين القطرين الى شكل اعلى من التوحيد فكانت تلك المحاولات تسقط امام الاستقلال الدستوري لكل من القطرين. وكانت المحاولة تنتهي في بعض الاحيان الى "تمثيلية تهريج" لافائدة منها ويبقى كل من هذين القطرين مختلفا  بكيانه  الدستوري المستقل بالشكل الذي يشتهيه لنا باتريك سيل المعبر عنه بعباراته الواردة  اعلاه. فعندما اتى مثلا انور السادات على رأس وفد من  مجلس الامة المصري الذي كان يرأسه هو حينذاك ليتفاوض مع وفد من نوابنا برئاسة اكرم الحوراني رئيس مجلسنا حول مسألة دفع عملية توحيد القطرين الى الامام، كان ذلك بعد  وصول الطراد المصري الى ميناء اللاذقية في الثالث عشر من  تشرين الاول عام 1957 حاملا الكادرات القيادية والفنية لسد نواقص واحتياجات الجيش السوري، انتهى الامر الى تمثيلية  قيام السادات بترؤس جلسة لمجلس نوابنا وضع اثناءها العلمان القديمان لسورية ومصر واحد عن يمينه والآخر عن شماله، ربما ليثبتا ان كل شيء باق على حاله وان هناك دولتين منفصلتين وليس دولة واحدة موحدة!.. وقد  تكررت التمثيلية في القاهرة عندما ذهب في اواخر الشهر المذكور الاستاذ اكرم الحوراني بوفد نيابي سوري وترأس  هناك في النتيجة جلسة لمجلس الامة المصري بعلمين، واحد  سوري وآخر مصري عن يمينه وشماله... ولكننا نتساءل اليوم عن الدافع الذي اجبر أولئك المسؤولين في القطرين للقيام  بذلك  التهريج العبثي في تلك الايام، التهريج الذي لا ينطلي على احد والذي يعرفون هم بالذات انه عبث لايقدم في الامر  شيئا؟.. انه التناقض الصارخ بين ارادة الجماهير التي كانت تخوض في القطرين المعركة الكبرى للتحرر الحاسم من المستعمرين ومخلفاتهم التي يأتي تمزيق وطننا في مقدمتها وبين قيام كيانين منفصلين من وطن واحد هو الوطن العربي الكبير. كان هناك تناقض صارخ بين  تلك الارادة  للجماهير للخلاص من الشرذمة والفرقة لبقعتين من وطن واحد وبين عجز المسؤولين  المذكورين عن ازالة هذه الشرذمة بتوحيد ماهو واحد في الاصل، الامر الذي ادى بأولئك المسؤولين الى محاولة تغطية ذلك العجز بتلك التمثيلية الضحلة.

وكانت استقلالية قيادة كل من الحركتين الوطنيتين السورية والمصرية، الواحدة عن الأخرى، والحرص على هذه الاستقلالية، السبب الأول والكبير لعجز مسؤولي القطرين في تلك الايام عن الاقدام والمبادرة لتحقيق تلك الوحدة. فكان لا بد اذن من العمل على توحيد هاتين المدرستين لتوحيد الثورتين في ثورة واحدة  للوصول  بالتالي الى توحيد  القطرين المذكورين: في الواقع لا مجال لوجود الثورتين من اجل هدف واحد لوطن واحد، فالوطن هو الوطن العربي والثورة هي الثورة العربية. وعندما لا يكون هناك فردية وثنية، في الطرفين معا او في احدهما، فان توحيد المدرستين لا يعني إلغاء احدهما بطرد رجالها من ساحة الجهاد. وكذلك يكون توحيد القطرين لمصلحة انسانهما وفي سبيل تحقيق الهدف الوطني الكبير وهو اقامة المجتمع  العربي الموحد على كامل ارض وطنه والمنظم بدستور واحد يقوم عليه نظام واحد. وليست وحدة تلك التي لاتضمن على كامل ارض الوطن تعاون الناس وتكاملهم وتكافلهم في اطار تساوي الفرص امامهم جميعا. ولكن الامر ما كان يتجه باخلاص في هذا الاتجاه في كل من الحركتين الوطنيتين السورية والمصرية. كانت زعامة البعث مثلا تحاول الاستفادة من الشعبية التي اكتسبتها الثورة المصرية عند الجماهير العربية للفوز بالانفراد بحكم سورية. وقد اذاعت الحكومة المصرية بوسائل اعلامها في اعقاب فشل محادثات الوحدة الثلاثية  بين مصر وسورية والعراق اسرار لقاءات جرت بين جمال عبد الناصر من جهة وبين زعماء البعث الثلاثة ميشيل عفلق وصلاح البيطار واكرم الحوراني في الايام الاولى للوحدة السورية المصرية من جهة ثانية. وتبين ان هؤلاء الزعماء البعثيين كانوا بحسب الاعلام المذكور يحاولون في تلك اللقاءات اقناع عبد الناصر بتسليمهم حكم القطر الشمالي، اي سورية، مع تشكيل قيادة سرية لمجموع الجمهورية المتحدة تتألف منهم ومن عبد الناصر. ويضاف الى هذا شكوك قادة حزب البعث القديمة والعميقة بالعسكريين وديكتاتوريتهم، فكانوا يبحثون عن كل ضمان لاستمرارية تأثيرهم في الساحة السياسية عند الوصول الى وحدة القطرين ويعملون جهدهم على ان لا يبتلعهم "العسكر" قادة الثورة المصرية. ولكنهم مع ذلك ماكان باستطاعهم مناقضة انفسهم كبناة لحزب وحدوي ومناقضة الجماهير الشعبية التي كانت تدفع بلا هوادة قادة الحركة الوطنية ليعجلوا بانجاز الوحدة مع مصر. ففي اواخر حزيران مثلا عام 1956 تقدم اكثر من ثلاثة الاف طالب من جامعة دمشق بعريضة الى مجلس النواب يطالبون فيها بتحقيق وحدة القطرين. اما الثورة المصرية فكانت مساعيها الوحدوية تتجه نحو "تزعم" الاقطار العربية بالعمل الحثيث على ايجاد حكومات في هذه الاقطار تعترف بزعامتها وتخضع لها بصورة من الصور. وهذا امر طبيعي بالنسبة للمصري الذي انفصل عن اخوته العرب مدة طويلة على اعتبار ان مصر هي اكبر الاقطار العربية وتتصدر بحق النهضة العربية المعاصرة. ولكن هذا الامر بالذات لايقدم ولايؤخر في الامر شيئا، فقد سبق وقلنا اعلاه ان الوحدة الحقيقية هي عملية ثورية تحررية من كل اشكال التبعية، وبالتالي فان المصري ليس مصريا باكثر من السوري الذي هو ايضا ليس سوريا باكثر من المصري، وكذلك الحال بالنسبة لكل قطر من اقطار الوطن العربي.

ورثت الثورة المصرية الجامعة العربية بعد انهيار الاستعمار البريطاني وجعلت من هذه الجامعة جهازا لتحقيق  طموحاتها الانفة الذكر واطار تعمل في حدوده لقيادة الامة العربية. اي انها اختصرت الطريق والتجأت الى ماهو محقق في الواقع لاستثماره في قيادة شؤون الامة العربية. فكانت وحدة العرب بمفهومها هي وحدة  سياساتهم بقيادتها. قال محمود رياض لباتريك سيل في كانون الاول عام 1961  في القاهرة: "لم نطلب الوحدة مع سورية مطلقا، بل اوضحنا دائما بان الفكرة سابقة لأوانها.. لقد كانت سياستنا في الواقع هي تجنب الوحدة..". ولكن محمود رياض هذا، الذي كان يتريث بعملية الوحدة ويحاول تأخيرها بتعليمات من حكومته بطبيعة الحال، كان في ذات الوقت يتدخل بالكبيرة والصغيرة في شؤون سورية الخاصة، وما كان ذلك ليؤذي  شعورنا بل كنا نجده امرا طبيعيا يجعلنا نرحب باهتمام الثورة المصرية بكل شؤوننا لاننا وحدويون والثوار المصريون ليسوا غرباء عنا. الا انه من الوهم ان يعتقد هذا الموظف في خارجية الثورة المصرية بان  الفضل يرجع اليه في اشاعة هذا الجو الملائم لهذه الثورة في سورية، فيعمل على نقل الوهم المذكور الى كل من حدثه عن ايامه في دمشق من المؤرخين والصحفيين العرب والاجانب حتى بلغ الامر بهؤلاء الى تصوير حركتنا الوطنية وكانها من صنعه هو وليست من افراز شعبنا السوري العريق، ككل العرب، بجهاده. ولكن العلة الاساسية التي كانت تصيب، وماتزال  بكل اسف، حركاتنا الوطنية هي فقدان العقيدة التي تقوم على تحديد هويتنا كأمة ثائرة على التمزق الذي سببه ويرعاه المستعمرون مع بقية الادواء التي اصابونا بها وتبين انه لابد من العمل على ادامة وتصعيد ثورتنا مادام الاعداء على اختلاف اشكالهم المجتمعة في نظامهم العالمي يسدون علينا سبل التحرر للانطلاق نحو اهدافنا القومية. والعقيدة التي افتقدناها ونفتقدها ايضا هي الانتهاء من تحديد عدونا تحديدا دقيقا لتوجيه كفاحنا الوجهة الصحيحة فلا نتخبط في قفص المستعمرين عندما ننشد  التحرر. لقد كان تأخر حل مسألة العقيدة هذه السبب الاساسي في تخبطنا في مسيرتنا الثورية منذ تلك الايام حتى يومنا هذا.

قيام الوحدة

 

اتت السنة الاخيرة لمجلس النواب السوري ولرئاسة شكري القوتلي ونحن نحتفل بانتصاراتنا الكبيرة على المستعمرين الاميركان وحلفائهم في اوروبا وآسيا. واذكر انني اجبت على سؤال لمندوب جريدة المساء القاهرية في زيارة روتينية لي لمصر بقولى: "جئت لاقتسم مع اخوتي رجال الثورة المصرية ثمار النصر العظيم على المستعمرين الاميركان الذين يلقون حاليا بحرسهم الامبراطوري في اتون  المعركة". وكنت اقصد بهذا التعبير تشبيه الاميركيين بالامبراطور نابليون بونابرت   الذي القى بحرسه الامبراطوري آخر احتياطي لديه قبل ان يهزم الهزيمة النهائية في واترلو. وكان امامنا طريقان في تلك الظروف. الأول ان نترك الامور تتطور في سورية الى ان تنتهي مدة مجلس النواب وتقوم انتخابات لمجلس جديد، والثاني ان نعمل على تحقيق وحدة جدية مع مصر كثمرة لانتصار الحركتين الوطنيتين في سورية ومصر. ففي الحالة الاولى كان من  المؤكد ان تفوز الجبهة الوطنية السورية لاقامة مجلس نواب تكون لها فيه الاكثرية الساحقة. وفي هذه الحالة سوف لا يكون هناك اي عائق جدي يقف امام تحقيق الوحدة مع مصر حتى ولو جاء خالد العظم خلفا للقوتلي في رئاسة الجمهورية السورية،  وذلك لأن مسيرة الجماهير حينذاك وضغطها الهائل كانا يعملان بقوة لاترد في هذا  الاتجاه. اما الحالة الثانية ففيها اختصار للطريق عندما تتحقق الوحدة مباشرة دون انتظار ابتعاد الرجعية السورية والعربية عن التأثير في توجيه الاحداث بفشلها في  الانتخابات النيابية المنتظرة: كان من المؤكد ان الوحدة مع مصر ستشكل المطلب الأول للناخب عندما سيدلي بصوته في الانتخابات المنتظرة.

وكنت كغيري من جماهير شعبنا السوري ارى ان تلك المحاولات الوحدوية غير الصادقة التي كان يقوم بها المسؤولون في ثورتي القطرين هي مجرد هروب من العجز عن تحقيق الوحدة الصحيحة، العجز امام مخلفات المستعمرين القدامى في  اوطاننا وهجمات المستعمرين الجدد وجهودهم لابقائنا ضعفاء امام قاعدتهم التي اقاموها للصهاينة في فلسطين. ورأيت ان بالامكان مساعدة أولئك المسؤولين للتغلب على هذا العجز بجعل الجيش السوري يتدخل  فيأخذ المبادرة لتحقيق ارادة الجماهير العربية ويحرر قيادة الثورة السورية من ترددها في هذه المسألة الوطنية. ومثل هذه الحركة تختلف جذريا عن الانقلاب العسكري لأن فيها تدمير لموقع استعماري عندما تزيل بالوحدة تمزق الوطن، وهي فرض على كل من يستطيع ذلك عسكريا كان ام مدنيا. وهي لا تتطلب ترتيباً تآمرياً من اي نوع كان فازالة الاذى الاستعماري يكون جهاراً في رابعة النهار وان تطلب مباغتة العدو بالمبادرة كي لانترك له اية فرصة لاثارة الخوف والتردد عند البعض والمعارضة المبطنة عند البعض الآخر من اصحاب المصالح الانانية. والمستعمرون جميعا وكل خدمهم من الانتهازيين والوثنيين عبدة الفرد لا يستطيعون اليوم تفسير ماجرى لانهم بوغتوا حينذاك واخذوا على حين غرة وخرج الامر من ايديهم وتمت الوحدة كما ارادتها جماهيرنا العربية.

استدعيت في صباح الثاني عشر من كانون الثاني عام 1958 معاوني العميد امين النفوري وطلبت اليه ان يستدعي  الضباط ممثلي الجبهة الوطنية العسكرية لاجتماع طارئ يعقد في مكتبي في مساء اليوم ذاته. وافهمته ان قصدي من هذا  الاجتماع هو بحث مسألة الوحدة الفورية مع مصر ولكن عليه ان لا يعلن هذا الامر لاي كان لانني ساعلنه بنفسي عند  افتتاح الاجتماع المذكور وذلك لضمان السرية ومباغتة المعارضين. كما اصدرت امرا باعداد طائرة لرحلة طويلة  يقف طاقمها على اهبة الاستعداد للانطلاق الفوري: كان من الواضح لكل ذي عينين ان معارضة الوحدة الفورية مع مصر كانت مستحيلة في اجواء تلك الايام التي كنا نكافح فيها الاستعمار الاميركي ونكبده الهزائم الكاوية، فكان بالتالي لابد من مباغتة المعارضين الذين ماكانوا ليجرأوا على اعلان معارضتهم وحرمانهم من اي فرصة للمناورة بإطالة الاخذ والرد في هذا الموضوع وتعطيله في النتيجة. وعند افتتاح الاجتماع في الساعة السادسة من مساء ذلك اليوم ذكرت الضباط المجتمعين بان البند الأول من ميثاق جبهتنا الوطنية ينص على ان مهام الجيش العمل على تحقيق اهداف امتنا العربية التي يأتي في مقدمتها تحقيق وحدة وطننا  الكبير بدءا من الوحدة مع مصر. واقترحت الامور التالية:

     1. ارسال كتب بنص واحد موقعة من قبل القائد العام للقوات المسلحة اللواء عفيف البزري الى كل من رئيس  الجمهورية السيد شكري القوتلي ورئيس مجلس النواب السيد اكرم الحوراني والى رئيس الوزراء السيد صبري العسلي والى وزير الدفاع السيد خالد العظم. ويتضمن ذلك النص تذكيرا لمسؤولي الدولة بدستور الجمهورية القائل بانها جزء لا يتجزأ من الوطن العربي وان على قادتها ان يعملوا بكل جدية على تحقيق الوحدة العربية بعد ان انتظرت امتنا طويلا جدا تحقيق هذا الهدف الكبير المصيري، ويتضمن ايضا طلبا الى مسؤولينا بان يبادروا فورا باتخاذ الخطوات اللازمة لاقامة وحدة مع القطر  المصري الشقيق المتحرر كمنطلق نحو تحقيق وحدة كافة اقطار وطننا الكبير. ويحمل  الكتب المذكورة الى المسؤولين السوريين وفد من الضباط  يرأسه العميد امين النفوري.

     2. تشكيل وفد من الضباط يرأسه اللواء عفيف البزري يذهب مباشرة الى مصر بعد انتهاء الجلسة والموافقة على هذه  المقترحات للطلب الى قيادة الثورة المصرية لتباشر الاتصال بسورية لتحقيق الوحدة معها كخطوة اولى نحو توحيد وطننا العربي الكبير.

     3. استدعاء العقيد عبد المحسن ابو النور الملحق العسكري المصري وضابط القيادة المشتركة في دمشق والطلب اليه ان يبرق الى القيادة المشتركة لاستقبال وفد الضباط السوريين  المذكور في القاهرة.

تمت الموافقة بالاجماع على مقترحاتي بدون اية صعوبة ووقعت الكتب الآنفة الذكر التي كانت جاهزة امام الحاضرين  وسلمتها الى العميد امين النفوري ليقوم بتسليمها في صباح اليوم التالي الى اصحابها. وتم استدعاء الملحق العسكري المصري في اثناء ذلك الاجتماع وابلغته بالامر وطلبت اليه الاتصال بقيادته لاستقبالنا في القاهرة التي سنصلها في تلك الليلة بالذات.   وقد حاول عبد المحسن ابو النور هذا ان يتدخل في الموضوع ويثنينا عن تنفيذ قراراتنا لكنني اسكته بحزم وقلت له ان قرارنا هو قرار مدرسة لها قيادة وان عليه ان يقوم بوظيفته كملحق عسكري لمصر وممثل لجيشها في القيادة المشتركة فيبلغ قيادته برقيا بتوجهنا الى القاهرة في تلك الليلة. ثم نهضت ودعوت الضباط الذين سيرافقونني في تلك الرحلة الليلية الى مصر للذهاب الى المطار حيث كانت الطائرة بانتظارنا هناك.

واتى المشير عامر للسلام علينا في قصر الطاهرة في صبيحة اليوم التالي وللاطلاع، كما هي العادة، على اسباب  مجيئنا الى مصر بالتفصيل ثم نقل الامر للرئيس عبد الناصر قبل مواجهتنا. وفي مساء الثالث عشر من كانون الثاني عام  1958 جرى اللقاء الحاسم، بين الوفد السوري وبين ضباط قيادة الثورة جميعاً برئاسة عبد الناصر، في بيت الرئيس في  منشية  البكري. وبعد السلام والسؤال عن الأحوال خاطبت  الرئيس عبد الناصر بقولي: "ان الساعة قد دقت لانهاء هذا  التمزق الذي طال كثيرا لوطننا العربي وللبدء بجمع شمل امتنا العربية بدءا بتوحيد القطرين السوري والمصري، التوحيد الذي طالما رد عن العرب والاسلام أرجال الطامعين في خيرات اوطاننا. وقلت انه قد جرت محاولات وحدوية بين  قطرينا في السنوات الاخيرة ولأن كل هذه المحاولات لم تؤد الى اي نتيجة ايجابية بسبب العوائق الدستورية التي خلفتها لنا عهود الاستعمار والتي بكل اسف مازلنا نتمسك بها ونعيش تحت حكمها. وتساءلت قائلا فيما اذا كنا حقا ثوارا نتطلع الى تحرير  امتنا من كل ما ابتلانا به المستعمرون من مصائب يأتي في مقدمتها تمزيق اوطاننا وخلق  كيانات ضعيفة منها لاتقدر لتمزقها على الدفاع ضد عدو في حجم اسرائيل. وتساءلت ايضا قائلا اننا هنا جميعا، سوريين ومصريين، احرار في قرارنا هنا وفي هذه اللحظة فما الذي يمنعنا من اعلان توحيد قطرينا العربيين؟.. ثم انتهيت الى توجيه الكلام الى شخص الرئيس جمال عبد الناصر وقلت له: انك ياسيادة الرئيس جمال عبد الناصر تمسك في  هذه اللحظة التاريخية بتطلع وامل الاجيال العربية ولا بد  لك من ان تقول "نعم للوحدة الفورية". عندئذ استعرض عبد الناصر رفاقه المصريين بنظره، ثم التفت الينا وقال: "هذا  اليوم  هو عيد ميلادي الاربعون واقول نعم للوحدة الفورية..". ثم انه بعد هذه العبارة لم يدر اي نقاش بيننا سوى ان الرئيس قال ان  الاوضاع السياسية غير متشابهة في القطرين فهل من المعقول ان نترك الامور على  ماهي عليه؟.. فاجبت اننا ثوار ننجز عملا ثوريا ولابد من اتخاذ كل اجراء لتحقيق الهدف الكبير الذي هو الوحدة لصالح الجماهير في القطرين الموحدين. فاجاب "على بركة الله". وقمنا نتصافح ونتعانق والسعادة تملاء قلوبنا لانجاز الحدث العظيم.

وكانت هذه هي قصة الوحدة بكل بساطة وماكنا حينذاك لنحلم او نتصور الصور الكاذبة القذرة التي خرجت فيما بعد  من مخيلات الاعداء وخدمهم من الانتهازيين والطامعين والوثنيين واشباههم لتشوه ذكرى تلك اللحظات المجيدة من تاريخ  امتنا. لقد قمنا بواجبنا حينذاك وادينا مهمتنا  بنجاح مدهش وبنصر مبين.. ثم ان  المدرسة السورية التي حققت الوحدة والتي كان عليها ان تحرس هذه الوحدة تحطمت وتحطمت بعدها الوحدة التي اوكل الى عملاء اميركا امر حراستها. ولكنني كنت مبعدا عن ساحة هذه الاحداث الاخيرة التي ليس لي فيها يد او حيلة.

 

انتهت الدراسة