سورية جزيرة الحرية الخضراء

 

 

الفريق عفيف البزري


المقدمة

 

نحن اليوم أمام انطلاق تغير عالمي شامل ماكان بحسبان أحد, ولكنه مع ذلك لايخرج بطبيعة الحال عن قوانين الطبيعة التي يتجاهلها المعاندون دوماً فتفاجئهم بنتائجها.  فالاحتكاريون الرأسماليون مثلاً مرتاحون اليوم و مغتبطون بانهيار المعسكر الذي كان يعاديهم و يقض مضاجعهم ولكنهم بعنادهم وكفرهم بقوانين حركة الطبيعة و خاصة منها قوانين حركة المجتمعات الانسانية, لا يصدقون أن التراكم الكمي لايمكن أن يستمر الى مالانهاية له ولابد له من أن يصل الى حدود تتقطع فيها تحت ثقله مختلف العلاقات و تنهار معها كل السدود التي تحتويه, فيقوم عندئذ ذلك التغير الكيفي على علاقات و سدود جديدة مناسبة, ذلك التغير يفاجئ الغافلين.  وهؤلاء الاحتكاريون, كالبيروقراطيين الوثنيين الذين طالما امتهنوا قوانين المادية الجدلية, لا يعتقدون بوحدة العالم.  .  فالأولون لا يرون في نظام جملة المجتمعات الانسانية الشامل سوى نظامهم الجزئي الضامن لمنفعتهم ورغباتهم, ويتجاهلون متممات هذا النظام الجزئي في عالم المقهورين وعالم الاشتراكيين في ذلك الشامل.  فنراهم بالتالي مسرورين، بلا موجب، بانهيار المعسكر الاشتراكي ظنا منهم بأن عالمهم الجزئي بنجوة من ذلك الزلزال العام الكبير الذي بدأ بالاطاحة بشقه الآخر المتمثل بالمعسكر الاشتراكي وهو لابد من أن يمتد اليه ليطيح به بدون امهال.  أما الآخرون فظنوا أن التحول الى الطور الانساني الأعلى، الى مستقبل الانسانية, يخصهم وحدهم حاليا فقط.  فأنكروا مرحلة الانتقال العالمي الى ذلك المستقبل كما أنكروا أن نظامهم الجزئي يشكل جزءً من هذه المرحلة العالمية, وقالوا بالتالي بأنهم حققوا لوحدهم هذا المستقبل عندما انتهوا بزعمهم الخاطئ من بناء الطور الاشتراكي بكل أبعاده وتخطوا بمجتمعهم لوحده عتبة الطور الشيوعي.  واختلطت عليهم قوانين المادية الجدلية حتى تجدهم في بعض الظروف يتجاهلون هذه القوانين عندما تتعارض مع جمودهم ووثنيتهم أو أنهم يسيئون تطبيقها.  فينطلقون من مبدأ غير صحيح وهو امكان تعايش الاشتراكية والرأسمالية كضدين متجادلين، الى أن تنفي الأولى الثانية بحسب تأكيدات قوانين المسيرة للانسانية وبحسب قانون وحدة ونضال المتضادات.  والواقع أن هذه النظرة الانتهازية ما هي سوى مجرد دجل وتلاعب بليد أخرق بقوانين المادية الجدلية.  فالجملة الانسانية كوحدة مادية على كوكب واحد في الكون وفي حدود عالم واحد للأحياء يتطور ويتقدم بحسب قوانين موضوعية، هذه الجملة لا تقوم فيها الا حالة عامة واحدة يفرضها نظام عام موحد, وإن تناقضت أجزاؤه, هو نظام أكثر المجتمعات تقدما ماديا فيها بحيث لا يقوم فيها الا طور انساني واحد.  وهي تنتقل من طور الى طور خلال مرحلة انتقال عامة ككل الجمل المادية القائمة في هذا الكون.  فالرأسمالية مثلا هي طور واحد لكل الجملة الانسانية, فتستوعب كل مجتمعاتها متقدمها ومتخلفها.  ونحن حاليا في هذا الطور الذي يتحول بمرحلة انتقال لها بكليتها الى الطور الأعلى المقبل, الذي هو بحسب المفهوم الماركسي, طور الاشتراكية الذي سيكون بدوره طورا سائدا عالميا بنفيه الطور الحالي، سيكون بدوره سائداً في كل الجملة الانسانية فيستوعب كل مجتمعاتها.  وعلى هذا الأساس نجد أن أزواج المتضادات المتفاعلة بالنضال (نضال الضد لنقيضه الموحد معه في كل زوج من أزواج المتضادات) تتغير في الطور الواحد وتتغير كلياً من طور الى طور, فتقوم دوماً و تزول معاً: و الدائن بالفائدة و المدين, و االمستعمِرالغاشم و المستعمَرالمنهوب الخ...    كل أزواج المتضادات هذه تخص الطور الرأسمالي حيث نجد كل متضادين منها في نضال ووحدة لا تنفصم إلا بزوالهما معا, حيث يقوم بعد هذا تضاد آخر لنقيضين آخرين يتفاعلان بتضاد مناسب وفي وحدة تجمعهما.  وبديهي أن تختفي كل هذه المتضادات الرأسمالية بزوال طورها الرأسمالي لتنتقل الجملة الانسانية الى الأعلى الذي له تناقضاته ومتضاداته.  ولننظر فيما يلي عن قرب أكثر الى تطبيق هذا القانون الجدلي, قانون وحدة و نضال المتضادات, على الطور الرأسمالي فنقول:

 

- تشكل في الجملة الانسانية طغمات الرأسماليين، على اختلاف مواقع ووظائف أفرادهم وجماعاتهم وأعوانهم في نظامهم المحلي والعالمي، مع جماهير العالم المسحوقة بالرأسمالية من عمال وفلاحين فقراء وشعوب مغلوبة على أمرها جائعة منكوبة بالعدوان المستمر والنهب الرأسماليين، نقول تشكل هاتان المجموعتان، أقلية الظالمين وأكثرية المظلومين بمختلف أشكال الظلم، القطبين العامين المتضادين والموحدين في طور واحد هو طور الرأسمالية للجملة الانسانية الواحدة الموحدة.  هذان القطبان العامان يتفاعلان بحسب قانون المادية الجدلية القائل بوحدة ونضال المتضادات (في تكوين مادة الكون وتطورها) طوال قيام الطور الرأسمالي ثم يزولان معاً ليقوم على آثارهما قطبان عامان متفاعلان آخران في الطور المقبل, يمثل على العموم أحدهما الجمود الوثني, والآخر حركة الدفع.

 

- ان مزدوجة القطبين العامين الآنفي الذكر للجملة الانسانية هي محصلة ما لانهاية له من شبيهاتها مزدوجات المتضادات القائمة كل واحدة على مركبتين متضادتين متفاعلتين.  ويمكن تقسيم هذه المزدوجات الجزئية الى زمر و مجموعات تخص كل مجموعة منها جماعة من البشر أو مجتمعاً أو أمة أو ما شابه من التصنيف.  وقد مر معنا أعلاه مثال الواحدة منها: صاحب العمل وعماله مثلا، والدائن بالفائدة والمدين،  و المصرف الرأسمالي ومجموع من يقدم له الفوائد, وجملة كل جهة ظالمة بشكل من الأشكال, وجهة مظلومة في مجتمع واحد أوبين المجتمعات الخ...  ونكرر و نقول أن مزدوجة المتضادين الواحدة تنشأ بمركبتيها معاً وتتطور أثناء تفاعل مركبتيها بالشكل المناسب و تنتهي بمركبتيها معاً:  الدائن يقوم مع المدين بعملية الربا مثلاً و تنتهي هذه العملية لتقوم أخرى على غرارها, الرأسمالي و عماله يقومون معاً طوال قيام المعمل أو ورشة العمل, و عندما يغلق المعمل أو تنتهي الورشة لايبقى هنالك أي وحدة أو ترابط بين صاحب العمل و العمال, تزول المزدوجة و مركبتاها المتضادتان معاً كما قامتا معاً بقيام تفاعلهما و عاشتا معاً طوال هذا التفاعل.  وقد أشرنا أعلاه الى أن لكل طور انساني متضاداته, مزدوجاته, فلا تتكرر على العموم في الأطوار الأخرى.

 

- ان الاشتراكية هي طور انساني عالمي يسود نظامه جملة المجتمعات الانسانية كلها عند قيامه كما ساد في هذه الجملة الطور الرأسمالي.  لذلك فانه لا يشكل مع الطور الرأسمالي مزدوجة متضادين، لا يشكل القطب المعاكس له، لا يكون معه في وحدة وتضاد، اذ لا معنى اطلاقا لهذه الصورة التي لو قامت لكان قيام هذين المتضادين معاً ودوامهما معاً و زوالهما معاً، ككل أزواج المتضادات التي يشملها قانون وحدة ونضال المتضادين.  هنا يتضح لنا كم كان مخطئا ذلك الذي حاول أن يحشر هذين الطورين، طور الرأسمالية وطور الاشتراكية، في زمان واحد, فقال بتعايشهما مع أن القانون الذي يرتبطان به ويخضعان لنتائجه الحتمية هو قانون "نفي النفي" القائل بأن الجديد ينفي القديم ويقوم مقامه سائدا كليا, كما نفى القديم الأقدم وقام مقامه وساد كليا.  ثم أن مرحلة الانتقال من طور سابق الى طور لاحق هي مرحلة الثورة التي توصلنا الجديد و ليست هي الجديد و إنما هي امتداد لنهايات القديم.

 

- تتميز مرحلة الانتقال العالمية من النظام الرأسمالي الى النظام الاشتراكي التي نحن فيها حاليا بتتالي مزدوجات تضاد واسعة ضخمة.  فعند قيام الرأسمالية الاحتكارية في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر, اتسعت وتعمقت في أوربا الأفكار الانسانية التي تنادي بأخوة الانسان ومساواة الناس لا سيما منها أفكار الاشتراكيين وكتاباتهم.  وقد ذهب الرأسماليون حينذاك لاتمام اقتسام العالم فيما بينهم، وفي المقابل اشتدت مقاومة المستضعفين من البشر في كل الدنيا فقامت الثورات ولم تتوقف في ذلك العصر هنا و هناك في الجملة الانسانية:  من مقاومة الهنود الحمر في أميركا لعملية إبادتهم الوحشية في الولايات المتحدة, الى ثورات العرب و المسلمين ومقاومتهم لغزو أوطانهم من قبل المستعمرين الرأسماليين, فثورات الأقوام الأخرى في أواسط آسيا و شرقيها ومقاومتها للغزاة الأوروبيين, فثورات العبيد على الظلم وانتهاك انسانيتهم.  وتبلور في بدايات مرحلة الانتقال، عند قيام أزمة الرأسمالية العامة واندلاع الحرب العالمية الأولى، مزدوجة تضاد كبيرة واسعة وعميقة: قطبها الواحد يتمثل بالامبريالية الأحتكارية الرأسمالية التي تقودها أوربا بجيوش احتلالها للعالم، وقطبها الآخر المتمثل بثورات الشعوب للتحرر من قهر الرأسماليين بشكليه الاستعماري و الاقتصادي, حيث تأتي ثورة اكتوبر في روسيا القيصرية في واجهة تلك الثورات.  وتفاقمت أزمة النظام الرأسمالي  العالمي فيما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية.  ووقع هذا النظام بين خطري تناقضاته الداخلية وثورات الشعوب المضطهدة من قبله و خطر الاشتراكية الآتي من الاتحاد السوفياتي ومن التيارات الاشتراكية الأخرى في أوروبا ذاتها وفي بقية العالم.  واندلعت الحرب العالمية الثانية نتيجة لهذه الأزمة العامة للرأسمالية وانتهت مزدوجة التضاد الآنفة الذكر بسقوط الاستعمار القديم في نهاية الحرب وقيام الاستعمار الجديد المتعدد الرؤوس بزعامة الولايات المتحدة الأميركية وزوال المستعمرات القديمة التي شكل مجموعها العالم الثالث وقيام المعسكر الاشتراكي الذي امتد من أوربا الى الصين وضم ما يقرب من ثلث الانسانية.

 

- إن المعسكر الاشتراكي هو نظام ثائر, خارج على النظام الرأسمالي الاحتكاري، واشتراكيته كما قلنا أعلاه لا تشكل الطور الاشتراكي بالمفهوم الماركسي العلمي و انما هي اشتراكية ثوار باقتصاد يسمح بمقاومة الثورة لأعدائها الاحتكاريين الرأسماليين, الثورة التي هي جزء من الثورة العالمية بكل أشكالها الاجتماعية و التقنية الدافعة بالجملة الانسانية الى الطور الاشتراكي العالمي الذي سيأتي و يسود عالمياً كما هو سائد الآن الطور الرأسمالي, انها اشتراكية ثوار مرحلة الانتقال العالمية.  ونجد أنه قامت في نهاية الحرب العالمية الثانية مزدوجة تضاد مرحلية عالمية أحد قطبيها الاستعمار الجديد المتعدد الرؤوس بقيادة الاحتكارية الأميركية, والقطب الآخر مجموعة قوى التقدم العالمية المنطلقة الى الخلاص من هذا الاستعمار الجديد, وقد تصدرها المعسكر الاشتراكي بقواه.  فالقطب الأول يمثل العدوان الذي كلف ملايين الضحايا بحروبه وتجويعه للناس في مختلف أقطارهم ومجتمعاتهم لا سيما أولئك الناس في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية.  ويتمثل أيضاً, على الأخص, بعلاقات الربا العالمية التي قيدت المتخلفين وزادتهم تخلفا ماديا على تخلفهم وأفسدت المتقدمين ماديا على فسادهم وضراوتهم في كره وعداء الانسان.  أما القطب الثاني فيمثل تطلعات الانسانية الى مستقبل أفضل، الى الاشتراكية, الى لحاق المتخلفيين بالمتقدمين ماديا (عن غير طريق الربا و تحكيم الآخرين باقتصاد الأولين و تمليكهم له بهذا الطريق), الى عالم التعارف والتعاون والتكامل والتكافل في حدود القانون الانساني )الصحيح و ليس الكاذب المزور بديمقراطية الرأسماليين)  قانون تكافؤ الفرص, الى أيِّ عالم تحترم فيه الذات الانسانية تحت أي اسم أو يافطة فلا تنتقص بالظلم والقهر.  وقد انهار المعسكر الاشتراكي كما أشرنا اليه أعلاه في مطلع هذا القسم من دراستنا، وصرح جورج بوش قائد القطب الآخر للمزدوجة المضادة، بأنه سيعمل على إقامة نظام عالمي جديد.  ثم أن غورباتشوف لحقه و نوه أكثر من مرة, لاسيما في خطابه في مؤتمر مدريد, بهذا النظام الجديد وهو السكرتير العام السابق للحزب الشيوعي السوفياتي الذي كان من وظائفه التبشير بالنظام الاشتراكي العالمي..

 

- بعد انهيار مزدوجة التضاد السابقة بانهيار المعسكر الاشتراكي لم تقم بعد مزدوجة التضاد الجديدة باستقطاب التناقضات الأساسية للعالم الحالي في قطبين عالمييين متفاعلين نضالياً.  وستكون بتقديرنا آخر مزدوجة تضاد عامة لجملة المجتمعات الانسانية, ستكون المزدوجة الأخيرة التي ينتهي فيها استقطاب الظلم الرأسمالي واستقطاب مقاومات ضحايا هذا الظلم في العالم لتبرز عتبة الطور المقبل، طور الاشتراكية المنتصرة عالميا بمزدوجات التضاد الخاصة بها.  ونكرر بهذه المناسبة ما نقوله دوما وهو أن هذه الاشتراكية هي غير المزعومة وثنياً, التي يدعيها أصحابها أثناء سيادة النظام الرأسمالي العبودي عالميا.  انها نظام تعارف الناس بتبادلهم الخدمات والمعروف وتعاونهم وتكاملهم وتكافلهم في حدود تكافؤ الفرص للأفراد والجماعات والمجتمعات الانسانية.

 

أن الاسباب المادية التي دعتنا الى تقدير هذه النتيجة الأخيرة, هي ما نراه الآن من فوضى عالمية بلغت أقصى مايمكن تصوره بحيث لاتكون إلا في الظروف التاريخية التي تسبق زوال طور انساني وقيام طور أعلى, ثم أن النظم الجزئية الثلاث التي كانت تتكامل وتشكل النظام العام لجملة المجتمعات الانسانية انهارت أو كادت تحت الضغط الهائل لجشع الطغمة العالمية للرأسماليين, الجشع الذي لايقف عند حد: انهار بشكل عام اقتصاد البلاد المتخلفة تحت أثقال فوائد الديون ووقع مابقي لها من ثروات بعد نهب المستعمريين في أيدي نفر قليل أعمى بأطماعه و انتهازه, في الوقت الذي انفرط فيه العقد الاجتماعي الذي يربط الناس بعضهم ببعض الآخر في هذه البلاد المتخلفة, فلم يبق فيها سوى الرباط البوليسي الذي هو عاجز بطبيعته عن النفوذ الى الأعماق, فلا يحفظ إلا الظاهر الرقيق غير الثابت.  وانهار المعسكر الاشتراكي الأوروبي وتحفزت ملايينه للنزول بثقلها الرهيب على جيرانها الغربيين الذين أخذوا يصرخون خوفاً من الزحف الأتي لملايين البشر الذي وصلت طلائعه إليهم طالبة لقمة العيش, وذلك بالإضافة الى ماتم وصوله إليهم طوال السنوات الماضية من سيول الأغراب من مختلف أنحاء العالم الجائع.  أما نظام المستعمرين الرأسماليين المترنح بأزماته, فإنه عاجز بطبيعته عن أن يضبط ما سببه و ما يسببه بجشع طغماته الأعمى من فوضى عالمية في جملة المجتمعات الانسانية.  وإن تجمع الثروات و القوى المادية في أيدي طغمات القلة المستبدة في العالم تزيل كما أشرنا قبل هنيهة, الروابط الاجتماعية بين الجماهير الكاسحة للأفراد و الجماعات و المجتمعات فلا يبقى إلا القهر ليديم تماسك النظام العام للجملة الانسانية, التماسك الذي طالما خيب شهوات وآمال الظالمين النائمين على الزلزال.  إن بوش يعترف اليوم بأنه في صدد بناء نظام رأسمالي جديد للعالم, أي أنه في صدد "تجديد بناء" نظامه العالمي دون أن ينتبه, برأينا, الى أنه يكرر تلك البيريسترويكا التي تعني بالروسية تجديد البناء, والتي أودت بالمعسكر الاشتراكي.  لن يكون حظ هذا البوش في هذه المغامرة أفضل من حظ سابقيه قادة المعسكر الاشتراكي عشية انهيار هذا المعسكر.  فالرأسمالية أعجز اليوم من أن تثبت عالمها الذي انفلت بتزعزع أنظمته الثلاث الآنفة الذكر, فالتاريخ لا يعود على أعقابه.

 

إن مايمكن تصوره حول آخر مزدوجة تضاد لنظام الطور الرأسمالي العالمي, المزدوجة المشار إليها إعلاه, هو أن بوش كرئيس سابق للمخابرات المركزية الأميركية, سيعمل على بناء أحد قطبي هذه المزدوجة بنظامه العالمي الجديد, بينما يتمثل القطب الآخر بالانفلات العالمي الذي آل إليه النظام العام لجملة المجتمعات الانسانية, بانفلات الرأسمالية الاحتكارية العالمية.  ونعتقد أن المخابرات المركزية ستتصدر, كما لم تتصدر أبداً في السابق على عمق و اتساع نفوذها العالمي, كل العلاقات الرجعية و الاجرامية العالمية, في الوقت الذي ستتصدر فيه ثورات العالم, الاجتماعية و التقنية, الحركة العامة لدفع الجملة الانسانية الى الطور الأعلى المقبل.

 

و بعد, إن الحرية التي جاهد السوريون و اللبنانيون طويلاً لينالوها باجلاء قدماء المستعمرين عن أراضي قطريهم, تشكل نموذجاً للاستقلال الذي ينشده انسان هذا العالم المعاصر.  فهذان القطران تخلصا من كل ارتباط قانوني بأي مستعمر و جد حينذاك عندما أجلينا الانكليز و الفرنسيين عن أراضيهما في أعقاب الحرب العالمية الثانية, عندما انهارت مزدوجة النضال العالمية لتلك الأيام بانهيار الاستعمار القديم, و قيام الجديد بزعامة أميركا.  وقد كان بالامكان تقريب أجل الطور الرأسمالي بكليته فيما لو كان وعي قيادة الثورة الانسانية يحيط بواقع تلك الأيام عندما كان الاستعمار القديم يتلاشى و الجديد ما بلغ حينذاك أشده.  كما كان بالامكان أيضاً, الى جانب ذلك, تطوير الثورة السورية اللبنانية, التي أجلت المستعمرين جميعاً, فأصبح أمرها بيد أصحابها حصراً بانعدام تأثير أولئك المستعمرين, الى أن تكون طليعة الثورة العربية الكبرى التي تمنع قيام قلب الاستعمار الجديد على أرض أوطاننا, على أرض الاحتياطي العالمي للنفط محرك الحضارة المعاصرة.  وهذا أيضاً كان بحاجة الى عقيدة واعية تحيط بواقع ذلك العصر.  و قد تناولنا بالتفصيل في هذا البحث هذه النقطة بالذات من تاريخ الانسانية المعاصرة و تاريخ قطرنا السوري في تلك الفترة الزمنية.  وكنا شهوداً للأحداث عن قرب منها أوأننا ساهمنا بها.  وقد أتى بحثنا على شكل حلقات كنا نشرناها في الصحافة اللبنانية بمسلسل دام عامي 1989 و 1990 .  وقد فضلنا أن نبقي تبويب البحث بهذا الشكل, لسهولة مطالعته و استيعابه, وقبل هذا لمرونته في تأدية صورة الواقع, و الله الموفق.

 

عفيف البزري