الربا جوهر العبوديات

 

غضب الأميركان غضباً شديداً عندما نزل الفلسطينيون المجاهدون في مطلع ربيع هذه السنة على ساحل بلدهم فلسطين المغتصبة قرب يافا كمظهر من مظاهر كفا حهم الطويل لاسترداد هذا الوطن من مغتصبيه الصهاينة.  أعلن بوش رئيسهم قطع تلك المحادثات التافهة التي كان يجريها سفيره في تونس العاصمة من حين الى آخر مع أحد ممثلي منظمة التحرير على عتبة بيته الذي خرج منه في يوم من الأيام أولئك القتلة الذين اغتالوا الشهيد أبا جهاد خليل الوزير.  و الأميركان يعتبرون جهاد الفلسطينين في سبيل استرداد وطنهم من مغتصبيه الصهاينة إرهاباً, أما تصهين الخزر المتهودين و مجيئهم من أصقاع بعيدة ليقوموا بجريمة الاغتصاب تلك, فهي عندهم من "الحقوق الانسانية".  وكانت الولايات المتحدة في هذا العام قد وجهت اللوم الى العراق لمحاولة حكومته تطوير وسائلها الدفاعية واتهمت هذه الحكومة بالعدوانية لأن رئيسها صرح بأنه سيدافع عن بلده في حالة وقوع عدوان عليه من قبل اسرائيل كما سيقف في وجه كل عدوان صهيوني على أيّ قطر من الأقطار العربية.  وهؤلاء الأميركان لا ينفكون عن الاحتجاج بشدة على كل دولة عربية أو اسلامية تحاول امتلاك أسلحة صاروخية نووية و أسلحة كيماوية و أخرى جرثومية, و على العكس من هذا فهم ساعدوا بكل قواهم في تطوير الجهاز العسكري العدواني الصهيوني في جميع المجالات الكلاسيكية و النووية و الكيماوية و الجرثومية.  كما استمروا أبداً بدون انقطاع في تغطية كل عدوان صهيوني على العرب بكل الوسائل المادية وباستعمال حق النقض في الأمم المتحدة.  و ليست هذه الأمور من المستحدثات ولا من الشذوذ في سلوك دولة الولايات المتحدة الأميركية تجاه العالم المعاصر. فهي مثلاً طالما سعت لدى الحكومة السوفياتية كي تغضي هذه الحكومة عن النشاط التخريبي للصهيونية في بلادها وذلك تحت حجج حقوق الانسان و اشاعة الديموقراطية.  وقد تدخلت بكل ثقلها في الأزمات الأخيرة للمعسكر الاشتراكي حتى لكأنها وصية على شعوب هذا المعسكر أو كأنها جزء منه.  ولطالما صرحت, في هذه المناسبة أو تلك في هذا الجزء من العالم أو ذاك, بأن لها مصالح تبرر لها التدخل الفظ في شؤون الغير.

 

إن المجتمعات الانسانية تتواصل وتتفاعل وتتكامل في جملة عالمية يسود فيها نظام أكثر هذه المجتمعات تقدماً مادياً.  و العبودية الرأسمالية هي النظام السائد حالياً في جملة المجتمعات الانسانية و ذلك بامبراطورية عالمية متعددة الرؤوس موحدة بزعامة الولايات المتحدة الاميركية.  وتصرفات هذه الدولة التي أعطينا بعض أمثلتها أعلاه تبدو وقحة فظة عندما ننسبها الى نظام عالمي لا وجود له إلا في المزاعم الكاذبة للمستعمرين وأعوانهم وفي أوهام السطحيين, المزاعم القائلة بأن الأمم تتكافأ حالياً في الجملة الإنسانية ولها حقوق متساوية.  أما عندما ننظر الى هذه الجملة نظرة واقعية فنرى أن مايحكمها الآن هو نظام تلك الامبراطورية العبودية التي تقودها الولايات المتحدة الأميركية فاننا نجد التصرفات الآنفة الذكر لقادة هذه الدولة طبيعية وتنسجم تماماً مع النظام القائم الذي يحكم العالم بوقاحته وفظاظته فقد بني النظام الرأسمالي على الفردية الأنانية الساعية الى تقييد الكائنات الحية بقواعد تحصر وظيفتها في الوجود في حدود الكدح لتحقيق مصالح ورغبات القلة من أفراد البشر.  الفردية الأنانية هي بالتعريف التي لا تأخذ بعين الاعتبار سوى مايرضي ذاتها و إن سبب الأذى للآخرين, الأمر الذي يؤول الى إهمال وطمس حق الآخرين بحياة غير منتقصة بشكل من أشكال العدوان.  ويؤول أيضاً الى كل أشكال الطغيان الذي لا تتوقف فيه حرية الفرد عند حدود حرية الآخرين.  و تقع البشرية في النتيجة في أسر عبودية القلة الجشعة الممسكة بالنظام, حيث يفقد سواد البشر بهذه الدرجة أو تلك, بالدرجة المتعينة بموقع الفرد في النظام الاجتماعي السائد, وهو النظام الرأسمالي, القرار بتصريف شؤون حياته الخاصة, فهو مكره بقيود النظام التي تحوله الى كيان مُسَخَّر لخدمة مصالح تلك القلة الممسكة بهذا النظام.  أي أن الكيان المادي و الروحي للفرد في سواد البشر يفقد حريته في الممارسة الإيجابية لوظيفته في أطار الجماعة و تنتقص بالتالي ذاته بشكل مناسب لمكانه في النظام:  بدلاً من تعاون و تكامل و تكافل أفراد غير منتقصين بقيود العبودية في إطار تكافؤ الفرص, يحشر الناس في نظام أفراد منتقصين لا يجمعهم سوى التنابذ الأناني في إطار العبودية.

 

إن تثمير المال بغير عمل صاحبه لايكون على العموم إلا بقسر العامل غير صاحبه بعلاقة اجتماعية عبودية:  علاقة الرق أو علاقة الرأسمالية حيث تجيز قوانين هذين النظامين العبوديين مختلف أشكال الاغتصاب و النهب و العدوان.  ولكن الشكل الأساسي لاغتصاب القيم في النظامين المذكورين هو استعباد المنتج بتقييده بعلاقات اجتماعية مناسبة يقننها النظام كالاسترقاق أو استملاك قوة العمل بشرائها أو ممارسة الربا.  ولننظر فيما يلي الى كل من هذه النماذج الأساسية لاغتصاب القيم:

الاسترقاق

تقوم هذه العلاقة على قاعدة: "أن العبد و ماملكت يداه ملك لسيده", و هذا يعني بوضوح أن ذات ذلك الانسان الذي هو العبد قد تلاشت و اختفت فيما يشكل ممتلكات السيد, الأمر الذي يشكل باختصار الموت الاجتماعي لذلك الانسان.  فالعبد في الواقع ميت اجتماعي فاقد كل حقوق الحر وواجباته الاجتماعية عدا تلك التي تقسره على التلاشي اجتماعياً في طاعة و خدمة سيده.  ولايقف انتقاص ذات الانسان في نظام الرق عند العبيد, فالأحرار ينالهم من هذا الانتقاص. بمقدار هبوط منزلتهم الاجتماعية.  و القانون السائد هو تجاوز الأقوى على حقوق من هو أقل قوة.  وما يجب تركيز الانتباه إليه هنا هو تلك العلاقة الاجتماعية التي تنتقص فيها الذات الانسانية بمختلف درجات الانتقاص حتى تلاشي هذه الذات بالاسترقاق.

استملاك قوة العمل

إن الذات الانسانية تقوم و تستمر في الفرد و أجياله بطاقة قوة العمل, التي يسعى بها هذا الفرد و يعمل, و التي تتجدد و تتطور بالغذاء و الراحة و التثقيف و غيره من متطلبات الحياة الاجتماعية.  و لكن العمل في النظام الرأسمالي غير ممكن الا بوسائل لاتتوفر الا للقلة من الناس الممسكة بادارة هذا النظام, ووسائل الرأسمالية, معاملها و ورشاتها و مخابرها, بحاجة من جهة أخرى الى اليد العاملة لتنتج و تتجدد فلا يستطيع مالكها بمفرده أن يحركها لهذه الغاية كما يفعل الحرفي بأدواته البسيطة, و نجد في النتيجة أن قوى الانتاج في النظام المذكور تقوم على قطبين متعارضين هما: وسائل الانتاج المملوكة من قبل فرد هو الرأسمالي و قوى العمل التي يملكها العمال.  و تتجدد و سائل الانتاج و قوى العمل بالانتاج الحاصل بالعمل.  فالرأسمالي الذي يحصل على وسائله المتجددة بعد استهلاكها بالعمل يحصل أيضاً على أرباحه من فضل القيمة الناشئ عن قوة العمل:  إن القيم الناشئة عن عمل العامل بوسائل الانتاج تعوض ما استهلكه هذا العامل من هذه الوسائل و تجدد قوة عمله بالاضافة الى فضل قيمة يستوفيه الرأسمالي بدون مقابل. و تجديد رأس المال بتعويض ما استهلك منه ضروري للعمل و للرأسمالي, فلا يبقى اذن سوى تخفيض تكاليف تجديد قوة العمل لتضخيم فضل القيمة و معه أرباح الرأسمالي الذي يجعل من سعيه الى هذا الامر شغله الشاغل.  و العامل مكره على بيع قوة عمله للرأسمالي مالك و سائل الانتاج لعدم استطاعته امتلاك هذه الوسائل و استحالة منافستها بأدوات حرفية.  أي أنه مكره على بيع تلك الطاقة التي تقوم عليها ذاته لقاء مجرد تجديد هذه الطاقة الذي يجب أن يستمر بثمن ضياع الذات المذكورة بهذا الارتباط الذي لا انفصام له بقوى الانتاج, بوسائل الانتاج و قوى العمل, التي يمتلكها الرأسمالي: تدخل قوة العمل في ملكية الرأسمالي لقاء الاجور المدفوعة لاصحابها العمال.  ولا يختلف الاسترقاق في الجوهر عن استملاك قوة العمل في النظام الرأسمالي.  فسيد الرقيق يمتلك قوة عمل رقيقه التي هي وحدها مفيدة له فهو لا يختلف عن الرأسمالي الا بكونه هو بذاته الذي يقوم على تجديدها عندما يعيش رقيقه في كنفه.  بل كان هنالك شكل من الاسترقاق يعيش فيه الرقيق و يعمل مستقلاً عن سيده الذي كان في هذه الحالة يفرض عليه أتاوة يؤديها اليه بحيث كان لايبقى لهذا الرقيق من جناء عمله سوى ما يجدد به قوة عمله بشكل سيء, الأمر الذي يشبه حالة عمال النظام الرأسمالي شبهاً يكاد يتطابق معه.  ثم أن الرأسمالية بدأت باسلوب التعاون الرأسمالي البسيط الذي عاد بالانتاج الى شكله الذي كان يقوم في قيصريات أواخر عهد الرق.  فصغار الرهبان و الراهبات في أديرة البابوية التي كانت حينذاك تشن الحروب الصليبية على دار الإسلام في مشرق الأرض و مغربها كانوا يعملون جماعياً في مختلف فروع الانتاج الزراعية و غير الزراعية, مقابل لقمة الخبز فقط مع بركات أمراء الكنيسة و لمصلحة هؤلاء الأمراء.

 

ويُوَلِّدُ النظام الرأسمالي, القائم اساسياً على العلاقة العبودية بامتلاك قوة العمل من قبل الرأسمالي, التنافس العدائي بين مختلف المنتجين الرأسماليين, الأمر الذي ينعكس على المجتمع بهدر حجوم كبيرة من القيم.  و يتصاعد التنافس و يمتد ليكون بين مختلف المجتمعات و الدول و ليؤدي الى قيام الأمبراطوريات و استعباد الأمم و تمزيقها و نهب ثرواتها و تحضير الحروب و شنها و ازهاق الأرواح بالملايين و هدر القيم بالمليارات على ما يؤذي الانسان و يدمر منجزاته, بالاضافة الى الفوضى الاجتماعية التي طالما رعت الانتهاز و الانتهازيين و ضيعت محيطات القيم على الانسانية.

الربا

ان هذه العلاقة الاجتماعية التي عرفها الانسان منذ العهود القديمة لطور الرق تنتقص الذات الانسانية في كل طبقات المجتمع و فئاته فتصل بشدة ضررها الى تحويل معظم سعي و جهد الانسان في مجالات الرزق الى و قف على أيفاء فائدة الدين في الوقت الذي يبقى فيه هذا الدين قائماً في ذمة المدين يربطه بالدائن.  و مهما كانت الأوجه التي يُنفق فيها الدين, أكانت لشراء أدوات عمل للمَدين أم لإقامة تجارة أم لمجرد الانفاق في أي وجه كان من أوجه الانفاق, فإن دين الربا يشكل ثمناً يشتري به الدائن قوة عمل تُربي أمواله بفوائدها كما تُربي فضول القيم الناشئة عن عمل العامل رساميل أصحاب العمل, فالربا إذن شكل من أشكال فضل القيمة من حيث النتيجة.  ولقد كانت علاقة الربا, ولا تزال دوماُ, عبءاً على الانسان الذي يفقد بها ذاته فيصبح تماماً كالرقيق المار ذكره أعلاه الذي كان يؤدي أتاوة الى سيده من جداء عمله المستقل خلال حياته المستقلة عن ادارة هذا السيد.  بالإضافة الى أن المدين كان يسقط بقوانين نظام الرق في استرقاق دائنه عند توقفه عن املاء شروط دينه.  وفي هذا العصر نجد نموذج الرقيق المدين في ملايين رعايا الولايات المتحدة الأميركية أكثر بلاد النظام الرأسمالي العالمي تقدماً مادياً وفي ملايين رعايا القارة الهندية الفقيرة التي طالما نهبا المستعمرون.  فيقال مثلاً أن الاميركي يتزوج و يسكن و يتجهز بالدين ولا ينتهي أبداً من الكدح لمواجهة استحقاقات فواتير ديونه و فوائدها.  فجزء هام من كدح المجتمع يتحول الى قيم تتوه في خزائن المرابين بينما تتناوب أشكال لا تنتهي من الشقاء و الضيق على جماهير هذا المجتمع العبودي.  أما في الهند فالحرفيات الفقيرات بمئات الألوف يقبلن لتستدين الواحدة منهن مائة روبية لتبني بها رأس مال تافه تكدح به و عائلتها صغاراً و كباراً لسد رمقهم بالكاد بعد تقديم فائدة هذا القرض و تعويض ما استهلك منه و هو باق أبداُ بذمتها.  و تبلغ شراسة المرابين في نظم العبودية حداً يقومون فيه باجبار ضعفاء قومهم, وهم غالبية المجتمع, على الارتباط بقروض الربا معهم, وفي حالة تمنع البعض عن الاستقراض ينال جزاءه على أيدي زبانية أولئك المرابين.  وفي عصر العبودية الأميركية الحالي تسعى ال (سي آي أي) الى قلب كل حكومة في عالم الفقراء, العالم الثالث, تمتنع عن الاستقراض, الأمر المعروف جيداُ على الأخص في أميركا اللاتينية.  ولقد بلغت بشاعة الآثار الاجتماعية للربا درجة قرن معها العرب الدين بالعبودية فغدت مثلاً كلمة مدين تعني العبد لغة, يقول عمرو بن كلثوم:

 

وأيام لنا غُرٍّ طِوالٍ              عصينا الملك فيها أن ندينا

 

أي, بحسب شرح الزوزني, عصينا الملك فيها كراهية أن نتذلل له بطاعته.

 

وقد حرمت ثورات التوحيد, ولا سيما منها الإسلام, أخذ الربا بكل أشكاله إطلاقاً.  فعاب القرآن مثلاً على اليهود تداولهم الربا كما انتقد الأحبار و الرهبان المبطلين. و نقرأ في سورة البقرة الآيات الكريمة التالية الرائعة في الرد على الحجج الواهية المصطنعة للمرابين و في تحريم الربا: "الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ اِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِاَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِن رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَاُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ * إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوْا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ وَاتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَآ إِن كُنْتُم مُؤْمِنِينَ * فإِن لَمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ * وإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاتَّقُواْ يَوْمَاً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ" (البقرة/275-281).

 

و نجد هنا أن الاسلام سمح برأس المال أن لاينتقص و أن يرد الى صاحبه سالماً: "فَلَكُمْ رُؤوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ", و حَرًّمَ أن يكون تراكمه عند بعض الناس, و الحاجة اليه و فقده عند آخرين سبباً لوقوع هؤلاء أسرى تثميره لمصلحة أولئك بأي شكل من أشكال التثمير أو الربا الذي تتعدد أبوابه حتى تبلغ السبعين عند الفقهاء.  وواضح في قول القرآن الكريم أعلاه أن المال لايمكن أن يكون سبباً لقيام علاقة ظالمة تفسد المجتمع, فيجب تحييده اذن بتحريم مثل هذه العلاقة.  أما أولئك المرابون الذين رأوا تناقضاً في قضائه تعالى باحلال البيع وتحريم الربا مع تماثل هذين الأمرين بزعمهم البَيِّنِ البطلان فقد سخر القرآن من منطقهم الذي يبدو كمنطق المجنون المصاب بمس من الشيطان, أو كمنطق الشيطان المراوغ المتخبط.  ففي البيع يتساوى البَيِّعان (البائع و الشاري) بعلاقة أحدهما بالآخر في الوقت الذي يقع فيه المدين في عبودية الدائن بعلاقة الربا.  ولشدة بداهة ووضوح هذا الأمر عند كل الناس, فهم قد مارسوه في حياتهم الاجتماعية, أمسك القرآن الكريم عن مجاراة أولئك الكفرة أصحاب النار في مثل هذا النقاش العقيم و اكتفى بالسخرية الآنفة الذكر منهم.  ثم ان التوحيد, و على الأخص منه الاسلام, حرم في الجوهر انتقاص حرية الفرد و استعباده و كان الربا من أكثر مظاهر الفساد شيوعاً في استعباد الناس و اخضاعهم لزمرة ضئيلة من المرابين سادة نظام الرق, الى جانب الاسترقاق المباشر الذي كانت علاقة الربا تؤدي إليه أيضاَ عند عجز المدين عن وفاء دينه و رباه.  ومن الواضح جيداً أن استملاك قوة العمل في النظام الرأسمالي هو شكل من أشكال العبودية التي تُثَمِّرُ, تُرْبي, رأس المال بكدح العامل المسترق ببيع قوة عمله من الرأسمالي وله آثاره الاجتماعية الفاسدة التي نعرفها جيداُ و نعاني منها كثيراً في عالمنا المعاصر.

 

وأتت الوثنية الجديدة, أتت الرأسمالية, بعبوديتها المشار إليها أعلاه و برباها الذي وَصَفْتُه في عام 1985  بكلمة لي تحت عنوان "على هامش الخبز و البنادق", قدمت بها ترجمة لبحث كتبه الاقتصادي البريطاني الاستاذ نايجل هاريس بهذا العنوان حول أزمة الاقتصاد العالمي المعاصر. و الكلمة هي التالية:

 

"قلنا أن المستعمرات القديمة و أشباهها حاولت بعد الحرب العالمية الثانية السير في طريق التنمية الاقتصادية لتلتحق بركب التقدم المادي.  وكان السعي من أجل تنمية الاقتصاد الوطني في البلد المتخلف لا ينفصل بداهة عن الكفاح من أجل الحفاظ على القيم التي تنشأ و تقوم في هذا الاقتصاد و منعها من أن تتسرب الى خارج أرض الوطن دون مقابل لتستقر في خزائن و بطون الاحتكاريين المستعمرين و أتباعهم.  ولكن نظم الرجعية و الانتهاز و الجهل في العالم الثالث ربطت أوطانها بالشبكة الاحتكارية العالمية التي تتزعمها أميركا عندما استولت على السلطة في بلادها بمختلف الوسائل التي من أبرزها الانقلابات العسكرية, و التي نجد فيها كل الآثار الفاضحة لدسائس و تآمر المخابرات الأميركية ان لم تكن مراراً غزواً عسكرياً أميركياً مباشراً أو بواسطة قوى عميلة لأميركا.  وكان أحد أساليب النهب الاستعماري, أسلوب "المساعدات" المالية على شكل قروض للتنمية تكفلها تلك النظم العميلة.  ان هذا الاستعمار الحديث, الذي استبدل الاحتلال المباشر للمستعمرة بنظام عميل يقوم على وقافين يحرسون ويصونون ارتباطها بالشبكة الاحتكارية العالمية تحت شكل الاستقلال الوطني المزيف (وفي أحيان كثيرة تحت شكل التقدم الاجتماعي المزيف)  نقول أن هذا الاستعمار استمرأ هذا الاسلوب فعممه على كثير من علاقاته بالمقهورين.  و قروض "التنمية" تأتي في مقدمة هذه العلاقات.  فالنظام الاحتكاري الحديث قد لا يدير مشاريعه مباشرة في "المستعمرات الحديثة" و إنما يقرض أمواله بالربا لوكلاء في هذه البلاد المتخلفة لاقامة بعض المشاريع هناك فيحقق أرباحاَ مزدوجة: أرباحاً على شكل ربا و أرباحاَ من بيع معدات المشاريع.  والربا يشكل دخلاَ جارياَ باستمرار الى جانب الارباح الاخرى المحققة من بيع قطع الغيار و المواد الاولية و تجديد المكنات المستهلكة و أجور الدراسات و غيرها و غيرها.  أنه نظام تديره الاحتكارية العالمية يجر في كل عملية سلسلة لا تنتهي من الصفقات و ليس صفقات متفرقة بعدد محدود فحسب.  وفي النتيجة يصبح البلد المستقرض في حال لايختلف حاله عندما كان مستعمراَ بل أسوأ.  ذلك لأن دمه ينزف على شكل سيل يجري من القيم التي تخرج و تذهب بعيداَ الى خزائن المستعمرين الاحتكاريين.  ثم أن القروض لاتصرف كلها في التنمية, بل أن جزءاً كبيراً من كل منها مع قيم أخرى تفوقها بأضعاف مضاعفة ينتجها البلد تصرف على نظام الوقافين و أعوانهم و عسكرهم.  وفي النتيجة يزداد الحال سوءاً فيستدعي الى مزيد من الاستقراض, فالى مزيد من الالتزامات لوفاء الاقساط و الفوائد و هكذا..  الى ان تحين ساعة الانفجار و هي ساعة آتية لاريب فيها و إن لم يرها الاحتكاريون الذين أعمت أبصارهم و بصائرهم غنائم السلب و النهب من هنا و هناك في هذا العالم المقهور.  يقول الاستاذ هاريس في الفصل الرابع من كتابه هذا: "لقد اتسع مجمل الديون المتراكمة بسرعة بلغت أعلى المستويات حينما كان المستدينون يحاولون زيادة حجم ديونهم ليغطوا مدفوعات الفائدة المتضخمة وكذلك أقساط ديونهم.  و هكذا فإن دين المكسيك قد تصاعد بسرعة كبيرة من 60 مليار دولار في منتصف 1981 الى 83 مليار دولار, تقديراُ, في نهاية 1982 ".  ويقول في الفصل الخامس: "إن تنمية بلدان العالم الثالث قد اشتريت بثمن الديون المتفاقمة.  وفي نهاية العقد السبعين كانت ديون البلدان النامية حوالي أربعمائة مليار دولار, وبلغت في نهاية 1982 خمسمائة مليار دولار... في عام 1980 كان اثنا عشر بلداُ نامياً هي: البرازيل و الارجنتين و المكسيك و كوريا الجنوبية و كوريا الشمالية و البيرو و الفليبين و تركيا و بولندة و زائير و أندونيسيا و السودان, تدفع ستة عشر مليار دولار سنوياً كفوائد لمقرضيها..". انتهى قول الاستاذ هاريس.  ونحن نقول أن هذا المقدار الذي أعطاه الاستاذ هاريس لفوائد تلك البلدان أقل بكثير من الواقع.  ففي ذلك العام كانت ديون دولتين من الاثنتي عشرة دولة المذكورة, وهما المكسيك و البرازيل, تتجاوز المائة والخمسين مليار دولار فتعطي فوائد للاحتكاريين المقرضين تتجاوز الستة عشرة مليار دولار: على اعتبار أن المصارف تعطي فوائد على الأموال المودعة لديها أكثر من 8% ولكنها تأخذ أكثر عندما تقرض تلك الاموال.  والخلاصة نجد أن ذلك البلد الذي ينمي اقتصاده بالاستدانة من الرأسماليين الاحتكاريين, لاينمي فقط قطاعاً لنهب هؤلاء المرابين و إنما ينمي لهم أيضاً "مصيدة" يقتنصون بها بقية اقتصاده مع تنمية قوى القمع في بلده.  إن البرازيل مثلاُ, الدولة الصناعية الجديدة ترزح تحت عبء من الديون يتجاوز حالياً عام 1985 المائة مليار دولار, فصناعتها التي نمت في أعقاب الحرب العالمية الثانية مع بقية اقتصادها الزراعي و الحرفي وكدح الملايين من شعبها البائس, كل هذا, رهن للرأسماليين الاحتكاريين المرابين الذين يتركون للبيروقراطية العسكرية الحاكمة هناك, مباشرة تارة ومن وراء ستارة تارة أخرى, بعض الفتات من الغنائم.  وهذا المثل شائع في العالم الثالث.

 

إن علاقات الربا في النظام الرأسمالي الاحتكاري العالمي لاتقتصر فقط على شد العالم الثالث الى الشبكة العالمية لهذا النظام, وأنما تتناول كل جزء في هذا العالم فتروح خيوطها و تجيئ لتكبل الدول و البلديات و الشركات و المزارع و الأسر.  فالديون العامة للولايات المتحدة الأميركية مثلاً تزيد بمعدل 4300 دولار في الثانية بحسب ماجاء في هذا البحث الذي بين أيدينا للاستاذ هاريس.  و هذا يعطي زيادة سنوية في ديون الدولة الأميركية تقرب من 136 مليار دولار يدفع فوائدها و أقساطها المستحقة سواد الشعب الأميركي و خاصة الكادحين و الفقراء بغلاء المعيشة و زيادة التضخم.  ويقول الاستاذ هاريس في الفصل الرابع من كتابه هذا: "لقد تصاعدت فواتير الفائدة الصرف على الشركات الاميركية من 45 مليار دولار في 1979 الى 56 مليار دولار في 1980 ولعلها بلغت 65 مليار دولار في 1981..". انتهى قول هاريس.  وبديهي أن الذي يدفع هذه الفوائد هو المستهلك وليس كبار مساهمي الشركات المستدينة الذين يكونون في آن واحد مساهمين في هذه الشركات و مساهمين في المصارف التي قدمت القروض لها, فيعود عليهم النفع المضاعف من أرباح الشركات وفوائد المصارف.   وعندما تقع خسارة في شركة من الشركات أو تفلس فإن المتضررين يكونون من كل المساهمين ماعدا كبارهم الذين يكونون قد أخذوا احتياطاتهم سلفاً فاستخلصوا منها أموالهم وبقايا أموال غيرهم, لأنهم الوحيدون الذين يكونون على اطلاع تام على خفايا أحوالها وفي مراكز في إدارتها تمكنهم بسهولة من الهروب بأموالهم سالمة في الوقت المناسب.

 

وبعد, رأينا اذن رُبُوَّ المال بآليات ثلاث رئيسية: الاسترقاق, و استملاك قوة العمل, و الدين بالربا.  وهناك بطبيعة الحال أشكال أخرى كثيرة لانتقاص الذات الانسانية و اغتصاب ما بيدها من قيم و تحويله الى خزائن الغاصب.  و الثورة عندما تمنع اغتصاب القيم بكل أشكاله, بسعيها و جهادها, إنما تهدف الى تحرير الانسان و انقاذ ذاته من الانتقاص و ردها الى تمامها لتقوم بوظيفتها الاجتماعية بتمام مؤهلاتها المادية و الروحية.  ولكن الثورة اذ تحرر الانسان من شكل من أشكال العبودية لابد لها من أن تضع نظاماً يحمي هذا الانسان من تلك العبودية التي تحرر منها.  فاذا ما تجمد هذا النظام بفعل وثنية بيروقراطية, قام شكل آخر من العبودية بحمايته: يصبح النظام المُحَررِّ و قداسته الوثنية أداة سحق للانسان بعد أن كان قد حرره من عبودية قديمة.  و قد رأينا عبر كل التاريخ الانساني أن المال سبب ووسيلة التقدم المادي و الروحي للانسان هو أيضاً سبب شقاء سواد البشر عندما تديره الأيدي القذرة فتستعين به بشكل من الاشكال في استعباد الناس.  وقد تنبه الفكر العربي بنتيجة التجارب التي دامت وتكررت خلال ألوف السنين في روافد أمتنا العربية الى ما للمال من قوة في افساد علاقات الانسان و تعطيل حرياته.  فعملت ثورات التوحيد, كما قلنا أعلاه, على تحييد المال و حرمته كوسيلة لاقتناص قوى المحرومين منه لتعمل على تنميته بدون مقابل عادل: حَرَّمت الربا و شجعت و ألحت على تحرير الرقيق.

 

إن كل ثورة معاصرة لابد من أن تتخذ مواقف التوحيد فتعمل و تجاهد في سبيل تحييد المال بكل أشكال ملكيته, عامة كانت أم خاصة, و منعه كوسيلة لاستعباد البشر.  و ليس هنالك من حجة لارتكاب جريمة سحق الانسان من أجل نظام من الانظمة.  فالنظام للانسان وليس العكس.  ثم أن كل قيمة لابد من أن تعود بكاملها لمنتجها كما يعود كل مال لصاحبه:  لا أحد يظلم أحداً كما جاء في الآية الكريمة الواردة أعلاه.  ونرى من جهة ثانية أن حياة الانسان وكل مشاريعه المنتجة تقوم في مجتمع له تكاليفه المادية, كما أن تقدم هذا المجتمع لابد له من تكاليف أخرى تضاف الى تعويض استهلاك رساميله, فلو أن كل منتج, عامل أو موزع أو صاحب مال, استهلك كل ماساهم بانتاجه فلم يقم لهذا, أي وفر أجتماعي, فإن المجتمع بكل مقوماته يزول.  هنا نجد, بنتيجة كل حساب, أن ذوات البشر و حرياتهم مع ضمان ديمومة مجتمعهم و تقدمه المستمر في نظام التحرر من الأمور التي لاتقوم إلا بالمساهمة المنصفة للجميع على أساس التعارف و التعاون و التكامل و التكافل في إطار تكافؤ الفرص للناس جميعاً.  وصياغة هذا الأمر بدساتير و قوانين و تطبيقه في هذا العصر لايكونان إلا بنتيجة ثورة ظافرة تزيل عن عاتق البشر نظام العبودية الرأسمالية.  عندئذ يبدأ الناس في الجملة الانسانية بتحقيق و تطبيق قاعدة: لكل حسب جهده.  و عندما تتخلص الانسانية من التناحر و الحروب و تتحرر من ربقة الانتهاز فتبعد كل مشروع يبدد الثروات و القيم بدون طائل, عندما يتعايش الناس في الجملة الانسانية على أساس التعارف و التعاون و التكامل و التكافل في إطار تكافؤ الفرص للجميع, فإن ما يتوفر من قيم سيكون كافياً بالوسائل الجبارة التي توصل إليها البشر حالياً لتحقيق شعار: لكل حسب حاجته و من حسب طاقته, دون أي قسر أو إكراه ولكن بالإيمان و النزاهة و العدل.