العقيد أنور عباد

لم يدر العقيد أنور عباد لماذا اختير لرئاسة المكتب الثاني اللبناني في تلك الظروف الحرجة التي تمر بها البلاد .. أهو لذر الرماد في العيون، أم لتطمين الشعب اللبناني أن لبنان ينتمي إلى العروبة، وأن للناصريين السنة فيه دور بارز في إدارة البلاد؟

كان في دهشة كبيرة من أمره، فما كان بين اختياره والرغبة في الإستغناء عن خدماته أكثر من بضعة أشهر.. صحيح أنه عرض عليه ما هو أفضل من وجهة نظر مادية واجتماعية إلا أن ذلك المنصب ليس حساسا في الشؤون اللبنانية، كأنما يريدون إبعاده وإغراءه بطريقة ما لا تثيرالانتباه إلى ما يهيؤونه للمنطقة من أحداث..ان أمورا تجري في الخفاء ولا يبدوأنهم وجدوا فيه الرجل المناسب للقيام بالدور المراد له، فماذا يهيئون وماذا يدبرون؟ ولماذا وثقوا به حينا ثم فقدوا الثقة به ؟ ماذا قال، وكيف تصرف، ومن هم وراء تعيينه وأقالته من منصبه؟

جلس ووالدي في غرفة الاستقبال يستعرضان في ذهنيهما الأحداث والملابسات منذ موت عبد الناصر، وأحداث الأردن وتدفق الفلسطينيين إلى لبنان .. إنه لا يذكر لنفسه موقفا معينا يثير حفيظة أحد عليه، لا جماعة البابوية ولا جماعة الأميركان، لا الدروز ولا الشيعة ولا الموارنة ولا الفلسطينيين، حتى ولا الشيوعيين..

تذكر حادثة بعينها رفض فيها الرشوة وقصها على والدي.. منذ شهر تقريبا، لا منذ أكثر من شهر، جاءه وفد من السفارة الأميركية يهنئه بمنصبه الجديد .. تحدثوا باللغة الفرنسية التي كان يتقنها عمي، قال أحدهم:

-                   نريد أن تصبح العلاقات بيننا وبينكم حسنة فماذا تظن أن علينا أن نفعل؟

ويذكر عمي أنه في تلك اللحظة أحس برغبة في المزاح لا تقاوم، وأنه اتخذ سمة جدية، وعقد ما بين حاجبيه وقال:

-                   أنا عندي طريقة ناجعة تماما، مشروع نتعاون فيه، لا يفشل أبدا..

مدّ الثلاثة رؤوسهم وأصخوا بانتباه عظيم، وعلّق رئيسهم:

-                   سنأخذ ما تقوله بعين الاعتبار، إنني أرى أننا نتفاهم بسرعة..

-                     يا سيدي أنتم لديكم بواخر كثيرة، أليس كذلك؟

-       طبعا، بواخر كثيرة خبرتنا في هذا المجال لا تضاهى.. كل أنواع السفن نصنعها.. صناعة السفن ناشطة لدينا، ناقلات بترول، وكاسرات جليد، وبواخر صيد الأسماك، وناقلات بضائع وركاب..

وأخذ يعدد ويعدد وقد أخذه الحماس، ورفيقاه يذكرانه بما قد نسي..

-                   نحن لا نحتاج إلى كل هذه الأنواع ولا نريدها جديدة، لا يهمنا إن كانت قديمة لمستلزمات التوفير..

-                     قديمة، جديدة، نحن مستعدون لتقديم ما تشاؤون منها.

-                     لا نريدها شراء أوهدية.. نحتاجها لتقوم بمهمة ثم نعيدها إليكم ..

-                     نحن تحت تصرفكم .. أطلبوا ما تشاؤون، نحن لا نرفض لأصدقائنا طلبا..

-       ساعدونا، وأنا لا أشك أن العرب جميعا سيقدرون لكم هذا الصنيع، ولن تصبح علاقاتكم معنا حسنة فقط، بل تصبحون منا في موضع القلب..

-                     سيدي إن صداقتكم هي كل ما نطمح إليه.. سجلوا قائمة بكل ما تطلبون، وسيكون لكم ما تشاؤون..

-                     ولكننا نريد أن نعطيكم لا أن نأخذ منكم.. نريدكم فقط أن تساعدونا في نقل كنز إلى بلادكم..

-                     كنز! أهي كنوز متاحف؟ هذه المنطقة مليئة على ما أعلم بكنوز الحضارات القديمة..

-       لا، ليست كنوز متاحف.. إنه كنز أكبر قيمة، وأنا أرى أننا قوم تتعبنا الكنوز، فنحن اعتدنا الفقر وأحببناه، واعتدنا التخلف وأحببناه.. الحضارة تقلقنا والأدمغة النابهة تثير حساسيتنا ونفورنا، وتملأنا بمركبات النقص..

-       يبدو أنني أفهم خطأ، فأنا لا أحسن الفرنسية كثيرا، هل تعني أن عندكم شبانا موهوبين تريدون أن نعطيهم منحا للدراسة عندنا؟

-                     لا، لا..

-                     يبدو أنني لا ألتقط تماما ماتعني..

-                     بل تفهم تماما ما أعني، وأفهم تماما ما أقول..

-                     أرجوك تكلم معي بصورة أوضح.. أنا لا أدّعي بأنني لامع الذكاء..

ضحك رجل نحيل بقي صامتا طوال الوقت.. كان غائر الوجنتين بني العينين يلتمع فيهما ذكاء وسخرية، وقال بعربية فصحى:

-                   أي كنز تريد أن تعطينا إياه؟   

-                     تعرف العربية وتتجاهلها كي تجبرني على الحديث بغير لغتي؟ ترجم لرئبسك ما أقول..

-                     تفضل!

-       الكنز الذي نريد أن نحمّلكم إياه هو اليهود.. خذوهم إلى بلادكم ، فبلادكم واسعة، وخيركم وفير، وأنتم قوم متحضرون، وتقدّرون الأدمغة النابهة، ولستم مثلنا متخلّفين وناقصي ذوق..

قهقه الرجال الثلاثة بمرح شديد، وقال الرئيس:

-                   ليس الأمر بهذه السهولة سيادة العقيد.

-                     هذا إذا كنتم تحرصون على صداقة الشعب العربي ، وعلى مصالحكم في المنطقة..

أخذ الثلاثة يتأملونه بطريقة غريبة وهم لا يدرون أيأخذون كلامه جدّا أو هزلا. وفارقهم الإنشراح في مستهلّ الحديث، وحلت محله خيبة وحيرة، وحكّ رئيسهم ذقنه خلال لحيته الصغيرة وتفرس في وجه العقيد كأنما يبحث عن الأسلوب الملائم الذي يحاوره به.

-                   ألا تظن أن هذا المشروع صعب التحقيق قليلا؟

أجاب عمي بثقة:

-       ليس هناك من مشروع صعب التحقيق عليكم.. قامت بريطانيا بمشروع أصعب من هذا بكثير: أفرغت أرضا من شعبها وحشدتها بالأغراب من أطراف المعمورة، فليس من المعقول أن تكونوا أقوى دولة على وجه الأرض وتعجزوا عن القيام بعمليّة معاكسة، وإلاّ ماذا يقول عنكم التاريخ؟

وبدا للرئيس أن المفاوضة التي جاء بشأنها يائسة مع هذا الرجل، ولكنه مع ذلك لم يفقد الأمل..

-       لنترك هذا الأمر لظروف أنسب.. المهمة العاجلة الآن هي أن ننقذ لبنان من الشيوعية، خصوصا وأن وضع الفلسطينيين في بلادكم يزيد في الضائقة الإقتصاية، ويساعد على انتشار الشيوعية، الداء الوبيل الذي يهدد العالم الحر.. عدوّتكم وعدوّتنا المشتركة، مدمّرة الأديان ومخربة النظام وسالبة الحرية. نحن لا نطلب من لبنان الكثير ، لا نريد منكم إلاّ قمع النشاطات الهدّامة في بلادكم..

لم يكن هذا الأمر يتعارض مع مفاهيم عمي فهو أرستوقراطي الطبع والميول، ولا يهضم أبدا مبادئ المساواة بين الناس.

  لا مانع عندي أبدا، فنحن نكره الأيديولوجيات الغريبة علينا، والناس بغالبيتهم في بلادنا متمسكون بعادات أسلافهم لا يريدون استبدالها . ولعلنا كنا نقوم بهذا حتى دون طلبكم..

-       أعرف ذلك، لو لم تكن عندي معلومات بأنكم تقدّرون طبيعة هذا الخطر حق قدره لما حاولت أن أتصل بكم وأضع خبرتي تحت تصرفكم .. لنبدأ معا الصفحة الأولى من تعاوننا..مكافحة الأفكار الهدّامة، فهل أنتم موافقون؟

-                     بكل سرور.

-       إنني أعرف أن مثل هذه المكافحة تكلّف مالا، وأعلم أن ميزانيتكم تنوء بأعباء مختلفة، فليس من المروءة أن نكلّفكم فوق طاقتكم.

-                     أنتم كرماء.

-                     وسنكون معك أكرم منا مع غيرك.. فأنت أكثر ذكاء وأوسع ثقافة من كثيرين من أصدقائنا.

-                     لنكن واضحين.

-                     ونحن نحب الوضوح.. لنبدأ بتقييم الخدمة الكبيرة التي تقدمها لنا..

-                     إنني أقوم بها خدمة لبلادي..

-       نعرف ذلك تمام المعرفة.. لا نشك في انك تخدم مصلحة بلادك، ولكن ما دمنا نحن أيضا ننتفع بها فلا بد أن نساهم في النفقات..

-                     هذه واجباتنا.

-       لا نريد أن يذهب مجهودكم سدى دون مقابل.. نحن نقدّر تمام التقدير المخاطر التي تتعرّضون لها، وإجهاد الفكر والأعصاب فاقبلوا منا هذه المكافأة المتواضعة..

-                     ومدّ الرئيس يده إلى جيب سترته الداخلية وأخرج منها مظروفا مختوما ناوله إياه، فقلبه بين يديه وسأل واجما:

-                     ما هذا؟

-                     ألف دولار هي لك.

-                     ألف دولار!

-                     كل شهر.. أما نفقات المكافحة فلها حساب آخر.

ولما رأى الرئيس أنه لم يتلق الهبة بلهفة وسرور أسرع إلى القول: 

-                   كنا ندفع لمن سبقك سبعمائة وخمسين دولارا..

-                     فقط! يبدو أنكم تتعاملون مع أناس يقيمون أنفسهم تقييما بخسا.

أخرج الرئيس شيكا ممضيا على بياض يمكن صرفه من مصرف سعودي تأسيسه حديث العهد..

-                   ضع الرقم الذي تختاره لهذه المهمة.

وأخذ العقيد عباد قلمه من جيب سترته الداخلية وسجّل "مليون دولار" 

قال الرئيس مبهوتا:

-                   حسنا سأستشير رؤسائي..     

-                     ماذا تظن في عملية فيها قطع رقاب؟

وأسرع الرجل الذي تكلم العربية وهو يسحب الشيك من الرئيس ويعطيه للعقيد:

-                   لا حاجة لاستشارة أحد.. نحن مفوّضون أن نبتّ في الأمر.

وتناول الشيك وتأمله مليا:

-       ما كنت أحلم أن الرشوة قد تبلغ هذا المدى، ولكن ما دمت ترشوني بها فأنت تطلب بالمقابل مني أمرا ليس في مصلحة بلدي.. وأنا رجل أتقيّد بشرفي العسكري ولا أرتشى

ومزق الشيك ووضعه على المكتب.

وفي اليوم التالي جاءه الرجل النحيل بمفرده وقال:

-       إننا فعلنا ما فعلناه تجربة لأخلاقك.. إن صداقتك تهمّنا، ونحن لا نريد أن نتعامل مع أناس لا نثق بهم، ونقع في أخطاء تورّطنا، وتفشل سياستنا..

*   *   *