والدي وريمون

 

استطعت أخيراً ان اقنع والدي باستقبال ريمون فهو ليس أكثر من استاذ تاريخ مهتم بالشرق الأوسط..

قال له والدي ضاحكاً حين استفسر عن جد والدته:

-         كانت والدتي تحدثنا ان مستشرقاً أمريكياً ترك له منزله هدية، فما كان منه الا أن أعطاه للحام مقابل اللحم الذي تنفقه عائلته عن عام، حتى يتفرغ للدرس ويستريح من عبء تأمين تلك الحاجة الضرورية.. كان وقته ثمينا لديه، وأكره ما يكره الضيوف الثقال الذين لا يستطيع الإنسان أن يتعلّم منهم شيئا، ويثرثرون طوال الوقت عن مشاغلهم الصغيرة. وقد ابتلاه الله بجار من هذا القبيل يدخل عليه دون استئذان فيصرفه عن الكتابة والإطّلاع، فصار كلما دخل عليه جمع أولاده وأخذ في سبر معلوماتهم المدرسية وإلقاء الأسئلة الصعبة عليهم ، فإذا فشلوا في الإجابة عليها انهال عليهم ضربا، فيتعالى عويلهم في أرجاء المنزل حتى يجد ذلك الغريب مقامه سمجا فينصرف عنه ويعود هو لما كان فيه ..

كنت أقوم بواجب الضيافة بنفسي ، وقد هيأت بل أوصيت على أصناف من الحلوى عربية من الحلواني الذي نتعامل معه بكل المناسبات.. قال ريمون لوالدي:

-         هذا الرجل الذي تتحدّث عنه هو أحد مؤسسي الجامعة الإميركية، ولجدّ والدتك صورة له مكبّرة عندنا في مكتبة الجامعة نعتزّ بها، وقبل مجيئي أطلت النظر إليها ، ففيها ملامح آل عبّاد، نفس العينين السوداوين الكحيلتين والحاجبين الكثيفين المقوّسين..

وجدها والدي فرصة ليقص تاريخ العائلة كما جاءت في كتب الأنساب، سنين بعيدة هم بين الفقهاء والعلماء والقضاة والمفتين .. وبعد لأي من تبادل المجاملات والحديث الخاص قال ريمون:

-         إن صحفنا تتحدث عن تسوية مقبلة للشرق الأوسط.. الشعب الأميركي لا يريد أن تتورّط هذه المنطقة في حروب يمكن أن تتطور إلى حرب نووية عالمية قد تفني الحياة على الأرض.. قال والدي:

-         ليس من إنسان عاقل يحب الحرب .. والحروب اليوم تفرض علينا ولسنا نحن الذين نشنها..

-         لستم أنتم، ولكن االفلسطينيين ربما جرّوا معاركهم إلى لبنان، وفي هذه الحال لن تبقى إسرائيل مكتوفة الأيدي تجاه المناوشات على حدودها الشمالية.. قال والدي:

-         المنظمة حصلت في القمة العربية في الرباط على قرار يعترف بحق الشعب الفلسطيني في أن يقيم سلطته الوطنية المستقلة تحت قيادتها ، واعترف بها كممثل شرعي له، وعلى هذا الأساس قبلت في الجمعية العامة للأمم المتحدة التي اعترفت بسلسلة من القرارات بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وخصوصا حق الإستقلال والسيادة الوطنية .. قال ريمون:

-         على ما أعلم أن الفلسطينيين يطالبون بدولة مستقلة في الضفة والقطاع، وهذا على ما أرجح غير مقبول من إسرائيل..

-         لا يستطيع أحد إلغاء شعب بالشكل التعسّفي الذي حدث للفلسطينيين ، ولهم الحق أن يستردّوا وطنهم بالطرق التي سلب بها منهم..

-         معنى هذا أن المعركة ستستمر بينهم وبين إسرائيل، وهذا سيهدد بالتالي لبنان لأن العمليات تنطلق من جنوبه، وهذا سيهدد مع المدى السلم العالمي .. إن الوضع المتفجر في الشرق الأوسط يخيف الشعب الأميركي، فهو لا يرغب بالتورط في فيتنام ثانية.. ولهذا نقرأ في صحفنا عن حلول لهذه القضية.. وفي المدة الأخيرة يطرح مشروع تسوية في توطين الفلسطينيين الأراضي العربية التي احتلتها إسرائيل في حرب 67 في سيناء والجولان، وتترك فلسطين لإسرائيل.. قال والدي مستاءا:

-         لن تجد أحدا في الوطن العربي يقبل بمثل هذه التسوية.نحن شعب حقود كالجمال، أبناء عم الإسرائيليين، فلا تظن أن مثل هذه التسوية لو حدثت تدوم.. وإن وجد بيننا من يرضى بها ويفضلها¸ فلن يرضى بها أبناؤنا من بعدنا، وإن وهنوا عن مقاومتها لن يرضى أبناؤهم من بعدهم.. تاريخنا فيه شواهد على هذا كثيرة.. بقي عندنا الصليبيون أكثر من مائة عام، ثم كانت معركة حطين.. إن حطين أخرى لا بد قادمة.. لا يغرّنكم أننا اليوم مجزؤون مختلفون.. كنا كذلك حينذاك، دائما نتجزأ، ودائما نختلف، ثم تتحد كلمتنا ويلتئم شملنا، ثم تكون لنا حطين أخرى.

لا حظت أن ريمون لم يكن مرتاحا لحديث والدي.. كانت جلسة فاشلة، وقال له بلهجة تنمّ عن أسف كبير:

-   إنها فرصة ذهبية لن تتكرر لاستقرار الفلسطينيين وبناء دولتهم.. وكثير من أمم العالم اليوم مستعدّة أن تمول مشروع توطين الفلسطينيين في سيناء والجولان، والأمر يحتاج فقط إلى بعد نظر الساسة العرب في أن لايفوتوا مثل هذه الفرصة..

-  بالنسبة لنا هذه خيانة، لشعب فلسطين وللأمة العربية جمعاء!..

*   *   *