غانم والمهاجر

 

حدثني الطبيب أيضاً بقصة الأراضي التي وضعوا اليد عليها، فلما جاء صاحبها ورفع دعوى عليهم وجد مقتولاً في كوخ كان ينزل فيه.. كان قد جاءني من قبل يطلب مني أن أشهد له في المحكمة فحذرته مشفقاً عليه فلقد ولد على يدي ووالده صديقي وله أياد بيضاء علي ..يسلفني في الضائقات، وساعدني على تدريس ولدي وابنتي في الخارج.. قلت له:

-                  لا تدخلني في هذا الأمر،أطلب مني أن أحمل مظلة وأتبعك حيثما تسير، أرد عنك عين الشمس اللاهبة حتى آخر حياتي ولا تطلب مني أن أشهد لك في المحكمة.. خصومك أشرار، مافيا، لا أنت ولا أنا، لا قاضي ولا وزير، لا حزب ولا رئيس يستطيع أن يكف أذاهم.. أصبنا ببلاء ما بعده بلاء.. الكل يعرفهم ويتستر عليهم ويخشاهم ويتجنب الاصطدام معهم.. يخشى رصاصة تخترق ضلوعه أو سيارة مفخخة تدمر بيته فوق عياله، أو قنبلة موقوتة ترصد جلوسه على مقعده في السيارة أو في البرلمان أو في الوزارة لتنسفه نسفاً.. السرية الشريرة مخيفة!.. الشر الذي يرتبط بمصالح بعض الناس وامتيازاتهم ورفاهيتهم هو أخطر الشرور، وأدومها عمراً وأوسعها انتشاراً.. انظر الى هذا العمران الذي حدث في القرية من المال الملوث بكل أنواع الفساد، وفي الجهة الأخرى الضحايا، الذين يقتلون والذين يسلب منهم الوطن والذين تسلب منهم اللقمة، والذين يترنحون بين الحياة والموت ضائعين مسلوبي الارادة والكرامة.. يقولون لك: كن ذا مال فالمال لا رائحة له.. ولو وصلت رائحته النتنة الى انوف الملائكة في السماء!"

نعم يا ابنتي، عبدوا المال الملوث، والمصيبة أنهم لا يدرون ما فعلوا واين يساقون! هل ترين في مرح الشبان والشابات في أعيادهم وأعراسهم وحفلات أعياد ميلادهم منكراً؟ المال الملوث بنى لهم الفيلات والمدارس وأرسلهم الى الجامعات ولقح بهم الادارات ونثرهم في كل أقطار المعمورة تجاراً وطلبة وسفراء ورجال أعمال.. بنى لهم مملكة ولكنها مملكة ذات أساس فاسد.. الذات الانسانية فيها منتقصة والخير العام منتقص.. يقولون عني فيما بينهم أني يميني، حزبي يميني.. لهم ميل لتصنيف الناس، وانني غير مرن لأنني أنتقد الفساد الغارقين فيه حتى آذانهم.. لكأنما الثورة والأخلاق لا يجتمعان وهم بدورهم ينتقدونني لأنني أتقاضى اجوراً متدنية، والشباب من الأطباء يريدون دخلاً عالياً، وبدؤوا يشككون حتى في كفاءتي، وحين يلسعهم نقدي يبتسمون ويقولون الرجل شاخ وخرف.. كم من الشبان رأى النور على يدي، وكم من من الممرضات درّبت ، وكم من الأطفال أنقذت.. أحببت هذه القرية لأنني ساهمت في بعثها إلى النور.. أمضيت فيها شبابي، وذكرياتي فيها لا تنسى.. أولادي الذين أنجبت وربيت وأرسلت بهم للدراسة في الخارج ليتعلموا كان بفضل هذه القرية وأبنائها الذين ردوا لي الجميل .. إنهم ليسوا سيئين في جبلتهم، كانوا بسطاء أسوياء، ولكن القفز إلى الأعلى، والطفرة في المفاهيم، والغاية تبرر الوسيلة جعلتهم من طينة أخرى.. فقدوا التمييز بين الخير والشر، هذا أقصى ما أستطيع القول في وصفهم.

سألني الشاب:

-       أتعرف لي محامياً أستطيع الاعتماد عليه؟

-         لي صديق محام هو من أعز أصدقائي ومن أنصعهم سمعة يسكن في بيروت، ولكنني لم أعد أزوره منذ زمن.. كلما ذهبت لزيارته في بيته يقولون لي هو في المسجد.. لم يعد يصلي أوقاته الخمسة إلا في المسجد القريب منه ويطيل الإستماع إلى الخطب الدينية. أغلب الظن أنه يرغب الاعتزال عن الناس خوف الخوض في أحاديث سياسية..

-         لعل الأمر رغبة صامتة في التحدي.

-         ربما ، ولكن النضال لا يكون هكذا.. انه فقد الرغبة حتى بالحوار مع أصدقائه.

-         اعطني اسمه وعنوانه..

-         اسمه جلال عباد.. ناصري شريف، ولكنني سمعت بأنه لم يعد يعمل بنفسه بل سلم مكتب المحاماة الى ابنته بعد أن بقي فترة طويلة لا يدق أحد بابه.. الناس تأتي بمشاكلها الى محامين ذوي نفوذ مقربين من السلطة ولا تقترب من محام معارض مهما كانت كفاءته ونزاهته..

قال لي والدك مرة "كنت أذهب الى نادي المحامين نتسلى ونتحاور في شؤون البلد، وذات يوم دفع الباب عقيد ودخل علينا.. لماذا تتجمعون؟ ولماذا تغلقون عليكم الباب؟.. منذ ذلك اليوم لم أعد أقضي أوقات فراغي في النادي.. قلت لنفسي ما أسهل ما تلصق بالإنسان تهمة المعارضة ورأيت الجامع أفضل، تؤدي واجب ربك وتشغل نفسك وتسمع ولا تتكلم"..

حاولت الاتصال بغانم لعلي استطيع بالحسنى ارجاع الأمور الى نصابها فقال لي:

-       ما عندي كذا مذا، منين طلع لي ابن ستين كلب آخر الزمان اسمه بالطابو؟ قال هذه أملاك جده وأبيه..

-         كان مسافراً

-         أراضي لا أحد يعرف من مالكها..

-         انها أراضي أوقاف.

-         الثورة في سوريا ألغت الأوقاف..وهذه الأراضي تابعة لها في الطابو..

-         لا يجوز بيع أراضي الأوقاف يا غانم.. بالرغم أنني لست رجل قانون غير أنني أعلم أن أراضي الأوقاف لا تباع الا أن تكون دخلت في الاصلاح الزراعي.. وأنت لم تشتر من الدولة..

-         أنا ما ذنبي؟ اشتريتها من الفلاح الذي كان يعمل فيها..

-         انه مستعد أن يعيد اليك ما دفعته ويستردها..

-         الدونم كان بمائة ليرة من عشرة أعوام.. اليوم بمائة ألف، قال اتنازل عنها! يروح يرفع دعوى.. أوراق الطابو ينقعها ويشرب ماءها.. في أي زمن نحن؟ في زمن الأغوات والباشوات! نحن ثورة، حزب ثورة، لنر من يكسب الدعوى.. ما راح يطلع منها شي.. بس المحامي يشلحه قميصه وسرواله.. أخبره عن لساني، ليقعد عاقلاً أفضل له.. اذا كان يشد ظهره بابن عمه النائب الشيوعي، الشيوعيون في جيبنا، والشيوعية أفلست.. ماتت ودفنت، الله يغمق لها.. ما حدا في بلدنا يكيل بكيلها.. ان كان مسنوداً له وزير في الحكومة، نحن مسنودون أكثر لنا عشرة وزراء..

-         أنا زرته، حاله بالويل، ساكن غرفة طينية بالقرية القديمة، وأملاكه أمام عينيه يبيعها المتسلطون عليها بسبائك الذهب.. يقول " ماهذا المجتمع؟ أليس فيه قانون؟ "  توسطني لمعرفتي بكل الأطراف في القرية.. لا يريد أن تصل الأمور الى المحاكم..

-         ليهاجر ان كان لا يعجبه هذا المجتمع! ما الذي يقعده هنا؟ معه شهادة كبيرة يشتغل بها في أي مكان.. نحن ليس لنا الا الأرض ونحن متمسكون بها بعد أن استصلحناها..

-         كن معقولاً يارجل.. لا تترك الجشع يعمي عينيك.. أتسمي زراعة الحشيش استصلاحاً؟ أنا كطبيب عشت في هذه البلدة حين كانت نسياً منسياً وعلمت أبناءها الأبجدية.. يمكنني أن أستنجد بمجلس الصحة العالمي وأقول لهم تعالوا انظروا أين تزرع السموم التي تفتك بجيل السباب من أبنائكم.. فحتى لو كان البيت الأبيض والأنتربول يسند ويتستر على جرائمك فانه سيضطر لإرسال لجنة للتحقيق، ولن يكون موقفك هيناً.. سيلتقطونك كالجرذ من ذيلك ويرمونك في السجن حتى تتخ وتتعفن.. يكفيك ما أحرزت من ثروة حتى الآن، فأنت ملك الشاحنات والبواخر وقصور ألف ليلة وليلة.. هل أورثك أبوك اياها؟ المرحوم والدك كان يعيش في غرفة طينية مع عياله ودجاجاته ومفرش التبغ المهرب الذي يبيعه للريجي ويتعيش منه، ولما ضاقت به السبل باع أختا لك بيع الإماء، ومذ خرجتا من داره لم يدر ما حدث لها، ولا يعرف لها خبراً.. أريد أن أسألك سؤالاً رفاقياً بالرغم أنني في سن والدك، هل الحزب هو الذي أمطر السماء في جيوبك ونفخ سراويلك؟ أنا مثلك حزبي فلماذا لا أمتلك سوى منزلي القديم في القرية، وسيارة أعطبت أكتاف رجال القرية الأوفياء لكثرة ما تتوقف ويدفشونها لي؟.. أرجع الأرض لصاحبها فهو ليس هيناً..

-         أنا ارجعها للإقطاعي مصاص الدماء؟

-         على الأقل يزرعها تفاحاً ولا يزرعها حشيشاً! جاءني الرجل ورجاني أن أشهد له في المحكمة، وأنا لا أحب دخول المحاكم لا مداناً ولا شاهداً، ولكن والده له دين في عنقي وجميل لا أنساه وأنا رجل محب بطبعي للإنصاف.. قلت له أتحدث معك وأنهي المشكلة فلا يتسع الخرق في حزبنا، فلا تنس أن فيه رجالاً لا يرضون بما يجري من تجاوزات.. وهذه القضية لو وصلت للمحاكم فانها تسيء لسمعة قريبك الوزير الذي أساء استخدام نفوذه ووضع يده على أراض للأوقاف، وتسيء لأسماء نظيفة شاركت عن غفلة وخرجت من اللعبة لصالحك دون غنيمة، وأصحابها لا يقاضونك حتى لا تتجرجر اسماؤهم وتتلوث في المحاكم.. أما هذا الرجل فهو قوي بحقه، وليس متورطاً بما يدينه، ويائس حتى الموت، ومستعد لركوب المخاطر وفضح الجميع..

كان نتيجة حديثي معه أن وجد الرجل مقتولاً في كوخه!

*   *   *